من الفأل الطيّب أن تتزامن بداية العام الدراسي الجديد مع أجواء العيد ومشاعر الحج، وبهذه المناسبة نقدّم كل التهاني والأماني العطرة إلى أعزّائنا الطلبة من البنين والبنات، وهي مناسبة كذلك لتقديم النصح والتذكير ببعض الأمور المهمة، وهذا من حق كل طالب على أساتذته ومعلّميه.

يدخل الطالب هذه الأيام في أي مرحلة من مراحل دراسته، ليرى أمامه أصنافاً من الطلاب مختلفي المشارب والرؤى والتوجهات، وهنا تبرز شخصية الطالب في خياراته وقراراته، وهي النقطة المؤثرة أكثر في حياته ومستقبله.

هنا قد تجد الطالبَ المتميّز المتفائل الذي يعرف ماذا يريد ولماذا هو موجود هنا في هذه الأجواء المشحونة بالتكاليف والواجبات والتركيز والمنافسة، وتجد الطالب المتذمّر من كل شيء، المتذمّر من الأستاذ، والإدارة، والكتاب، وحتى من الكرسيّ الذي يجلس عليه.

عزيزي الطالب إن هذه الأيام التي تقضيها هنا هي عصارة عمرك، فاسمعها من ناصح، أما أولئك الذين تراهم لا يحسنون إلا التذمّر والشكوى، فهؤلاء في الحقيقة يبحثون عن أي شيء لتعليق فشلهم الداخلي، وتهرّبهم من تحمّل مسؤوليتهم. مع أننا نعترف بوجود التقصير البشري في كل مؤسساتنا التربوية والتعليمية وفي كل مراحلنا الدراسية، لكنّ هذا لا يسوّغ بحال أن ينحر الطالب شبابه، ويقضي على مستقبل حياته، فهو بهذا السلوك لا يضر إلا نفسه، ولو أنه اختار الطريق الثاني لضمن الخير لنفسه، ولَكان أقدر على تطوير مؤسسته، ومعالجة نقصها أو أخطائها. لقد صار من المألوف في الحياة الطلابية أن ترى هذين المشهدين المتكررين، طالب يشق طريقه للحياة بثقة وتفاؤل ونجاح مهما كانت المعوّقات، وآخر يخسر حياته ويخسر مستقبله، حتى تتمنى لو أنه كان قد اختار حرفة أو صنعة يخدم بها مجتمعه، ويضمن من خلالها قوت عياله، فهذا خير له من أن يتحوّل إلى نموذج مثبّط ومخذّل، ليقنع أقرباءَه وأصدقاءَه بأن «الدراسة ما فيها فايدة»!

بعد هذا ينبغي عليك أن تعلم عزيزي الطالب أن الفريق الناجح كذلك ليس على مرتبة واحدة، ولا بمستويات متشابهة، فهناك تجد المجد المثابر الذي ينظر إلى التعليم أو التعلّم بمنظار الشهادة والوظيفة، فتراه يقرأ في الامتحانات، ويسهر الليل، ويقطع اتصالاته بأصدقائه، لكي يثبّت المعلومة الصحيحة في ورقة الامتحان قبل أن «تتبخّر» ويطويها النسيان، لكنّك تراه في وظيفته بعد التخرّج فاشلاً رغم نجاحه، ومقصراً رغم اجتهاده، لأن نجاحه كان في ورقة الامتحان فقط، واجتهاده كان ليوم الامتحان فقط، إنه لا يستطيع أن ينتج، ولا أن يبدع، ولا أن يطوّر من إمكانيّاته وكفاءاته، وهذه ظاهرة شائعة، وإليها ترجع حالة التخلف والتقهقر في بلادنا العربية عن مواكبة ماكنة العلم، وحركة التصنيع التي تتنافس فيها الدول الأخرى.

إن النجاح الذي نحبّه لك ونحبّك له هو ذلك النجاح الذي يجعل كل تلك المعلومات التي حصّلتها في كل تلك السنين جزءاً من شخصيتك، وركناً في تكوينك الذاتي، في عملية بناء متكامل ومترابط، كل معلومة تشتدّ بأختها، وكل مرحلة تؤسّس لما بعدها، بذاكرة حافظة، وروح ناقدة، ورغبة مستمرة في البحث، فهذا هو الطريق الحق لبناء الإنسان والأوطان.

التعليم بمراحله المختلفة وسنواته الطويلة هو الذي يصوغ شخصية الطالب، ويصوغ من ثم هوية المجتمع ونمط حياته وتفكيره. وعليه، فلا بد من إعطاء التعليم الأهمية القصوى من الطالب نفسه ومن أسرته ومجتمعه، ومن الدولة كذلك بكل وزاراتها ومؤسساتها، وأن يشترك الجميع في صياغة الخريج أو الموظف أو المثقف الفاعل في المجتمع؛ فمخرجات التعليم لا تخص وزارة أو مؤسسة أو فئة ما دون غيرها.

إنه لمن الخطأ الفادح أن تكون الأسرة -وهي المحضن التربوي الأول- منعزلة عن المدرسة؛ فلا يطّلع الأب مثلاً على المعلومات التي تغذّي أولاده وتكوّن شخصيتهم، ومن الخطأ أيضاً أن يكون التعليم في المدرسة منفصلاً عن التعليم في الجامعة، بحيث إننا في الجامعة لا ندري ما المستوى الحقيقي الذي وصل إليه الطالب وما استعداداته الأولية، وكذلك من الخطأ أن تكون خطبة الجمعة منعزلة عن منهج التدريس في المدرسة والجامعة، وأن تغرّد وسائل الإعلام في فضاء آخر بعيداً عن الجامع والجامعة!

نعم ليس المطلوب أن تكون هذه المؤسسات نسخاً متشابهة، ولا أن تكون على نمط واحد في التوجيه أو التثقيف أو الإعداد، لكنه لا بد من الاتفاق على الثوابت المشتركة والصورة الكلية للمجتمع ومنظومته الثقافية والأخلاقية الجامعة.

الطالب هنا -وهو محور العملية التعليمية- تقع عليه مسؤولية كبيرة؛ فهو إذ يتلقى كل هذه المعلومات الهائلة والمتشابكة والمختلفة بحسب اختلاف مصادرها، لا بد أن يبني منهجه الذاتي في التلقي، وإلا سيجد نفسه حائراً مضطرباً، أو يجد نفسه مقلّداً لغيره دون وعي ودون بصيرة.

أقول لطلابي دائماً: حينما تسمعون مني معلومة، لا تسلّموا لها، بل قارنوها بما عندكم من معلومات سابقة اكتسبتموها من أستاذ آخر أو خطيب جمعة أو مقالة صحافية، ثم لا تتحرّجوا من السؤال والاعتراض، فربما أتراجع أنا، وربما يتراجع أستاذك الأسبق، وربما نكتشف معاً بالبحث والحوار أن هناك معلومة ثالثة تجمع بين المعلومتين أو ترفعهما معاً، وإن مفتاح هذا كله الطالب؛ إذ هو الذي يسمع من هذا الأستاذ ومن ذاك؛ فلو سكت لحُرمنا جميعاً من هذا الخير.

الأمر الآخر الذي يُستحسن الوقوف عنده، أن احترام التخصص مطلوب جداً، وأن واجب الطالب أن يتقن التخصص الذي اختاره، هذا صحيح. لكنك يا عزيزي الطالب أنت أولاً وأخيراً إنسان لك هويتك ولك شخصيتك، ولك انتماؤك وولاؤك، ودائرة تأثّرك وتأثيرك أوسع من محل وظيفتك، ولا يمكن لك أن تعيش حياتك كلها من خلال تخصصك فقط، أولادك سيطرحون عليك أسئلة كثيرة، لا ينفع أن تقول لهم: هذه ليست من تخصصي، ستواجه في مجتمعك الصغير والكبير مشاكل وخلافات ونقاشات مختلفة، فلا بد أن تشارك بشيء، خاصة إذا تطلّب الأمر موقفاً أو قراراً ما؛ فاحترام التخصص لا يعني أن تكون بلا هوية وبلا انتماء، ولا يعني أنك تعيش بعزلة وسلبية تجاه المجالات الأخرى.

من هنا ندرك ماذا يعني إلزام الجامعة لكل طلابها -وبكل تخصصاتهم- بالمقررات المشتركة، والتي تُسمّى «المتطلبات العامة»، هذه المقررات التي تُعدّ بمثابة الجسر واللغة المشتركة بين كل الطلاب، بل وبين المجتمع كله.