اشتهرت موريتانيا أو بلاد شنقيط- كما كان يطلق عليها قبل الاستعمار الفرنسي -ببلد المليون شاعر، وذلك لأن العديد من رجالها تميزوا بكتابة الشعر وعمل مؤلفات في اللغة العربية والفقه، بسبب انتشار الكتاتيب بها حتى يتعلم كل طالب علوم القرآن والأدب والسيرة والفقه و الأحاديث النبوية بشكل مجاني.

ومن المعلوم أن موريتانيا أنجبت علماء عظماء أجلاء أبدعوا في ميادين العقيدة الإسلامية واللغة والفقه والرياضيات والمنطق وغير ذلك من العلوم والفنون. حيث تعتبر بلاد شنقيط منارة شامخة ورباطا مقدسا بفضل ما أبدعه علماؤها الأجلاء وعباقرتها المؤلفون الذين شرحوا الوحي ونشروه في كل أصقاع العالم، واستنبطوا منه وقاسوا عليه ما أشكل عليهم من الأحكام المتعلقة بالدين والدنيا.

ومن بين علمائها الكثر، العلامة غالي ولد المختار فال البصادي، وهو عالم جليل كان ظاهرة متميزة، إمام في اللغة العربية وشاعر متمكن، وهو من علماء السيرة النبوية واللغة والادب ، كان العلامة امحمد بن الطلبه ت 1272 هـ يلقبه “صاحب العشرينات” لأنه كان يحفظ 20 بيتا من قراءة واحدة، و كان يجيد قرض الشعر ويستعذب إنشاده، قال عنه الأديب مولود بن احمد الجواد ت 1243 هـ : (شاعروا بصاحبكم أهل الوبر والمدر ). فمن هو هذا العالم الجليل؟

اسمه ومولده ونشأته

اسمه غالي ولد المختار فال بن أحمد تلمود البصادي ولد في (1190هـ / 1776 م) ، عالم لغوي، و شاعر من أعيان علماء شنقيط البارزين، توفي سنة (1240 هـ / 1825 م) و لعل اسمه الحقيقي : أحمد بن المختار فال بن أحمد تلمود الأنصاري الشنقيطي، و هو ينتمي إلى أسرة علم و خير ، و قد كان جده الطالب أحمد تلمود من أعيان علماء ذلك القطر مع علو همة و حب للخير، فكان علاوة على اشتغاله بتدريس العلم يحفر الآبار و يجعلها وقفا على القوافل و سائر المحتاجين.

ولد الشيخ غالي في الشرق الموريتاني، وتوفي في تنمشله (بلاد الحوض)، وعاش حياته في موريتانيا.

والحقيقة أن جميع المصادر التي ترجمت له متفقة على أن اسمه “غالي” إلا أنه توجد وثيقة بخطه سمى فيها نفسه المختار غال وما سوى هذا المكتوب من كتاباته التي عُثر عليها اقتصر فيها على الجزء الأخير من اسمه، ولعل ذلك هو السبب في اشتهاره بهذا اللقب حتى صار اسمه الكامل لا يعرفه إلا الخواص من أهله. والحاصل أن اسمه مركب هكذا المختار غال بن المختار فال بن أحمد تلمود بن الحبيب بن أحمد بن أحمد آي بن الطالب أعل بن الطالب مالك بن أحمد بسات الجد الجامع لسائر بطون قبيلة البصاديين.

وبالنسبة لتاريخ ولادته، فإن معظم المصادر لم تحدد تاريخ ولادته شأنه في ذلك شأن الكثير من أقرانه، ويرجع ذلك إلى البيئة التي كانوا يعيشون فيها، فلم يكن تاريخ الولادة والوفاة محل اهتمام عند أهل البادية كما هو معروف، لكن أغلب الظن أنه ولد في النصف الأخير من القرن الثاني عشر الهجري في أرض القبلة أي ما يعرف الآن بولاية ترارزه، في بيئة بدوية يغلب على أهلها عدم الاستقرار، بالإضافة إلى الفوضى التي كانت هي سمة ذلك القطر آنذاك لعدم وجود سلطة مركزية فكانت الفتن تعصف بالسكان طيلة قرون. ورغم هذا وذاك فقد أنجب هذا القطر الشنقيطي عباقرة في تلك الحقب التي وصفت بأنها عصور الانحطاط والظلام، وكان غال هذا أحد أولئك العباقرة الذين أضاءوا أرجاء هذا القطر في تلك العصور الحالكة.

ولد غال في عصر أقل ما يوصف به أنه مضطرب وقاس، ورغم ذلك فقد نشأ وتربى في رفاهية وفي وسط يشع بالمعارف ويزخر بالمكارم والأخلاق العالية حيث إنه ولد في بيت علم، فجده أحمد تلمود كان عينا من أعيان علماء شنقيط مع علو في الهمة وحب للخير وكانت محضرته محط رحال طلاب العلم آنذاك على اختلاف مقاصدهم، فشب غال وترعرع في هذا الجو الزاخر بالمعارف المختلفة.

طلبه للعلم وشيوخه

جد غال واجتهد في تحصيل العلوم العقلية والنقلية فأخذها عن أفاضل علماء عصره في قطره حتى برع فيها واشتهر وبرز وأصبح مرجعا جامعا لأنواع العلوم من عقائد وفقه وأصول وتفسير وقراءة ونحو وصرف وبلاغة وتاريخ وسيرة. وقد ذكر محمد عبد الله بن المختار فال بن داود حفيده في ترجمته التي صدر بها كتاب البعوث أنه أخذ العلوم عن كل من المختار بن بونه و الشيخ القاضي حبيب الله و سيد عبد الله بن الحاج إبراهيم و مولود بن أحمد الجواد اليعقوبي و امحمد بن الطلبه وبن الحاج ابراهيم العلوي.

وكان غال مهابا عند أهل عصره يجلونه ويوقرونه وخصوصا شيخه العلامة النحوي المختار بن بونه، فقد كان يوليه عناية خاصة ويعتمد عليه كثيرا في الإجابة على ما يرد عليه من الأسئلة العلمية والمحاجات والمناقضات. وكان المختار إذا رأى ما يجيب به غال يتمايل طربا ويقول لا يقصد إلا غال استحسانا منه لأجوبته.

عمل غالي قاضيًا ومدرسًا في أحياء قبيلته من عام 1814م، كما قام بدور المصلح بين قومه، فكان يتدخل في الأقضية دعمًا للمظلومين قبل صدور الأحكام.

مؤلفاته

ألف غالي ولد مختار فال الكثير من الكتب في مختلف المجالات مثل السيرة النبوية والشعر وغيرها. من بينها:

  1. “وسيلة الخليل إلى بعوث صاحب الإكليل”، وهو أنظام وأراجيز مشروحة في السيرة والملاحم الإسلامية في نسج بديع – حققه ونشره محمد عبدالله – جدة (د. ت)، وقد نظم في هذا المؤلف البعوث التي بعثها رسول الله صلى الله عليه و سلم، وأظهر فيه الجانب العلمي لجهاد رسول الله صلى الله عليه و سلم في حسن سبك و دقة في المعلومات.
  2. “نظم سيرة أمهات المؤمنين” شرح المصطفى بن الإمام العلوي -المشاط – جدة.
  3. “المنهاج في ذكر الأزواج” (في السيرة النبوية) – دار الثقافة – نواكشوط.
  4.  “نظم البعوث النبوية” (300 بيت) – تحقيق رقية علي سالم – المعهد العالي الإسلامي – نواكشوط، وكتاب حول “إنه” في القرآن – دار الثقافة – نواكشوط.
  5. كتاب في التصوف.
  6. له ديوان: جمع وتحقيق عبدالله بن محمد عبدالله – كلية الآداب – جامعة نواكشوط (1998)، وأورد له كتاب “الشعر والشعراء في موريتانيا” نماذج من شعره.

يدور شعره حول المدح الذي يعلي فيه من قيم الشهامة ومضاء العزم والجلد، وله شعر في الوقوف على الأطلال ووصف للصحارى على عادة شعراء الجاهلية، كما كتب في المديح النبوي معبرًا عن مكانة النبي عند ربه وبين الأشهاد. يبدأ أشعاره غالبًا بالمقدمات الغزلية والطللية مقتفيًا أثر أسلافه الأقدمين. يميل إلى الشكوى، وله في المحاورات الشعرية، كما كتب في الرثاء، ينتزع لغته وصوره وخيالاته من مفردات بيئته الصحراوية، التزم عمود الشعر شكلاً لكتابته.

نماذج من شعره

  1. مقطع من نظمه في السرايا و اليعوث الذي يحتوي على 333 بيتا:

قال أسير التبعات الغالي — فيما نهى عنه العليّ غالي

من قاده داعي الهوى فانقادا —  المغربي الأشعري اعتقادا

المالكي مذهبا الملتجي —  لـباب مولاه الكريم المرتجي

بنظم سيرة النبي العربي —  إدارك يوم السبع أقصى الأرب

  1. و من شعره في قضاة الجور في زمنه :

إلى رافع الشكوى رفعنا يد الشكوى — من أقضية بالجور عمت بها البلوى

قضاء قضاة جامحات نفوسهم — عن الحق لا يقضون إلا بما تهوى

تصدر للافتاء و الحكم منهم — مجانيني لا يدرون ما الحكم و الفتوى

إذا لاح وجه الحكم بالحق أعرضوا — جنوحا لراشيهم و إن ناقض الدعوى

فعوذوا بوجه الله مما أصابهم — و ويل لهم إن الجحيم هي المأوى

  1. نظمه المشهور في أمهات المؤمنين و هو حوالي 100 بيت ذكر فيه نسبهن والأب الذي تجتمع فيه كل واحدة منهن مع النبي.

قال أسير ذنبه المعترف — لربه بكل ما يقترف

من ضيع العمر في الاشتغال — عن العلا و العبيد غالي

نكح طه من نساء العرب — عشرا و من عقب هارون النبي

واحدة و خذ على ترتيبي — تعريفهن و على تهذيبي

أولهن حـُبـِيَت تزويجه — خير النساء أمنا خديجه

فسودة عائشة فحفصه — فزينب فهند ثم بره

أي زينب فأمنا جويريه — فرملة صفية النضرية

و قد أقر له علماء وقته بالفضل و العلم حتى قال فيه عالم أدبائهم و أديب علمائهم :حرمه بن عبد الجليل العلوي :

لله درك ما أغلاك ياغالي — يا ذا البصادي و ما أعلاك من عالي

لله درك في علم و في أدب — لله درك في قول و أفعال