يقع متن كتاب “العقاب والغلو في الفقه والتراث الاسلامي. الردة-السب-الزنى-السحر-الكراهية”، وهو من تأليف الأستاذ رشيد الخيون وصادر عام 2018 في 333 صفحة، وتم تقسيمه إلى بابين ،في كل منهما أربعة فصول، إلى جانب ما أسماه خطبة الكتاب والخاتمة وقائمة المصادر والمراجع والكشاف.

في مقدمة الدراسة يثير الكاتب موضوع تبني الجامعة العربية (صفحة 8) لفكرة قتل المرتد والزاني ومن يسب الرموز الدينية، وفي تلخيصه لمحتويات الكتاب يثير موضوع الفرق بين “اسلام الامبراطورية واسلام الدولة الوطنية”،ويميز بين المرتد العقائدي والمرتد الحربي، مؤكدا أن القتل غير منصوص عليه في القرآن في حالات الزنا والردة والسب، وأن كل ما هو متداول في هذه الجوانب هو تأويلات المفسرين، وعليه فإن الكاتب يرفض هذه الأفعال ،لكنه أيضا يرفض مستوى العقوبة عليها وهو القتل.

وفي الباب الأول “العقاب” والفصل الأول منه “عقاب المرتد”، يتساءل لماذا لم ترد عقوبة المرتد بينما وردت عقوبة الزنى والسرقة، ونبه لتباين في التشريعات العربية بخصوص قضية عقوبة الردة، ويميز – حسب رأيه – بين الإخباريين والأصوليين في معالجة هذه القضايا.

في الفصل الثاني :عقاب السَّاب والمستهزئ، وبعد الإشارة لآراء الفقهاء واختلافاتهم في هذا الموضوع يتناول عددا من القضايا في هذا السياق: فتوى الخميني ضد سلمان رشدي- وفتوى الشيرازي حول التتن والتنباك (الدخان)- الرسوم الكاريكاتورية في الدنمارك- وقضية عدم ذكر الرسول في القسم البرلماني في باكستان- مرورا بوقائع عنف مثل حرب أفغانستان والثورة الايرانية وحركة جهيمان واحداث 11 سيبتمبر ولندن وغزو العراق..الخ. وينتقل إلى تاريخ السب السياسي في الحضارة الاسلامية والذي يرى أنه بدأ مع الدولة الأموية إلى أن أوقفه في المرحلة الأولى عمر بن عبد العزيز، ثم عاد في القرن الثالث الهجري، وركز في عرضه لهذا الموضوع على كتابي القاضي عياض وابن تيمية.

في الفصل الثالث:عقوبة الزناة رجما ،مشيرا إلى أن أغلب الدول لم تعد تمارس الرجم حاليا، ويرى أن أغلب المذاهب الاسلامية تميل لاعتبار الرجم عقوبة للزنى، ويرون أن الرجم من الآيات المنسوخة لكنها ” موجودة حكما ومنسوخة تلاوة”(ص.142)، ولكنه ينبه إلى أن بعض الفرق الاسلامية رفضت الرجم مثل الخوارج الأزارقة وبعض المعتزلة .

وفي الفصل الرابع:عقاب الساحر، وبعد تعريف السحر يعرض الآيات التي ورد فيها ذكر السحر، ثم مواقف الفقهاء من السحر وميل بعضهم لقتل الساحر (بن باز، السيستاني،الخوئي) ثم يعرض لبعض حالات جرى فيها تنفيذ القتل.

ينتقل الكتاب في بابه الثاني للمحور الخاص بالغلو والتطرف، وبعد مناقشة مفهوم الغلو والتطرف، يميز بين نمطين من الغلو: العقائدي (التعصب للعقيدة) والعملي(التشدد في العبادة) ثم ينتقل لمناقشة فكرة الفرقة الناجية والجدل حولها، معتبرا أنها ” المصطلح الأخطر(ص.196)، ثم يتتبع تطور المصطلح عند كل من السنة والشيعة، ليصل إلى موضوع كراهية الآخرين  بسبب أنماط طعامهم، وقتل أطفال الكفار كما يرى الخوارج، ليصل إلى الفاطميين والعباسيين والنازيين وداعش…الخ، بل يضع الكاتب موقف الغزالي من الفلاسفة ضمن هذا التصنيف.

وفي الفصل الثاني من الباب الثاني، يؤصل التطرف المعاصر بدءا من الدعوة الوهابية  التي سعت لتحويل ” السلفية لنظام سياسي”(ص227)، ثم صراعهم  الذي دار مع العراقيين، ويتوقف عند الإخوان في السعودية (ليس الإخوان المسلمين بل فرقة أخرى تسمى ” إخوان من طاع الله “) وعند السلفية في العراق ، ليصل إلى ما أطلق عليه  “الحملة الإيمانية”  التي قادها صدام حسين لمواجهة ايران، ومحاولات صدام التعاون مع أسامة بن لادن لكنه فشل في ذلك.

أما الفصل الثالث  فيخصصه لشروط العهدة العمرية ومسألة التعامل مع الاجانب أو غير المسلمين (أهل الذمة)، وعرض للآيات التي تحمل معنى التشدد نحوهم (التوبة والمائدة والاحزاب) والآيات التي تحمل معنى التسامح (العنكبوت وآل عمران والحج والمائدة) مع الإشارة لظروف كل من النوعين من الآيات. ثم يناقش دور الفقهاء في التحريض على أهل الذمة (ابن القيم) والأدباء (الجاحظ)، مشيرا إلى  التسامح مع الذين أسلموا خوفا مستندا لبعض اشعار المعري.

وفي الفصل الرابع والأخير، يناقش موضوع التنوير وتأثيرات اوروبا في ذلك،وكيف لعبت الترجمة وظهور المعتزلة وإخوان الصفا وبعض الأدباء والفلاسفة في بذر بذور هذا التوجه وصولا للمحدثين كالأفغاني ، مؤكدا على ان وسائل التواصل الحديثة ستلعب دورها في هذا الجانب، مؤكدا على ضرورة الربط بين الفقه والزمن، أي ان تتم مراعاة الظروف عند طرح الفقيه لرأيه.

تنتمي هذه الدراسة الى علم الاجتماع الديني، وهي جزء من أدبيات تزايدت في العقدين الأخيرين بشكل واضح نتيجة الاضطراب السياسي والاجتماعي الذي تعيشه المنطقة العربية بخاصة مع تنامي الظاهرة الدينية السياسية وما رافق ذلك من ظهور موجات من العنف وثقافة التحريض، وترصد الدراسة نزعة العنف في عدد محدد من حالات الخروج عن منظومة القيم الدينية في المجتمع، وهذه الحالات هي: الردة والسب (الشتم والقذف للرموز الدينية الاسلامية) والزنى والسحر والكراهية.

السمة المركزية لهذه الدراسة هي أنها لا تحاول تفسير هذه المظاهر( الردة والسب والزنا..الخ)، بل ترصد وقوعها من ناحية، وتحاول أن تقارن مواقف الفقهاء منها، ومدى مواكبة هذه الآراء الفقهية مع التطور المجتمعي رغم أن الكاتب لم يول هذا البعد الا اهتماما عابرا من الناحية الثانية.

لا أرى أن هذا الكتاب يضيف جديدا لأدبيات موضوعه، فظاهرة التطرف او ” الغلو”  تمت دراستها من جوانب عديدة، لكن الكاتب اكتفى فقط بسرد آراء الفقهاء الذين يوافقون توجهات التطرف والغلو بخاصة القتل لمرتكب هذه الأفعال، ويسرد من ناحية مقابلة – ولو بقدر أقل- آراء الفقهاء الذين لا يوافقون على هذا الآراء المتطرفة، وأعتقد أن هذه الآراء متداولة بشكل كبير، لا سيما أن التنظيمات والفقهاء( القاعدة وداعش والنصرة …الخ) وأسامة بن لادن وأمثاله ملأوا الصحف والمواقع الألكترونية بهذه الآراء، ناهيك عن تداولها قديما ومنذ ظهور الإسلام.

لظاهرة الغلو أبعاد سياسية، واقتصادية، واجتماعية ، ونفسية، وثقافية، ومنها المعاصر ومنها القديم، وكان من الأجدى لو أن الباحث وظف هذه الأبعاد لفهم ظاهرة الغلو (كما فعل مع ربط الظروف والبيئة الاجتماعية بظهور الوهابية وما تفتق عنها من توجهات وممارسات وآراء).

ويحاول الكاتب في فرضيته المركزية في الكتاب ان يثبت أن “عقوبة القتل” ليس منصوصا عليها بشكل واضح في الموضوعات التي أثارها وهي الردة والزنا والسحر والسب والكراهية، وأعتقد أن هذا الموضوع مبثوث في مئات الكتب (السنية والشيعية) ولا جديد فيه، ولعل مراجع الكتاب نفسه في كل موضوع من هذه الموضوعات تؤكد أن البحث قام فقط “بقص ولصق” هذه المعلومات لا أكثر.

بعد قراءة هذه الدراسة: أطرح السؤال التالي: لو قرأ فقهاء القتل هذا الكتاب، ما هي نسبة احتمال أن يغيروا موقفهم؟ ولو قرأ جمهور هذه الحركات المتطرفة هذا الكتاب، ما نسبة إعادة النظر في مواقفهم؟ ليس لدي إجابة، لكني وبكل امانة أجريت تجربة على بعض طلابي الذين أعرف ميولهم المتطرفة، وطلبت منهم قراءة الكتاب كل على حدة، وكانت ردة فعلهما “السخرية من الكتاب”، وهذا لا يعني حكما على الكتاب، ولكن يعني أن معالجة هذه الظاهرة هي أعقد من مجرد “الوعظ والشرح على متون النصوص”، وأظن أن الكتاب في هذا الجانب قاصر إلى حد بعيد، وسأتناول ذلك في بند المنهجية.

تعاني هذه الدراسة من بعض الثغرات المنهجية:

  1. هل أسباب التطرف وتنامي النزعات الدينية في العالم الاسلامي هي ذات طابع خصوصي، أي هل هذه الظاهرة مقتصرة على الدول الاسلامية والعربية فقط ؟ فكيف نفسر في هذه الحالة تنامي الأحزاب الدينية في إسرائيل وفي أمريكا اللاتينية (لاهوت التحرر) والمحافظين الجدد في أمريكا ووصول حزب جاناتا الهندوسي في الهند للسلطة للمرة الأولى وعودة  القوى الأرثذوكسية للظهور في روسيا (الكسندر دوغين وهو المفكر الأكثر أهمية حاليا في روسيا) واتخاذ الحزب الشيوعي الصيني قرارا بإعادة إحياء التراث الكونفوشي…الخ، إن العودة لنظرية روبرتسون تشير إلى تفسير كان على الكاتب التنبه له، بدلا من حصر نفسه في التفسير “الخصوصي” دون محاولة رؤية الظاهرة في نطاق عولمي أوسع.
  2. الملاحظ أن الباحث ركز بشكل كبير- بخاصة في تناوله المعاصر- على المشرق العربي دون المغرب العربي رغم أن أدبيات هذا الموضوع منتشرة ،وهناك صراع بين تيارات التنوير والسلفيين حول هذه النقاط منذ ابن باديس ومالك بن نبي وصولا لأركون والجابري.
  3. يصدر الكاتب أحكاما قاطعة دون أن يقدم عليها أي دليل، ففي صفحة 14 الفقرة 3 آخر سطر فيها يقول ان نسبة الالحاد أخذت في الازدياد في المجتمعات الدينية على وجه الخصوص، ويعود لتأكيد هذه النتيجة صفحة 209 السطر الرابع، لكنه لا يقدم لنا أية دراسات تدعم ذلك، وهو في رأيي حكم انطباعي.
  4. الفصل الخاص بالسب بحاجة لتنظيم مراحله التاريخية، فالبحث في هذا الفصل فيه تداخل وارتباك في ترتيب المراحل.
  5. كما أشرت سابقا ،فإن هذه الدراسة لا تقدم تفسيرا لنزوع كثير من الفقهاء نحو التشدد العقائدي والعملي، فهل الأمر يعود لمستوى وعي الفقيه أم لظروف البيئة الاجتماعية أو لظروف النص الديني ذاته؟