القرآن الكريم كتاب هداية في المقام الأول، فإن الله تعالى أرسل رسوله محمدا ﷺ وأنزل معه الكتاب لهداية الخلق إلى معرقة الله الحق، كما قال تعالى في صدر سورة إبراهيم: { كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ } [إبراهيم: 1]، وبجانب ذلك، فإن القرآن قد احتوى على أصول المعارف والعلوم والصناعات، فقد حوى القرآن – كما قال العلماء- علوم الأولين والآخرين، ولا يستطيع أحد أن يحيط به علما على الحقيقية إلا المتكلم به سبحانه وتعالى، ثم رسوله ﷺ مما أوحى الله تعالى به، وقد غاب عن النبي ﷺ ما استأثر الله به ذاته العلية، وورث الصحابة من رسول الله ﷺ علمه على تفاوت فيما بينهم، ثم ورث التابعون من الصحابة علمهم به على تفاوت فيما بينهم، ومازال الناس تقل معرفتهم بالقرآن بعد ذلك جيلا بعد جيل.
عناية العلماء بالقرآن
وقد اعتنى العلماء بدراسة القرآن واستخراج وجوه إعجازه وما اشتمل عليه من العلوم والمعارف واللطائف، كل حسب تخصصه ومجالاته المتنوعة.
فاعتنى القراء بضبط رسمه وكتابته، وبتجويده وتلاوته وقراءاته وحروفه التي نزل بها، واهتم المفسرون بمعرفة تفسيره والمراد من كلام الله تعالى، والنحاة بما حوى من مباحث نحوية، والفقهاء بما فيه من أحكام الحلال والحرام، والأصوليون بما حوى من قواعد التخريج والاجتهاد والأدلة والأقيسة وفهم الخطاب من العموم والخصوص والحقيقة والمجاز وبقية مباحث دلالات الألفاظ، وأهل التاريخ بالقصص والأخبار الواردة فيه، والوقوف على السنن والحضارات، وأهل الوعظ بما فيه من الوعد والوعيد والتذكير بيوم الحشر والحساب والجنة والنار وفقه القلوب، وأهل الرؤيا التعبير بما ورد فيه من أصول التعبير كما في سورة يوسف عليه السلام وغيرها، وأهل البلاغة بما فيه من مباحث المعاني والبيان والبديع، وأهل السلوك والتزكية بما فيه من الدعوة لصلاح القلوب والمراقبة والمحاسبة والمكاشفة وغيرها من المباحث.
اعتنى العلماء بدراسة القرآن واستخراج وجوه إعجازه وما اشتمل عليه من العلوم والمعارف واللطائف كل حسب تخصصه ومجالاته المتنوعة
الإشارات القرآنية للعلوم
وقد ورد في القرآن الكريم إشارات على كثير من العلوم والصناعات التجريبية، فمن ذلك:
أما الطب، فكما قال الإمام ابن القيم في زاد المعاد في هدي خير العباد (1/ 158)
وأصول الطب ثلاثة: الحمية وحفظ الصحة واستفراغ المادة المضرة، وقد جمعها الله تعالى له ولأمته في ثلاثة مواضع من كتابه، فحمى المريض من استعمال الماء خشية من الضرر فقال تعالى: {وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا} [النساء: 43] [النساء: 43 والمائدة: 6] فأباح التيمم للمريض حمية له، كما أباحه للعادم، وقال في حفظ الصحة {فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر} [البقرة: 184] [البقرة: 184] فأباح للمسافر الفطر في رمضان حفظا لصحته لئلا يجتمع على قوته الصوم ومشقة السفر فيضعف القوة والصحة.
وقال في الاستفراغ في حلق الرأس للمحرم {فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك} [البقرة: 196] [البقرة: 196] فأباح للمريض ومن به أذى من رأسه وهو محرم، أن يحلق رأسه ويستفرغ المواد الفاسدة والأبخرة الرديئة التي تولد عليه القمل، كما حصل لكعب بن عجرة أو تولد عليه المرض، وهذه الثلاثة هي قواعد الطب وأصوله.
وأما الهندسة ففي قوله: {انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ . لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ}، فإن فيه قاعدة هندسية وهو أن الشكل المثلث لا ظل له.
وجاءت الإشارة إلى علم الهندسة الميكانيكية وهو يرتبط بالحديد دون غيره من المعادن والفلزات، وذلك في قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [الحديد: 25]، وأشار إلى الهندسة المستوية التي تعتمد على بعدين اثنين طول وعرض، كما في قوله: {حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ} [الكهف: 96].
وأشار القرآن إلى الهندسة المعمارية بقوله تعالى: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [التوبة: 109].
وأشار القرآن إلى علم الجبر في قوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف: 34]
وأما علم الفلك والنجوم، فجاءت الإشارة إليه في قوله تعالى: {أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ}، وقد أبان الإمام الرازي في تفسير مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير (14/ 274) على من قال: إنك أكثرت في تفسير كتاب الله من عليم الهيئة والنجوم، وذلك على خلاف المعتاد! فيقال لهذا المسكين: إنك لو تأملت في كتاب الله حق التأمل لعرفت فساد ما ذكرته، وتقريره من وجوه:
الأول: أن الله تعالى ملأ كتابه من الاستدلال على العلم والقدرة والحكمة بأحوال السموات والأرض، وتعاقب الليل والنهار، وكيفية أحوال الضياء والظلام، وأحوال الشمس والقمر والنجوم، وذكر هذه الأمور في أكثر السور وكررها وأعادها مرة بعد أخرى، فلو لم يكن البحث عنها، والتأمل في أحوالها جائزا لما ملأ الله كتابه منها.
الثاني: أنه تعالى قال: { أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج} [ق: 6] فهو تعالى حث على التأمل في أنه كيف بناها ولا معنى لعلم الهيئة إلا التأمل في أنه كيف بناها وكيف خلق كل واحد منها.
الثالث: أنه تعالى قال: { لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون } [غافر: 57] فبين أن عجائب الخلقة وبدائع الفطرة في اجرام السموات أكثر وأعظم وأكمل مما في أبدان الناس، ثم إنه تعالى رغب في التأمل في أبدان الناس بقوله: { وفي أنفسكم أفلا تبصرون } [الذاريات: 21] فما كان أعلى شأنا وأعظم برهانا منها أولى بأن يجب التأمل في أحوالها ومعرفة ما أودع الله فيها من العجائب والغرائب.
الرابع: أنه تعالى مدح المتفكرين في خلق السموات والأرض فقال: {ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا } [آل عمران: 191] ولو كان ذلك ممنوعا منه لما فعل.
الإشارة إلى المهن
كما جاءت الإشارة إلى عدد من الصنائع في القرآن الكريم، من ذلك:
الخياطة في قوله: {وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ} ،
ومهنة الحدادة في قوله تعالى {آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ} ، وقوله {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ}،
ومهنة النجارة في قوله {أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ}،
ومهنة صناعة الغزل في قوله {نَقَضَتْ غَزْلَهَا}
وصناعة النسيج في قوله تعالى: {كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا}،
ومهنة الفلاحة في قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ} ،
ومهنة الغوص في قوله تعالى: {وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ}، وقوله تعالى: {وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً}،
مدح الله سبحانه وتعالى المتفكرين في خلق السموات والأرض
وصناعة الصياغة {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا}،
وصناعة الزجاج في قوله تعالى: {صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ}، وقوله تعالى: {الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ}،
وصناعة الفخار في قوله تعالى: {فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ} ،
ومهنة الملاحة في قوله تعالى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ}،
ومهنة الكتابة في قوله تعالى: {عَلَّمَ بِالْقَلَمِ}،
ومهنة الخبز، والطحن في قوله تعالى: {أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ} ،
ومهنة الطبخ في قوله تعالى: {بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} ،
ومهنة غسل الثياب في قوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} ،
ومهنة الجزارة في قوله تعالى: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ}،
ومهنة الصباغة في قوله تعالى: {جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ}،
ومهنة النحت في قوله: {وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا} ،
ومهنة الرمي والفروسية في قوله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ} ، وقوله سبحانه: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} .
والمتتبع لآيات الله تعالى يجد فيه أصول كل شيء، وإن لم تكن على وجه التفصيل، وذلك مصداقا لقوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} .