يعد العمل الخيري والإحسان للآخرين سمة بارزة في الكويت، فمنذ القدم جبل أهل الكويت على حب الخير و حرصوا على الإحسان للآخرين، لمساعدة المحتاجين، وتقرباً إلى الله عز وجل. فكانوا يفرحون بحب الناس، ودعواهم لهم بالخير والفلاح.
فقدم هؤلاء نماذج رائعة في الأعمال الخيرية داخل الكويت وخارجها أبرزها عمارة العديد من المساجد، وكفالة الأيتام في، وتأسيس عدد من المدارس الإسلامية. فأهل الخير والإحسان في الكويت أكثر من أن نحصيهم ونعدهم، وبخاصة في الشدائد والمحن التي ظهر فيها معدنهم الأصيل، إذ تنافسوا في عمل الخير و بذل المعروف، فأنفقوا على الفقراء والمساكين وذوي القربى وأبناء السبيل، وبنوا المساجد والمدارس والمعاهد والمستشفيات ودور الأيتام وحفروا الآبار، فملأت سيرهم العطرة الآفاق. ومن بين هؤلاء نتوقف عند سيرة الشيخ عبدالله بن خلف الدحيان..علامة الكويت الذي أحسن إلى الناس بعلمه وعدله وعطفه وأغدق عليهم بالمال والطعام، فقد كان مجلسه في الكويت عامراً بالعلم والتدريس والوعظ والإرشاد في شتى العلوم
المولد والنشأة
هو الشيخ عبدالله بن خلف بن دحيان الحربي، الحنبلي، السلفي، الأثري ولد في الكويت في الثامن والعشرين من شهر شوال سنة 1292هـ الموافق 22 سبتمبر 1875م وترعرع فيها طفلا وشابا ثم شيخا، لم يشغله شاغل عن الغوص في بحور العلم ونشره بين الناس.
قرأ القرآن وتعلم مبادئ الخط في مكتب أبيه الملا خلف بن دحيان وكان لأبيه مكتب يعلم فيه الصبيان القراءة والكتابة في الطريق المعروف بسكة عنزة وفي الثانية عشرة من عمره بدأ يطلب العلم عند عالم من أجل علماء الكويت آنذاك هو المرحوم الشيخ محمد بن عبدالله بن فارس ولم يزل يتلقى العلم حتى وفاته عام 1326هـ ويحضر مستمعا مجلس الشيخ مساعد بن السيد عبدالجليل، فلم يجد فرصة لتلقي العلم إلا وانتهزها على يد علماء أجلاء ثم عكف على قراءة كتب العلم وكان ذا ذاكرة قوية.
وفي كل رحلة حج كان يلتقي بعلماء الدين في مكة المكرمة والمدينة المنورة، ومع كثرة ما حصل عليه من علم كان يعلن أنه مازال في بداية الطريق.
سافر إلى الزبير عام 1310هـ 1892م لتلقي العلم على يد الشيخ العوجان وغيره من العلماء هناك، كان أول خطيب في المدرسة الأحمدية يوم افتتاحها شكر فيها القائمين على تأسيسها وطلب من الحاضرين أن يتأسوا بمؤسسيها ويناصروا مشاريع العلم.
أوجه الإحسان في حياته
تميز الشيخ عبدالله بن خلف بشهادة تلامذته من العلماء بحسن معاملته للناس، وكذلك في إحسانه، فقد أحسن إلى الناس بعلمه وعدله وعطفه وأحسن إليهم بالمال والطعام، كما ساهم وشجع على إقامة المشروعات الخيرية، وكان دائما يتفقد جيرانه ويواسي المنكوب منهم سرا.
في مجال العلم والإرشاد5>
اتفقت كلمة العلماء في عصر الشيخ عبدالله بن خلف الدحيان على وصفهم له: “بالعالم الفاضل” وأثنوا عليه ثناء حسنا يستحقه وظهر ذلك من خلال المراسلات العلمية والإجازات التي حصل عليها من كبار العلماء، فقد كانوا به عارفين وبفضله مقرين. لذلك فقد كان مجلسه في الكويت عامرا بالعلم والتدريس والوعظ والإرشاد في شتى العلوم، وقد فتح الشيخ بيته ومجلسه لعامة الناس، وقد انتفع به خلق كثير وجمع وفير. يقول الشيخ عبدالله النوري رحمه الله: “ولكن مجلسه ليس للقيل والقال بل للوعظ والتذكير والإرشاد يقرأ على الناس من كتاب الله وسنة رسوله ﷺ”.
ويقول الشيخ يوسف بن عيسى القناعي في كتابه صفحات من تاريخ الكويت: “وكان مجلسه مدة حياته مجمعا لطلبة العلم صباحا ومساء واستفاد منه كثير من طلبة العلم في الكويت”، وعرف الشيخ عبدالله بن خلف الدحيان بغزارة علمه وحسن توجيهه وله أياد بيضاء على الحياة العلمية والفكرية في الكويت فقد تتلمذ على يديه أقطاب النهضة العلمية منهم الشيخ يوسف بن عيسى القناعي والشيخ عبدالله النوري وغيرهما ممن يشهدون بالفضل له.
إحسانه للفقراء والمحتاجين5>
كان الشيخ عبدالله بن خلف محبا للمساكين مساعدا للفقراء والمحتاجين معينا لذوي الحاجة، فقد جمع مع علمه الواسع كرما حاتميا وفي ذلك يروي تلميذه الشيخ محمد بن سليمان الجراح فيقول:
خرج الشيخ عبدالله من صلاة الظهر فالتقى بشخص كفيف فسأله: من أين جئت؟ فقال: من عند فلان وكان ينتظر عنده من الصباح لعله يعطيه شيئا من المال، فأخذه الشيخ عبدالله وأدخله منزله وقدم له الطعام ثم أجزل له العطاء، وقال له: عندنا فلد تمر فهل تستطيع حملها؟
ومما ذكره الشيخ أحمد الخميس عن خاله الشيخ عبدالله بن دحيان قوله:
كان عندنا جرار فيها أرز وتمور وغير ذلك من الأطعمة فكنا إذا أصبحنا نرى فيها نقصا، فعلمنا أن الشيخ رحمه الله كان ينفق منها سرا. كما حدث عنه الأديب الشاعر إبراهيم الجراح فقال: كان مؤذنه في مسجد البدر يسمى “بلال” وكان يبيع بعض الفواكه على باب المسجد بعد الصلاة، فإذا خرج الشيخ عبد الله يجيء إليه ويزن منها ويقول: خذ هذا لبيت فلان، وهذا لبيت فلان، يقصد بيوت الغائبين في رحلات الغوص الذين ليس لهم من يقوم بأمرهم، ويظل يوزع عليهم حتى لا يبقى عند بلال شيء ويقصد بذلك الإحسان للمحتاج وفي ذات الوقت إعانة مؤذنه على بيع ما لديه من فواكه.
ورغم أنه لم يكن ثريا بالمال، فإنه كان ورعا وزاهدا عما في أيدي الناس، فقد أرسل له الشيخ أحمد الجابر حاكم الكويت آنذاك مبلغا كبيرا من المال هدية يستعين به على حاله لكنه اعتذر عن قبوله راجيا ما عند الله تعالى فما عند الله خير وأبقى.
في مجال الأعمال الخيرية5>
كان للشيخ عبدالله بن خلف دور كبير في مناصرة المشاريع الخيرية في الكويت منها الجمعية الخيرية 1331هـ – 1913م، وكذلك المدرسة الأحمدية داعيا إلى مناصرة مثل هذه المشاريع مبينا فضل العلم في إحياء النفوس وتنوير العقول.
في مجال الإمامة5>
تولى الشيخ عبدالله بن خلف الإمامة والخطابة في مسجد البدر وهو من المساجد التي تقام فيها صلاة الجمعة، وكان الناس يحرصون على الصلاة فيه خلف الشيخ عبدالله بن خلف والاستماع إلى خطبه مهما بعدت المسافة بينهم وبين المسجد.
في مجال القضاء5>
يقول الشيخ يوسف بن عيسى القناعي: “تولى الشيخ عبدالله بن خلف القضاء 1348هـ، وكان مثالا للعفة والنزاهة والعدل، ولم نعرف أحداً تولى القضاء، وأدى واجبه مثله، وكان توليه للقضاء بإلزام من الشيخ أحمد الجابر، لأنه لم يوجد من يماثله في العلم والصلاح آنذاك وقد استقام في القضاء محتسبا لم يأخذ أجرة عليه، وهكذا كان الشيخ عبدالله بن خلف عالما ورعا زاهدا مثالا للعفة والنزاهة والعدل وقدوة في كل مجالات الخير والإحسان.
رحلته العلمية ومناصبه
بدأ عبد الله رحلته مع العلم في سن الثامنة عشر ، حيث حضر الكثير من مجالس العلم في الكويت و التي كان يعطيها كبار علماء الكويت في ذلك الوقت ، و من المشايخ التي حضر لهم عبد الله بن خلف مجالسهم الشيخ محمد الفارس و الشيخ السيد مساعد بن السيد أحمد عبد الجليل، و لم يتكفي بهذا القدر من العلم و سافر لطلب العلم أيضًا في خارج الكويت ، سافر عبد الله الدحيان إلي مدينة الزبير، و كانت تشتهر في ذلك الوقت بأنها مدينة فقه و دين و ذلك لأن كان بها أفضل علماء الدين و الفقه في ذلك العصر ، و منهم الشيخ صالح بن حمد المبيض و الشيخ عبد الله بن حمود و الشيخ محمد العوجان .
أخذ سنتين يتعلم من هؤلاء المشايخ و الذين كانوا أفضل علماء مدينة الزبير، و عاد مرة أخرى إلى الكويت في عام 1895م ، و في عام 1905م سافر عبد الله إلى مدينة مكة للحج و لكنه استغل الفرصة أيضًا ليزيد من معلوماته الدينية ، و كانت مكة و المدينة إشتهرتا في ذلك الوقت بعلماء الفقه و الدين ، و بعد أن أنهى فترة الحج و العلم عاد إلى الكويت و بدأ أن يتصل بأهل العلم و الدين ليزيد من علمه أكثر فأكثر .
ومن أهم المناصب التي شغلها الشيخ عبد الله بن خلف الدحيان :
- عمل الشيخ عبد الله بن خلف في الإمامة : في عام 1907م تم إنشاء مسجد البدر و تم تعين الشيخ عبد الله إمامًا له، و ذلك لما تتوافر فيه من صفات الإمامة و الخطابة إلى جانب علمه في أمور الدين و الفقه ، و كان له إسلوبه الخاص في الوعظ و الإرشاد الديني و التذكير بكلام الله – عز و جل – و سنة رسوله – صلي الله عليه و سلم – لذلك فإن الكثير من أهل الكويت كانوا يذهبوا إلى هذا المسجد للصلاة خلفه .
- عمل أيضًا الشيخ عبد الله الدحيان في القضاء : بعد أن إشتهر في المسجد بعلمه و كثرة علمه في الدين في القضاء ليحكم بالشريعة الإسلامية ، و كان يحكم بالعدل ولا يخاف أحد غير الله في أحكامه ، عمل في مجال القضاء سنة واحدة و لم يأخذ أجر فيها حتي أصابه المرض فترك القضاء .
- عمل كمؤالف للكتب الدينية : ألف الشيخ عبد الله بن خلف الدحيان كتابًا دينيًا جمع فيه إجابة لثلاثين سؤال من الأسئلة المهمة التي لم يكن لها إجابة في هذا الوقت .
مساهماته الدينية
أنشأ الشيخ عبد الله بن خلف في عام 1910م الجمعية الخيرية الإسلامية ، و لقد أسسها من أجل مساعدة الفقراء و المساكين في الكويت ، و كانت أيضا تساعد الشباب الكويتي الذي كان يريد المال من أجل إتمام الزواج ، و كانت منبر أيضا للعلم حيث أنه كان يقيم فيها مجالس لتعليم الشباب و نشر تعاليم الدين بينهم.
مؤلفاته وأقوال الناس عنه
استحوذت مصالح الناس والسعي لقضاء حوائجهم على معظم وقته، ما حرمه من التفرغ للكتابة باستثناء بعض المؤلفات منها: ديوان الخطب الخيرية العصرية، ويقع في 216 صفحة، والفتوحات الربانية في المجالس الوعظية والمسائل الفقهية وغير ذلك.
قال عنه سعود الزيد رحمه الله: “يعد الشيخ عبدالله بن خلف من مفاخر زماننا هذا، كان كثير الحياء عظيم الوفاء، محبا للمساكين، جواداً سمح الوجه، من رآه كأنما رأى أحد الصحابة”. وقال المؤرخ الشيخ عبدالعزيز الرشيد: “هو أجل علماء الكويت اليوم وأصلحهم وقد تميز بالهدوء والسكينة وحسن المعاشرة والأخلاق الفاضلة، والآداب الجمة التي يغبط عليها، وقد جمع مع علمه الواسع، كرمه الحاتمي وقلبه الحصيف، وله مكانته بين القوم لعفته وتقاه. ويقول تلميذه الشيخ عبدالله النوري رحمه الله:
“والذين عرفوا عبدالله بن خلف، عرفوا فيه رجلا تقيا متواضعا لله عظيما في أعين الناس، يقضي نهاره وكل نهار من أيام عمره معلما للناس واعظا لهم حلالا لمشاكلهم مفتيا في قضاياهم”.
وفاته
انتقل الشيخ عبدالله الخلف الدحيان قبل فجر يوم الاثنين 28 رمضان 1349هـ – 1931م عن عمر لا يتجاوز سبعة وخمسين عاما وقد فزع أهل الكويت جميعا لخبر وفاته وخرج لتشييعه كل من يستطيع السير على قدميه من شيب وشباب حتى الصبيان وكان مشهد وداعه مهيبا فقد عاش الشيخ في قلوبهم وأحست كل أسرة أنها فقدت جزءا عزيزا منها وشعر الناس بمدى خسارتهم بفقد هذا العالم العظيم تغمده الله تعالى بواسع رحمته وجعل مثواه الجنة.
وهذه الأبيات من قصيدة قالها الشيخ يوسف بن عيسى في هذا الخطب الجلل:
يا راحلا عنا بذاتك *** رفقا فإنا من هواتك
فالناس حولك في الممات *** كمثلما هم في حياتك
لا فرق بين الحالتين سوى *** سكوتك عن عظاتك
واهنأ بجنات النعيم *** جزاء نفعك في حياتك