أمضى العقل الإسلامي ما يربو عن قرن في النظر إلى المسألة الديمقراطية ومحاولة تحديد موقف منها وذلك منذ طرحت في نهايات القرن التاسع عشر كجزء من مشروع التحديث السياسي في العالم الإسلامي، وقد مر التفكير فيها بثلاث مراحل متعاقبة هي: مرحلة التوفيق والموائمة ومرحلة المفاصلة وأخيرا مرحلة التأصيل والتنظير الإسلامي، وفي السطور التالية نعرض بإيجاز لهذه المراحل ونوضح من خلالها التطورات التي مر بها النظر الإٍسلامي والعوامل التي حكمته.
التوفيق والمواءمة
وهي المرحلة التي تمتد من أخريات القرن التاسع عشر حتى أواسط القرن التالي، وسادت خلالها فكرة جوهرية هي أن الإسلام لم يعرف مصطلح الديمقراطية إلا أنه ليس في نصوصه المقدسة أو في قيمه وتعاليمه ما يتنافى معها، وعلى هذا جرت عدة محاولات نظرية للتقريب بينهما انحصرت في: تقديم تأويلات لبعض الوقائع التاريخية غرضها البرهنة على وجود نوع من الممارسة الديمقراطية في الخبرة الإسلامية، وعقد المقارنات البسيطة بين مفهوم الديمقراطية وبين بعض المفاهيم الإسلامية كالشورى أو الإجماع لإثبات عدم وجود تعارض جوهري بينهما، لكنها لم تذهب قط إلى الاستخدام التعسفي لبعض النصوص الدينية أو اللجوء إلى التقنيات الفقهية لتسويغ القبول بالديمقراطية.
وقد شاب النظر الإسلامي خلال هذه المرحلة بعض القصور فلسنا نجد تتبعا لسيرة المفهوم في بيئته الغربية وليس ثمة تعريف دقيق له رغم استخدامه للمرة الأولى في المجال التداولي الإسلامي، ومرد ذلك ميل الإصلاحيين الإسلاميين إلى اعتباره جملة إجراءات تكفل مشاركة الجماهير في السلطة وغضوا الطرف عن جذوره الفلسفية وقيمه المصاحبة، وهو ما انعكس على عدم الفهم الدقيق لمحتواه فمرة استخدموه في مقابلة الأرستقراطية، وأخرى إزاء الثيوقراطية وثالثة إزاء الاستبداد، الأمر الذي يكشف عن مدى الاضطراب الحاصل في فهم محتواه ومضامينه الفلسفية والمعرفية وحال في النهاية دون حصول تأصيل إسلامي مبكر له.
وهناك عوامل ساعدت على ذيوع فكرة التوفيق منها المُناخ شبه الليبرالي الذي ساد مصر وبعض البلدان العربية وأقر بالتعددية الحزبية والانتخابات البرلمانية إذ لم يكن منطقيا رفض الفكرة الديمقراطية بعد اعتمادها تطبيقا، إضافة إلى أن العقل الإسلامي المنشغل بقضية النهضة كان يعتقد إمكانية تحقيقها إن أخذ المسلمون بالشروط التي سبق إليها الغرب وبمنتجاته الحضارية التي لا يعوزها سوى بعض الإضافات الإسلامية اليسيرة حتى تلائم البيئة الإسلامية وتتخلص من الصبغة الأوروبية.
وقد وجدت الفكرة أنصارًا كُثر موزعين على مختلف المشارب فليس هناك تيار يتبناها دون بقية التيارات، فقد دعمها الإصلاحيون الإسلاميون وبعض السياسيين والمشرعين من ذوي الميول الإسلامية كعبد الرازق السنهوري ومحمد علي علوبة، وبعض رجال الفكر والثقافة والأدب كعباس محمود العقاد وخالد محمد خالد ومالك بن نبي، وعدد من شيوخ الأزهر كمحمد البهي وعبد المتعال الصعيدي.
المفاصلة والتمايز
وهي المرحلة التي برزت خلال الربع الثالث من القرن وتزامنت مع صعود حركات الإسلام السياسي وانتشارها شرقًا وغربًا، وسيطرت خلالها فكرة مركزية هي أن الإسلام منظومة مكتملة ومكتفية بذاتها تضم العقائد والتشريعات والأخلاق والنظم الحياتية المختلفة، وهي تقف على طرف النقيض من المنظومة الغربية التي وضعها البشر وتوصم بالنقصان والقابلة للخطأ والنسبية، ولما كانت المنظومة الإسلامية ربانية المصدر ومنزهة عن الخطأ وتتسم بالإطلاق فإنها تفضل المنظومة الغربية وليس لها أن تلجأ إلى محاكاتها أو الاقتباس عنها.
وقد دعم فكرة المفاصلة بعض العوامل الموضوعية فعلى الصعيد السياسي كان وصول نخب سياسية تنحدر من أصول عسكرية إلى الحكم في عدد من البلدان إيذانا بانتهاء التجربة الديمقراطية القصيرة وسيطرة خطاب سياسي مناوئ للديمقراطية ومقيد الحريات. وعلى الصعيد الثقافي كان صعود خطاب القومية العربية الذي يتمحور حول الأنا/ الذات العربية يعني بشكل أو بآخر وضع الذات في مواجهة الآخر ومحاولة تأكيد أفضليتها في مواجهته.
وهكذا أصبح الهجوم على المنظومة الغربية وأفكارها وفي مقدمتها الديمقراطية يشكل جوهر الخطاب الإسلامي كما برز ذلك في أدبيات منظري الحركات الإسلامية سيد قطب وأبو الأعلى المودودي وتقي الدين النبهاني، ولعل ما يميز أطروحاتهم عمن سبقهم هي أن معالجتهم للديمقراطية تجاوزت النظر السطحي فلم يروا فيها جملة من الآليات السياسية المحايدة وإنما رأوا فيها رؤية كونية “world view” تعيد صياغة علاقة الإنسان بالإله وبالعالم المحيط به فتمنح الإنسان السيادة وحق التشريع وتسلبهما من الإله، ولذلك اتسم تعاملهم معها بالكلية فاستخدموا لتوصيفها مصطلحات مركزية مثل “الحاكمية” و”الجاهلية” كما هو الحال لدى سيد قطب والمودودي، لكن الإسلاميين في المراحل التالية لم يكن بمقدورهم اتباع هذا الموقف المتشدد ومالوا إلى اتخاذ مواقف تتسم بالوسطية والاعتدال في التعاطي معها.
التأصيل الإسلامي
وهي المرحلة التي ظهرت منذ أخريات القرن الفائت ولم تزل قائمة، والفكرة المركزية التي تسود فيها أنه ليس بمستطاع المسلمين اليوم رفض الديمقراطية في ظل عدم وجود بديل لها ومع امتدادها ورسوخها عالميا، وبالتالي غدت الحاجة ماسة لتأصيل الديمقراطية إسلاميا، قد اتبعت في ذلك طرائق مختلفة منها؛ الفصل بين قيم الديمقراطية كالعلمانية والقومية والفردانية التي عزلت الروح عن الجسد وأحلت الإنسان محل الإله، وبين الآليات الديمقراطية المحايدة، ومنها محاولة إيجاد صلة بين القيم السياسية الإسلامية كالشورى والبيعة وغيرها بالمفاهيم السياسية المعاصرة واستخدم في ذلك التأويل والأدوات الفقهية كالقياس، ومنها محاولة إنتاج “ديمقراطية إسلامية” وهي ديمقراطية لا تنفصل عن القيم الإسلامية وتغاير نظيرتها الغربية في رفضها منح التشريع لغير الله، فلا يباح للبرلمانات أن تسن نظاما أو تصدر حكما فيما ورد فيه نص صريح في الشريعة.
وثمة عوامل موضوعية دعمت فكرة التأصيل، فمن جهة شكل انخراط الإسلاميين في العمل السياسي في بعض البلدان حافزا لإعادة النظر في الميراث الفكري الذي خلفه سيد قطب والمودودي، ومن جهة أخرى أثار الاجتياح الأجنبي للعراق عام 2003 وما تبعه من محاولات أجنبية حثيثة للترويج للديمقراطية في المنطقة العربية تساؤلات عديدة حول حقيقة الديمقراطية التي يراد فرضها والموقف الشرعي منها، وقد تجلى التأصيل الإسلامي للديمقراطية في اتجاهين مختلفين:
الأول ظهور عدد من الكتابات الإسلامية درست الديمقراطية درسا فلسفيا وفحصت أسسها المعرفية وحاولت تقريبها من الأصول الإسلامية، ومن روادها الدكتور حسن الترابي الذي قدم بحثا معمقا بعنوان “الشورى والديمقراطية” صدر عام 1985 روج فيه لفكرة “الديمقراطية الإسلامية، والشيخ راشد الغنوشي في كتابه “الحريات العامة في الدولة الإسلامية” الصادر عام 1994.
والثاني صدور عدد كبير من الفتاوى الإسلامية تتناول مشروعية الديمقراطية وجواز المشاركة في العملية الديمقراطية، وهي تصدر إما عن فقهاء سلفيين ينتمون إلى بلدان تحظر الممارسة السياسية وترفض الأخذ بالآليات الديمقراطية وتلتقي فتاويهم مع مواقف الأنظمة في رفض الديمقراطية، أو فقهاء حركيين ينتسبون إلى جماعات الإسلام السياسي أو المتعاطفين معها وفتاويهم كانت المسوغ الشرعي للإسلاميين للانخراط في العملية السياسية في البلدان المختلفة.
ورغم هذه الجهود التأصيلية تظل الحاجة ماسة لإعادة النظر والتفكير في المفاهيم الإسلامية كالشورى والاحتساب والإجماع ومحاولة تنزيلها من إطارها النظري التاريخي ضمن أطر واقعية معاصرة، وكذلك صوغ أسس منهجية إسلامية تمكن من مقاربة التراث السياسي العالمي وتحديد الموقف منه بصورة متأنية بعيدة عن التوظيف الأيديولوجي.