إذا سلمنا بأن اقدم الحضارات (ما بين النهرين 3500-4000 قبل الميلاد، مصر القديمة 3100 قبل الميلاد، الهند القديمة 3100.ق.م، الصين القديمة 2000 ق.م، والأنكا 1200 ق.م والحضارة الاغريقية 1200 ق.م والرومانية القرن الثامن ق.م) لم تكن تتواصل أو تترابط مع بعضها إلا في قدر محدود جدا سواء تجاريا أو بشريا أو معرفيا.
ويكفي معرفة أن المسافة الزمنية الفاصلة بين أول اتفاقيتين بين كيانين كان 842 سنة (الأولى في بلاد ما بين النهرين والثانية بين الفراعنة والحثيين)، ثم بدأ ظهور الحضارات الدينية الصرفة الكبرى، والتي عملت على نشر دين كل منها عند الآخرين وهو ما عزز التواصل بين الحضارات سلما أو حربا.
العولمة والعقل والوجدان
خلال هذه الرحلة الحضارية تشكل لكل حضارة “هوية” لها منظومة قيمية تميزها عن غيرها، لكن التواصل بين الحضارات أفرز المقارنة بين اتباع كل حضارة مع الحضارات الأخرى، وهنا بدأت هذه الحضارات تتصارع حول النموذج الأفضل بينها ولكنها في ذات الوقت تُدْخل في نسيج حلتها بعض خيوط نسيج الحضارات الأخرى، وهنا بدأت العولمة رحلتها وظهرت ثنائية الهويات الحضارية من ناحية والحضارة الانسانية من ناحية ثانية.
وفي تقديري إن تطور سبل المواصلات (من الساقين إلى تدجين الحيوانات للتنقل إلى العربة الآشورية وصولا للسيارة والقطار والطائرة الكنكورد) والاتصالات (من الحمام الزاجل إلى الانترنت (أي التكنولوجيا) هي السبب المركزي وراء هذه الثنائية، وكلما اتسعت دائرة الاتصال بين الحضارات والشعوب اتسع إدراك نقاط التباين والتنافر ونقاط التلاقي والتلاقح المعرفي، فالجانب الأول (التباين والتنافر) شكله الوجدان التاريخي، أي منظومة القيم الذاتية أو الهوية الحضارية التي تأخذ من الآخرين ما يتسق مع قيمها العليا، وأحيانا تتشابه فيما بينها لأن الجميع بشر (فالغورو في الهندوسية لا يختلف إلا في بعض التفاصيل عن الإمامية الشيعية أو خيط النسب القبلي عند العرب).
الانجذاب إلى التلاقي الوجداني الانساني
وتنتقل الخبرات من أنحاء ذات الحضارة لبعضها في الحيز الثقافي الذي يعبر عن جوهر الوجدان في الحضارة، فما الذي صنع هالة وجدانية للسيد البدوي أو عبد الرحيم القناوي في مصر وهم مغربيان، أو المرسي أبو العباس وهو أندلسي أو علي بين أبي طالب والثقافة الفارسية التي يملأ وجدانها ثقافة “البطل المغدور”، ولماذا نسج الفارابي مدينته الفاضلة بمنهجية أفلاطون بينما أعاد دانتي في الكوميديا الإلهية رسالة غفران أبي العلاء المعري الذي هدم الداعشيون تمثاله في سوريا؟
إنه الانجذاب إلى التلاقي الوجداني الانساني، وهنا نجد هذا الوجدان التاريخي يأخذ شكل المنهج التوفيقي بين معطيات الحضارات في المواقع التي لا تمس القيم العليا للمنظومة القيمية لكل حضارة.
الرومانسية الحضارية
مقابل ما سبق، هناك العقل التاريخي، أي العقل الذي يرى في الصراع أداة إيجابية وينظر لتراتبية المنظومات القيمية التاريخية من منظور الأعلى والأدنى، وضرورة إكراه الآخر على تبني ما هو أعلى من وجهة نظره، وتكاد أن تكون الحضارات الدينية والإغريقية والرومانية هي التجسيد لكل هذا، دون نفي أن كل حضارة ترى في هذه التراتبية أنها هي الأعلى (الرومانسية الحضارية)، فهل هي صدفة أن مقارنات أرسطو للدساتير ولدت صراعا بين النظم السياسية، وأن داروين بنى نظريته على الصراع مع الطبيعة، وماركس بناها على الصراع بين الطبقات، ولم ير فرويد إلا بناء نفسيا ينطوي على صراع بين الأنا والأنا العليا والهو…الخ.
ذلك يعني أن الوجدان التاريخي (المنظومات القيمية الخاصة) تواجه في كل مرحلة العقل التاريخي (نتائج التغير وادراك قوانين التغير)، ويترتب على هذه المواجهة أخذ وعطاء من ناحية وصراع دموي من ناحية ثانية، ومن يحرك هذه المواجهة بين العقل التاريخي والوجدان التاريخي هي العولمة عبر تطوير وسائل الاتصال والمواصلات، فلم تعد المسافة والزمن متغيرين مانعين، ويكفي أن نعرف أن هناك الآن:
- أ- 300 منظمة دولية تنسج خيوطا مشتركة بين الدول عابرة للوجدان التاريخي
- ب- 40 ألف منظمة دولية غير حكومية تنسج بين المجتمعات خيوطا عابرة
- ت- 60 ألف شركة متعددة الجنسيات ولها أربعمائة ألف فرع تنسج خيوطا اقتصادية غير عابئة بالوجدان التاريخي.
- ث- هناك 29 الف و 257 جامعة تعلم طلابها نفس المعلومات في كل تخصص، مما يخلق منظومة معرفية متقاربة عند الجميع.
وأعتقد بقدر كاف من الجزم أننا نسير في اتجاه استمرار المزاحمة بين الخاص (الوجدان التاريخي) وبين العام (العقل التاريخي)، وأراهن على انتصار الثاني، ولكن بعد ألف معركة يتشقق فيها الوجدان التاريخي بدم ودموع تباعا ويطوف العقل التاريخي في “مُسَيّراتٍ ” جوية وبرية وبحرية وقهقة من روبوتات تمسك بالمقود…ربما.