العفو عند المقدرة في الإسلام من أرقى الأخلاق وأرفعها وتظهر الجمال المصاحب لأخلاق الإيمان وعلو كعب صاحب العفو وقوة إيمانه ، فالعفو والتسامح سمتان هامتان من سمات المؤمن القوي ودلالة على نبل أخلاقه، وفيه استجابة لأمر الله عز وجل الذي أمرنا بالصفح والمغفرة.
وللعفو عند المقدرة أهمية كبيرة وأثر عظيم، حيث يقول تعالى: { فاصفح الصفح الجميل} (الحجر :85) فالصفح والعفو والتسامح صفات هامة جدا لكل أفراد الأسرة المسلمة، وقد كثرت الآيات والأحاديث في مدح هذه الصفة التي ترتبط بقوة المسلم وليس بضعفه كما يعتقد البعض.
وتحثنا أيات كتاب الله وسنة نبيه الكريم على هذه الصفة الحميدة، قال تعالى: { وَالكَاظِمِينَ الغَيْظَ وَالعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ } ( آل عمران: 134) .
وقال تعالى: {وَإنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ” ( التغابن :14). فالعفو عند المقدرة من مبادئ الأخلاق الكريمة التي يدعو إليها الإسلام، بل هي أعظمها شأناً لأن العفو من شيم الرجال الكرام حيث يقول تعالى: {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين} (الأعراف: 199)، ويقول سبحانه: { وأن تعفوا أقرب للتقوى ولا تنسوا الفضل بينكم } (البقرة:237).
وقال عز وجل : {وَلَا تَسْتَوِي الحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} (فصِّلت 35:34)
والعفو عند المقدرة هي شيمة من شيم الأنبياء فهذا يوسف عليه السلام عفا عن إخوته الذين رموه في البئر وأبعدوه عن أبيه { قَال لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } [يوسف: 92]
ولنا في نبينا محمد ﷺ أسوة حسنة، فقد صفح عن قريش عندما مكنه الله منهم فعن عن جرير بن عبد الله، عن النبي ﷺ قال: ” الطلقاء من قريش، والعتقاء من ثقيف بعضهم أولياء بعض في الدنيا والآخرة، والمهاجرون والأنصار بعضهم أولياء بعض في الدنيا والآخرة” (إسناده صحيح يشرط مسلم ) فالطلقاء من قريش: هم الذين خلى عنهم رسول الله ﷺ يوم فتح مكة وأطلقهم، فلم يسترقهم، ومفرده طليق وهو الأسير إذا أطلق سبيله.
وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: لقيت رسول الله ﷺ فابتدأته: فأخذت بيده فقلت: يا رسول الله، أخبرني بفواصل الأعمال. فقال: “يا عقبة صل من قطعك واعط من حرمك واعرض عمن ظلمك” (مسند أحمد)
ما المقصود بالعفو عند المقدرة؟
العفو هو التجاوز عن الذنب ويكون عندما يتم ترك العقاب عليه مع المقدرة، فإن من الأخلاق العظيمة التي تعز صاحبها هي العفو عند المقدرة، أي العفو عن المسيء في حال القدرة على معاقبته، فإذا كانت المعاقبة هي جوهر العدل بينما العفو يكون قمة الفضل، وإن هذا الخلق الكريم هو الذي حث عليه القرآن الكريم فقال تعالى : {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ}(الحجر:85).
والعفو لغة: مصدر عَفَا يَعْفُو عَفْوًا، فهو عافٍ وعَفُوٌّ، والعَفْوُ هو التجاوز عن الذنب وترك العقاب عليه، وأصله المـحو والطمس، وعفوتُ عن الحق أي أسقطته، كأنك محوته عن الذي عليه. وقال الخليل بن أحمد الفراهيدي: “وكلُّ مَن استحقَّ عُقوبةً فتركْتَه فقد عفوتَ عنه”.
والصفح أعلى درجة من العفو والمسامحة. الغُفْرَان أو المَغْفِرَة: هو إسقاط العقوبة والمؤاخذة ولكنه يزيد عن الصفح بأن الغفران يوجب الثواب للمغفور له وثوابه بأن يستر أو يخفى ذنبه.
أما المعنى الكنائي الوارد في مقولة العفو عند المقدرة من شيم الكرام لأن هؤلاء هم الذين بلغوا حد اليقين في فهم الحياة ومعرفة طرقها وابتلاءاتها . وهو مؤشر على سمو القيمة الإنسانية العليا التي ينبغي أن نتحلى بها عند قدرتنا على ظلم الآخرين . فمن يخطئ ويعترف بخطئه، فإنه يستحق أن ينال المغفرة والصفح عنه.
دروس وعبر في العفو عند المقدرة
هناك قصص كثيرة عن العفو وهي الصفة التي اتصف بها الأنبياء والكثير من السلف الصالح باعتبارهم القدوة الصالحة والأسوة الحسنة لجميع الناس الذين اقتدوا بهم فيما بعد وتمثلوا بسيرتهم الجليلة، التي نوّرت صفحات التاريخ الانساني..وهذه بعض القصص والدروس والعبر:
- في العام الثامن للهجرة، عاد النبي ﷺ إلى مكة رفقة جيش عظيم لفتحها. وذلك بعد كل الظلم والتعسف الذي تعرض له من أهل قريش، والحرب التي شنوها ضد دين الإسلام. ومع ذلك، عفا ﷺ عنهم بعد فتح مكة ولربما كان الهدف الرئيس من عفوه ﷺ أن يرسم في خيالنا أنواع الظلم والأذى الذي تعرض له أنقى الناس وأطهرهم، لنتفاجأ برد فعله المتسامح اتجاههم. وسبب ذلك ليس فقط كونه نبيا، بل إن الرسالة أعمق وأكبر كونه قدوة.
- نبي الله يوسف عليه السلام الذي عفى عن إخوته الذين حاولوا أن يقتلوه ورموه في البئر، وعملوا على تفرقته وإبعاده عن أبيه وهو صغيراً، فعفا عنهم عند القدرة على الانتقام منها، قَال سبحانه وتَعَالَى عن يوسف عليه السلام أنه قال: “قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ”(يوسف:92).
- أن النبي ﷺ نائمًا في ظل شجرة، فإذا برجل من الكفار يهجم عليه وهو ماسك بسيفه ويوقظه، ويقول: يا محمد، من يمنعك مني. فيقول الرسول ﷺ بكل ثبات وهدوء: (الله)، فاضطرب الرجل وارتجف، وسقط السيف من يده، فأمسك النبي ﷺ السيف، وقال للرجل: (ومن يمنعك مني؟)، فقال الرجل: كن خير آخذ. فعفا النبي ﷺ عنه. (متفق عليه).
- في يوم من الأيام أراد معن بن زائدة أن يقتل مجموعة من الأسرى كان قد أسرهم في أحد المعارك فقال له أحدهم: نحن أسراك وبنا جوع وعطش فلا تجمع علينا الجوع والعطش والقتل، فقال مُعَن: أطعموهم واسقوهم. فلما أكلوا وشربوا، قال أحدهم: لقد أكلنا وشربنا، فأصبحنا مثل ضيوفك، فماذا تفعل بضيوفك؟، فقال لهم: قد عفوتُ عنكم.
- قال أبو ذر رضي الله عنه لغلامِه: “لِمَ أرسلتَ الشاة على عَلف الفرَس؟”، قال: أردتُ أن أَغِيظك، قال: “لأجمعن مع الغيظ أجرًا؛ أنت حرٌّ لوجه الله تعالى”.
- سبَّ رجلٌ أبا هريرة، فلمَّا انتهى قال له أبو هريرة رضي الله عنه: “انتهيتَ، قال الرجل: نعم، وإن أردتَ أن أزيدك زِدتُك، فقال أبو هريرة: يا جارية، ائتني، فسكن الرَّجل، وقال في نفسه: بماذا سيأمرها؟ فقال: أبو هريرة ائتني بوضوءٍ، فتوضأ أبو هريرة وتوجَّه إلى القِبلة، فقال: اللهم إنَّ عبدك هذا سبني، وقال عنِّي ما لم أعلمه من نفسي، اللهمَّ إن كان عبدك هذا صادقًا فيما قال عنِّي، اللهم فاغفر لي، اللهم إن كان عبدك هذا كاذبًا فيما قال عنِّي، اللهم فاغفر له، فانكبَّ الرجل على رأس أبي هريرة رضي الله عنه يُقبلها.
فوائد العفو عند المقدرة
- شرع الله سبحانه وتعالى القصاص في الجنايات ولكنه فضل العفو على القصاص لمَ له من فوائد عظيمة تعود للفرد وعلى المجتمع وتتمثل هذه الفوائد فيما يلي:
- العفو فيه إصلاح أما القصاص فلا يكون فيه عفو ولا إصلاح
- إن العافين لهم أجر عظيم عند الله جل وعلا وهو وعد عظيم يجدونه في الآخرة خير مما كانوا يحصلون عليه في الدنيا.
- العفو عند المقدرة فيه العزة والشرف للعافين.
- العفو عند المقدرة يتجلى فيه الدفع بالتي هي أحسن، وهو من الأمور الهامة التي تعمل على إزالة العداوة من المعتدي حتى يستحي من نفسه على ما فعله ويصير صديقاً حميماً لمن آذاه.
- العفو عند المقدرة يكسب الفرد نعمة أن يعفو الله عنه لأنه قد عفا عن إخوانه المسلمين.
- العفو عند المقدرة يكون نابعا من الإيمان الداخلي الموجود عند المؤمن فهو إيمان راسخ بعيدا عن الظلم والشرك وظلم المرء لنفسه، فهذا العفو النابع من الإيمان يدفع بالناس إلى المحبة فيما بينهم، بدل أن يتشاغلوا بينهم ويتربص كل واحد منهم للآخر حتى لا يغدوا لقمة سائغة لأعدائهم.
- العبد الذي يتصف بصفة العفو عند المقدرة يكون قد امتثل بأوامر الله سبحانه وتعالى.
- من تقلد بصفة العفو يكون قد اتصف بصفات أصحاب الجنة التي عرضها السموات والأرض.
- من يتصف بالعفو يكون صبوراً وحليماً ويتقلد منصب القدوة للناس ويستحق أن يكون قائداً بسبب حلمه وصبره، فالعفو يكسبه رحابة الصدر والسريرة وتبتعد نفسه عن الحقد والعقد النفسية والبعضاء للآخرين.
- في العفو رحمة بالمسيء وتقديرا لجانب ضعفه البشري بالإضافة إلى امتثال العبد لأوامر الله.
- العفو يساهم بتوثيق الروابط الاجتماعية التي تكون معرضة دائماً إلى الوهن والضعف بسبب الانفصال والانفصام والذي يكون ناتجاً عن سوء المعاملة لبعضهم البعض وجناية بعضهم على بعض.
- العفو يكون سببا للتقوى، قال تعالى: وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُم .
- في العفو السكينة والطمأنينة النفسية. فبالعفو يتصدر العبد المنزلة الرفيعة والمحبة عند الله سبحانه وتعالى وعند الناس.
- العفو عند المقدرة من شيم الكرام وهي صفة من الصفات الهامة لأنها من شيم الأنبياء والرسل.
بين الضعف والانكسار والعفو عند المقدرة
يعتقد الكثير من الناس أن التسامح هو نوع من الضعف والانكسار بظنهم أن عدم تلقين الآخر درسا قد يجعله يتطاول عليهم فيعيد الكرة ما أن تسمح له الفرصة. لكن الحقيقة أن تسامح الآخر معناه أن تقدر ظرفه، أن تلتمس له الأعذار، أن تعي أن الآخر لم يكن أبدا عدوا لك لأن عدوك الحقيقي هو السوء الذي يقر في نفسك. التسامح معناه أن تضع حدا للسوء، على الأقل من ناحيتك، أن تركز تفكيرك على الأمور التي تعنيك حقا عوض الانشغال بمراجعة الأحداث وإشعال نار الغضب والفتنة والانتقام بداخلك. وبهذا يكون التسامح طريقة لمداراة الألم وأسلوبا لمعالجة الغضب ووضع حد للثأر والأكثر من ذلك أنه نوع من النضج الفكري الذي به تتغير نظرة الإنسان للحياة. وبهذا ينتقل التفكير من مجابهة الخلق، إلى إرضاء الخالق.
بين الاقتصاص والعفو
لا شك أن النفوس تضعف عند بسط الانتقام بسبب غليان الغضب بين حنايا الصدور، ومع تصاعد أحاديث المجالس والمقاهي ورسائل الهواتف يتصاعد دخان نار الانتقام والثأر، وفي هذا الوقت يظهر المؤمن الحليم والعاقل الصبور حقّا، فلا يعرف الحليم إلا عند الغضب، ولا الصبور إلا عند الابتلاء، ولا العفوُّ إلا عند المقدرة.
ولا يعني العفو عند المقدرة تحريم العقوبة ولا ذمُ الاقتصاص، يقول الله عز وجل: {ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل * إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم *ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور} (الشورى : 41 – 43) فطلب الاقتصاص من الظالم حق عادل للمظلوم كفِله له الإسلام، ولكن من أراد المراتب العالية فليتسلح بالصبر والمغفرة { إن ذلك لمن عزم الأمور} وهذه الآية عامة في كل حقوق العباد سواء في المال أو العرض أو الدم، ولا يخلو مؤمن من حقوق له أو عليه فيما بينه وبين عباد الله. والمؤمن يبتلى في الدنيا بأمور كثيرة، وما الدنيا إلا دار تمحيص وامتحان.