اتسمت غالبية الأنساق الطبية التقليدية بتقديرها للعقل، واستفادتها من الاتصال المتبادل بين العقل وشفاء الجسد تأثيرًا وتأثرًا، وذلك بعكس الطب الغربي الذي اعتبر تلك الصلات ذات أهمية ثانوية.
وقد بدأ ذلك الفصل بين العقل والجسد خلال القرن السابع عشر، حيث أطلقت يد العلوم الطبية في استكشاف الجسد والتجريب عليه، بينما احتفظت الكنيسة بسلطانها على العقل، وخلال القرون الثلاثة التالية أسفر الطب المنطلق من ذلك التركيز على الجسد وآلياته عن اكتشافات غير عادية حول طبيعة وعلاج الحالات المرضية.
وعلى الرغم من ذلك، فإن ذلك الأفق الضيق في التركيز أدى إلى إغفال أهمية التفاعل بين العقل والجسد، وإلقاء ظلال كثيفة على أهمية العقل في إنتاج وشفاء الأمراض.
وخلال الثلاثين عامًا الماضية ظهرت حركة علمية قوية؛ لاستكشاف قدرة العقل على التأثير في الجسد، ولإعادة اكتشاف الطرق التي يؤثر ويتأثر العقل من خلالها بوظائف الجسد. وقد كان ظهور تلك الحركة نتيجة لعدد من عوامل التأثير، منها الانتشار الواسع للأمراض المزمنة وخاصة أمراض القلب والسرطان والاكتئاب والتهاب المفاصل والربو الشعبي، التي ظهر ارتباطها بالضغوط البيئية والشعورية، فقد كان لانتشار تلك الأمراض وتأثيرها التحطيمي، وتكلفتها الاقتصادية أثره في وضع اللبنة الأولى على طريق استكشاف العلاج الذي يُمَكِّن الأفراد من تحجيم تأثير تلك الضغوط وتهدئة العقل واستخدامه في توجيه الجسد حتى يشفي نفسه.
أما المصدر الثاني للتأثير فجاء نتيجة لجهود الباحثين في مجال الأنثروبولوجيا الطبية في التعريف بالأنساق الطبية للثقافات الأخرى التي تتخذ موقفًا موحدًا قائمًا على فهم قوة العقل والجسد في التأثير على بعضهما البعض.
التغذية الحيوية المرتجعة Biofeddback
وقد أثمرت الحركة عن ظهور أساليب قادرة على تحفيز قدرات العقل للتأثير على الجسد، ففي أواخر الستينيات – على سبيل المثال – ظهر أسلوب التغذية الحيوية المرتجعة أو Biofeedback كأسلوب علاجي يستخدم بعض الأجهزة الطبية في تزويد المرضى بالمعلومات حول العمليات الفسيولوجية التي لا يشعرون بها في العادة، وذلك بإتاحة الفرصة لهم لمشاهدة ما يجري من خلال أجهزة المتابعة بما يُمَكِّن المرضى من تعلم كيفية ضبط تفكيرهم وعملياتهم الذهنية الأخرى بهدف التحكم في العمليات الجسدية التي كانت تعتبر فيما سبق عمليات لا إرادية مثل ضغط الدم والحرارة والوظائف المعدية – المعوية ونشاط الموجات الكهربية العقلية.
ويرجع الفضل في وضع أساس ذلك الأسلوب إلى عالِم النفس التجريبي نيل ميللر Neal Miller الذي اقترح عام 1961م إمكانية تدريب الجهاز العصبي اللاإرادي، وخلال العقود الثلاثة التالية تم البناء على مقترح ميللر بفضل جهود العديد من الباحثين الذين وضعوا ما يقرب من ثلاثة آلاف بحث ومائة كتاب لوصف أسلوب التغذية الحيوية المرتجعة وتطبيقاته.
والتغذية الحيوية المرتجعة هي “وسيلة للسيطرة على عملياتنا الجسدية، وذلك لزيادة الاسترخاء، وتسكين الألم، وتحقيق الصحة والوصول إلى أنماط حياة أكثر راحة”،
وهي كما عرفها مارك شوارتز في كتابه “دليل الممارس للتغذية الحيوية المرتجعة”: هي مجموعة من الإجراءات العلاجية التي تستخدم أجهزة إلكترونية وإلكترو – ميكانيكية للقيام بقياس الأنشطة العصبية – العضلية والأنشطة اللاإرادية الطبيعية منها وغير الطبيعية، وإعلام الأشخاص بتلك القياسات في شكل إشارات سمعية أو بصرية أحادية أو ثنائية. بهدف زيادة الوعي بتلك الأنشطة ومن ثَمَّ التحكم الإرادي فيها، من خلال التحكم في الإشارات الخارجية أولاً، ثم عن طريق التحكم النفسي – الفسيولوجي.
ومن الأجهزة الشائعة الاستعمال في هذا الأسلوب العلاجي:
جهاز رسم العضلات Electromyograph (EMG) : ويقيس التوترات العضلية، ويستخدمه المعالجون لعلاج التقلصات العضلية، وحالات عدم التحكم الإرادي (في البول أو البراز) وإعادة تأهيل العضلات المصابة.
جهاز قياس حرارة الجلد Skin Temperature Gauge: الذي يقيس كمية الحرارة المنبعثة من الجلد التي تشير إلى التغيرات في التدفق الدموي، وتستخدم في علاج مرض رينودز Raynaud’s disease وارتفاع ضغط الدم والقلق Anexiety والصداع النصفي.
جهاز قياس التوصيل الكهربائي الجلدي Galvanic Skin Response Sensors(GSRs) : ويستخدم كميات العرق التي ينتجها الجلد تحت الضغوط المختلفة لقياس التوصيل الكهربائي، ويستخدم هذا الجهاز لعلاج حالات القلق.
جهاز رسم المخ Elecroencephalograph : ويقيس نشاط الموجات المُخِّيَّة، وتشمل الحالات التي تستفيد من هذا الجهاز حالات ضعف التركيز الذهني Attention Deficit والزيادة غير الطبيعية للنشاط، وحالات إصابات الرأس والاكتئاب وغيرها.
جهاز رسم القلب Electrocardiograph : ويقيس معدل ضربات القلب، ويساعد في الحالات التي تعاني من الزيادة المفرطة في سرعة ضربات القلب، وكذلك التحكم في ضغط الدم المرتفع.
أجهزة التنفس: وتركز على معدل ونمط التنفس وتساعد على التحكم في حالات الربو، والقلق وزيادة سرعة التنفس وتساعد على الاسترخاء.
وتستغرق جلسات العلاج ما بين نصف ساعة وساعة كاملة، ويمكن للشخص أن يتدرب على أن يزيد أو ينقص ضربات قلبه، وأن يرخي عضلات معينة وأن يخفض ضغط دمه ويتحكم في وظائف أخرى في خلال 8 – 10 جلسات، بينما تستغرق بعض الحالات جلسات أطول مثل ضعف التركيز الذهني والزيادة غير الطبيعية للنشاط إذ ربما تصل إلى 40 جلسة. ويتراوح معدل الجلسات ما بين جلسة إلى 5 جلسات أسبوعيًّا بناء على شدة الحالة.
ويستخدم ذلك الأسلوب في التعامل مع حالات اضطرابات القلق والاكتئاب البسيط والصرع والصداع ولتحسين درجة التركيز الذهني من أجل التعلم والتأمل والتحكم في الموجات الكهربية المخية بهدف التنمية الروحية ووصولا إلى السكينة الداخلية وفي الاضطرابات العصبية – العضلية وتشمل حالات التوتر العضلي المزمن وفي حالات الإجهاد والعلاج المؤدي للاسترخاء ولإعادة التعليم العصبي العضلي للمشي وفي حالات متلازمات الألم المزمنة Chronic pain syndromes وفي حالات ارتفاع ضغط الدم والربو ومشكلات الدورة الدموية مثل مرض رينودز Raynaud’s ومتلازمة المِفْصَل الفكي، وألم الفك واضطراباته الوظيفية والبروكسيزم (طحن الأسنان خاصة بالليل) وسلس البول (البلل السريري، التبول الليلي اللاإرادي، المثانة المسربة) وعدم التحكم اللاإرادي في البراز و اضطرابات التركيز الذهني.
وعلى الرغم من أن ذلك الأسلوب ربما يركز على مشكلة نفسية – فسيولوجية معينة، إلا أنه يتم تذكير المرضى دائمًا بالطبيعة الكلية للكائن الإنساني، حيث إن التغيرات التي تحدث في جهاز من أجهزة الجسم، تؤدي إلى تغيرات في باقي الأجهزة. ومن الخطأ الظن بأن التغذية الحيوية المرتجعة هي أسلوب يهدف إلى حل مشكلة منفردة، بعيدًا عن التأثير في باقي التركيبة الإنسانية، فبينما يكتشف المرضى تلك العلاقات المتبادلة بين الأجهزة النفسية – الفسيولوجية، يتعلمون أيضًا كيف يصنعون مزيجًا نفسيًّا – فسيولوجيًّا يستطيع التعامل مع شكاواهم الحاضرة، ويريهم أن هناك طريقًا آخر خارج الأنماط المعتادة للوعي والسلوك، وهو ما يؤدي إلى النمو الشخصي والتطوري. ويسمى ذلك التحول بـ”التكامل الحيوي” وهي العملية التي يستطيع الفرد بها من خلال التدريب المتعدد الأوجه الربط بين أحداث الحياة الداخلية والخارجية، ومن ثَمَّ يصبح الفرد قادرًا على اختيار بدائل لذلك الانقياد اللاشعوري للأنماط المعتادة.
إن التدريب على التغذية الحيوية المرتجعة ذو تأثيرات بعيدة المدى تذهب إلى ما وراء مجرد تسكين ما يؤلمك، فبينما يفيد التدريب في مجموعة واسعة المدى من العِلَل ويقدم شفاء لها ويؤدي للسيطرة على الكثير من الحالات بطريقة لطيفة غير مزعجة دونما استعمال شيء من الأدوية، فإنه في الحقيقة يفعل أكثر من ذلك، إنه يبعث الحياة في حقيقة أننا نمتلك القدرة على إحداث تغييرات طويلة المدى في أجسادنا وعقولنا، وتوجيه تلك التغيرات من أجل فائدة صحتنا وحياتنا.
د. مجدي سعيد 5>