هل يُمكن أن يكون الحب داءً ودواءً في آنٍ معًا؟ الحبُّ قوة جبّارة تقلب كيان الإنسان رأسًا على عقب؛ تجمع بين اللذة والألم، بين السعادة والحسرة، لتضع صاحبها في مأزق نفسي لا يخلو من التحديات. كيف يُمكن أن يعمي الحبُّ الأبصار عن العيوب، ويغلق الآذان عن النقد، بل يُفقد صاحبه السيطرة على نفسه ومصيره؟
عندما يصبح العشق اختبارًا للإرادة: يصف العلماء والمفكرون الحب بأنه حالة اضطرارية حينًا، واختيارية أحيانًا، إذ يضع الإنسان في مواجهة صراع داخلي بين العقل والعاطفة، بين المسموح والممنوع. كما أن له جذورًا في أفعال اختيارية، كالنظرة والتفكير، التي تُغذي هذه العاطفة وتمنحها السيطرة الكاملة على القلب.
لماذا يستحق العشق وقفة تأمل؟ العشق ليس مجرد شعور؛ إنه اختبار للنفس البشرية. من يصمد أمام أهواء قلبه يكسب رضا الله وسلامه الداخلي. ومن يستسلم، قد يخسر حياته الدنيوية وربما الأخروية. إلا أن العاقل يدرك أن في العفة والتعفف عوضًا ربانيًا وسكينة تتجاوز لذائذ العشق الزائلة.
ماذا بعد؟ اجعل الحب قوة إيجابية في حياتك! اعمل على تقوية إرادتك، ووجه مشاعرك نحو الأهداف النبيلة، وتذكر دائمًا أن غض البصر، والتحصين بالزواج، والانشغال بالعمل والعبادة، كلها خطوات تحميك من سطوة العشق المدمّر. ليكن الله ملاذك وسندك، فإن من استعفّ أعفّه الله.
ابدأ الآن: تأمل رحلتك العاطفية، واسأل نفسك كيف يمكنك تحويل العشق من داءٍ إلى دواءٍ يقودك إلى سلام النفس وسلامة القلب.
العشق: الداء والدواء بين القلب والعقل
في صدر الإنسان قلب يحب ويكره ويغرق في الحب حتى لا يرى عيبا واضحا للعيان ولا يسمع ذما مهما كان صادقا وحقيقيا ، وهذه أحد العيوب القاتلة لشخصية المحب ، وإذا اتفقنا أن عواطف الإنسان جزء من كيانه وأن عليه أن يحسن التعامل معها حتى لا يستعبده الهوى ويفسد عليه حياته ،فإن علينا أن نؤكد على نقطة في غاية الأهمية وهي أنه ينبغي التفريق التام بين الهوى القلبي الذي يكاد يتلف صاحبه وبين ما ينتج عن هذا الهوى أو الهوس بالمعشوق من نظر وكلام ووعد ولقاء وما بعد ذلك ، مما يستنكره أصحاب الأخلاق الطاهرة وأهل العفة والمروءة ويرضي من يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا.
وقد تناول العلماء موضوع العشق في كتب مفردة وضمن بحوثهم ومنهم ابن حزم في كتابه طوق الحمامة، قال رحمه الله في وصفه:«الحب – أعزك الله – داء عياء وفيه الدواء منه على قدر المعاناة ، وسقام مستلذ وعلة مشتهاة لا يود سليهما البرء ولا يتمنى عليلها الإفاقة؛ يزين للمرء ما كان يأنف منه، ويسهل عليه ما كان يصعب عنده حتى يحيل الطبائع المركبة والجبلة المخلوقة» إذٍ هو تحول عنيف في حياة الإنسان يختلط فيه الألم باللذة والوحشة بالأنس ومع ما فيه من مرارة إلا أن من دخل فيه لا يود أن يخرج منه وقال عنه الإمام ابن القيم في «روضة المحبين ونزهة المشتاقين» «هو بلاء الصالحين ومحنة العابدين وهو ميزان العقول وجلاء الأذهان»
و ساق رحمه الله أثناء حديثه عن العشق في روضة المحبين أبيات شعرية و أقوال للعشاق و لأهل العلم تكشف عن الطبيعة الإنسانية في حالة من حالات ضعفها الشديد.
طرح الإمام ابن القيم رحمه الله سؤالا ، هل العشق أمر اضطراري وعلى ذلك لا يمكن أن نتخلص منه؟ أو أنه أمر يقع فيه الإنسان باختياره وعلى ذلك يجب أن نحمي أنفسنا من الانزلاق إلى حيث لا يساعدنا أحد، وإذا حدث ووقعنا كيف ننجو من براثنه؟؟ فنقل قول من جعل العشق أحد الأمور التي لا طاقة للعبد بها ، ونقل حديث حب مغيث لبريرة[1] وتتبعه لها وشدة بكائه على طلاقها وعلق عليه بقوله:” ولم ينهه [النبي ﷺ] عن عشقها في هذه الحال إذ ذلك شيء لا يملك ولا يدخل تحت الاختيار”.
ثم انتقل الإمام ابن القيم إلى استعراض الرأي القائل بأن العشق أمر اختياري “تابع لهوى النفس وإرادتها بل هو استحكام الهوى الذي مدح الله من نهى عنه نفسه فقال تعالى {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فإن الجنة هي المأوى} فمحال أن ينهى الإنسان نفسه عما لا يدخل تحت قدرته”.وقال “المحبة إرادة قوية والعبد يحمد ويذم على إرادته ولهذا يحمد مريد الخير وإن لم يفعله ويذم مريد الشر وإن لم يفعله”.
ثم توصل الإمام ابن القيم إلى أن أسباب العشق من النظر والتفكر فيمن نظر إليه ومواصلة الفكر كل ذلك أمر اختياري أما ما ينتج عن ذلك من أعراض العشق وآثاره على البدن والروح والعقل والقلب فهو اضطراري.
وفي وصف خطوات الإنسان نحو العشق وكيف يغرق في بحاره دون أن يشعر وعندما يدرك ما وصل إليه لا يستطيع التحرر من قيوده ، قال ابْن نحريز الْبَغْدَادِيُّ:
تَوَلَّعَ بِالْعِشْقِ حَتَّى عَشِقَ … فَلَمَّا اسْتَقَلَّ بِهِ لَمْ يُطِقْ
رَأَى لُجَّةً ظَنَّهَا مَوْجَةً … فَلَمَّا تمكن منا غرق
وَلما رأى أدمعا تستهل … وَأَبْصَرَ أَحْشَاءَهُ تَحْتَرِقْ
تَمَنَّى الإِفَاقَةَ مِنْ سُكْرِهِ … فَلَمْ يَسْتَطِعْهَا وَلَمْ يَسْتَفِقْ»[2]
والسكر بالعشق كالسكر بالخمر بل هو أشد فقبل شرب الخمر يدرك الإنسان ما حوله ويختار التصرف المناسب ، ولا يزال يتناول جرعة جرعة حتى يفقد إدراكه واختياره ونفسه ويقع في أخطاء يلومه عليها الشرع والعرف ويحاسبه عليها القانون، فالسكران هو الذي سعى لكي يغيب عقله، والعاشق هو الذي ضيع قلبه.
ويلتمس الإمام ابن القيم العذر لبعض العاشقين فيقول :” إذا حصل العشق بسبب غير محظور لم يُلم عليه صاحبه ؛كمن كان يعشق امرأته أو جاريته ثم فارقها وبقي عشقها غير مفارق له فهذا لا يلام على ذلك كما في قصة بريرة ومغيث ، وكذلك إذا نظر نظرة فجاءة ثم صرف بصره وقد تمكن العشق من قلبه بغير اختياره ، على أن عليه مدافعته وصرفه عن قلبه بضده فإذا جاء أمر يغلبه فهناك لا يلام بعد بذل الجهد في دفعه “
تحرر من قيود العشق
هذه بعض الأفكار التي استقيتها من النصوص الشرعية والتجارب الإنسانية أسوقها هنا لعل الله تعالى ينفع بها من أصابه العشق:
- في داخل الإنسان صراع طويل قوي بين المسموح والممنوع وما يتمناه الإنسان وما يعجز عن الوصول إليه ، ولا يزال المسلم يعبد ربه حتى يأتيه اليقين ، ومن أعظم ألوان العبادة جهاد النفس الأمارة بالسوء ومن يستعفف يعفه الله ومن يتصبر يصبره الله.
- سيبقى الهوى موجودا لكن صاحبه يطوعه لما يسمح به الشرع سيبقى الهوى يدفعنا للهاوية ، ولكننا لنكون ممن قال الله تعالى فيهم: ﴿وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ﴾ [ق: 31-35]
- يدخل الإنسان إلى هذه الدنيا ويخرج منها وفي قلبه أمنيات كثيرة لم تتحقق ، يحزن ويتأثر لكن العاقل يدرك أن هذه الدنيا دار نقص وأن الآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا ، ومعنى هذا أننا إذا لم نصل لبعض ما نتمنى نوقن أن اختيار الله تعالى في العطاء والمنع خير لنا وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون.
- من ترك شيئا لله عوضه الله خيرا منه ، وعند الله تعالى خير كثير وعوض كبير في الدنيا وفي الآخرة.
- كثير من التجارب الإنسانية تشير إلى أن بعض العاشقين عندما التقوا وتمكن كل منهم من صاحبه زَهِده بعد مدة قصيرة أو طويلة، بل انكشف له من صفات محبوبه التي يكرهها ما لم يكن رأى فحبك الشيء يعمي ويصم ، وهذه تحقيق لمقولة: الحب الفقد.
- الناس تتساهل في النظرة والكلمة والمحادثة التي تبدأ بريئة عبر وسائل التواصل ثم يتم تبادل كلمات الثناء والإعجاب حتى يفتح في القلب ثغرات يتسرب منها الإيمان والعفة ، ويغيب معها استشعار الإنسان لمراقبة الله عز وجل والملائكة الحافظين «عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ أَخْبِرُونِي لَوْ كَانَ مَعَكُمْ مَنْ يَرْفَعُ الْحَدِيثَ إِلَى السُّلْطَانِ أَكُنْتُمْ تَتَكَلَّمُونَ بِشَيْءٍ؟؟ قَالُوا: لَا ،قَالَ: فَإِنَّ مَعَكُمْ مَنْ يَرْفَعُ الْحَدِيثَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ»[3]
- الناس يتساهلون في الخلوة بالنساء التي لا يحل الخلوة بهن من زميلة أو من يتعامل معهن من النساء ، وكل تصرف يترك بصمته على القلب ولاتزال هذه البصمات تتكاثر حتى تطبع القلب بطابعها فلا يرى ولا يسمع إلا صوت من يعشقه ، والناس تثق في قدرتها على الامتناع عن الخطأ وإيقاف النفس والآخر عند الحد لكن هؤلاء يتجاهلون ميل كل جنس إلى الجنس الآخر، قَالَ الْبُحْتُرِيُّ:
وَلَقَدْ قَالَ طَبِيبِي … وَطَبِيبِي ذُو احْتِيَالِ
أُشْكُ مَا شِئْتَ سِوَى الْحُبِّ … فَإِنِّي لَا أُبَالِي
سَقَمُ الْحُبِّ رَخِيصٌ … وَدَوَاءُ الْحُبِّ غَالِي
فَإِنْ قِيلَ فَما عِلاجُ الْعِشْقِ إِذَا وَقَعَ بِأَوَّلِ لَمْحَةٍ قِيلَ عِلاجُهُ الإِعْرَاضُ عَنِ النَّظَرِ فَإِنَّ النَّظَرَ مِثْلُ الْحَبَّةِ تُلْقَى فِي الأَرْضِ فَإِذَا لَمْ يُلْتَفَتْ إِلَيْهَا يَبِسَتْ وَإِنْ سُقِيَتْ نَبَتَتْ فَكَذَلِكَ النَّظْرَةُ إِذَا أُلْحِقَتْ بِمِثْلِهَا»[4]
- لكن الدنيا مليئة بمن تقول هيت لك في الشارع وفي وسائل الإعلام ومقاطع الهاتف وإذا غضضت بصرك وجدت من يقتحم عليك خلوتك ها هنا نتذكر قوله ﷺ: “يَأْتِي على النَّاسِ زَمَانٌ، الصَّابِرُ فِيهمْ على دِينه كالقابضِ على الجَمْرِ”[5] ، وإلى من يتصورون النظر إلى المعشوق بملء العين سيريح القلب إليكم قول ابن الرُّومِيِّ:
نَعِمَتْ بِهَا عَيْنِي فَطَالَ عَذَابُهَا … وَلَكَمْ عَذَابٌ قَدْ جَنَاهُ نَعِيمُ
نَظَرَتْ فَأَقْصَدَتِ الْفُؤَادَ بِسَهْمِهَا … ثُمَّ انْثَنَتْ نَحْوِي فَكِدْتُ أَهِيمُ
وَيْلاهُ إِنْ نَظَرَتْ وَإِنْ هِيَ أَعْرَضَتْ … وَقْعُ السِّهَامِ وَنَزْعُهُنَّ أَلِيمُ»[6]
- غض البصر هو أحد الخطوات التي نسير فيها نحو العفاف وهناك خطوة مهمة تعني المجتمع وأهل الخير وهي الزواج وتيسيره ، وهذا من الخير الذي يحصن الأفراد والمجتمعات من كثير من الشرور الأخلاقية والاجتماعية، ونحن لا نتحدث هنا عن مجرد التقاء ذكر وأنثى في إطار شرعي لكنه أحد الأبواب التي جعلها الله تعالى سببا لتحقيق السكينة ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا ﴾ [الروم: 21] وليس لتسكنوا معها ، هذا هو الزواج الصحيح الذي يؤدي إلى العفة، ولعلنا نتعرض في مقال لاحق إلى الحديث عن المودة والرحمة بين الزوجين.
- الذي يحمل النفس على تواصل العشق هو الأمل في الظفر بالمحبوب فإذا يأس من نيله وانقطع رجاؤه استراح ، وقد قيل : اليأس أحد الراحتين.
- نفسك إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل وقد دلت التجارب على أن الأهداف السامية التي تشغل كيان الإنسان في يقظته ومنامه لا تترك له فرصة لشيء ؛ لا من حظ نفسه بل ولا من حاجاته الأصلية التي تتضرر حياته كثيرا بتركها ، ومع ذلك يحمله التفكير في الهدف على مواصلة التخطيط والسعي والتجربة حتى يصل لأهدافه.
- ومع كل ما قدمناه تقتحم خواطر العشق قلب المشغول فيتمكن من دفعها أو يعجز ، ولا يزال يعاني حتى يجتمع بمعشوقه أو يقضي عليه الألم ويفسد عليه حياته ، أو يصرفه الله تعالى عنه بصدق الدعاء لله عز وجل وحسن الظن به سبحانه وباليقين بأن ما عند الله خير وأبقى وإمامنا في ذلك يوسف عليه السلام الذي قال ﴿وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [يوسف: 33-34]
- عندما نرى من أهانهم العشق علينا أن نخاف على أنفسنا من الوقوع فيما وقعوا فيه ،فلولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا ونحمده تعالى على العافية ونسأله سبحانه أن يلطف بهؤلاء الذين أرهقهم التعلق بالمحبوب حتى أضاع عليهم فرصا عظيمة في الدين والدنيا.