هل الغرب حقًا مرادفٌ للحضارة… أم نقيضها؟ في كتابه الصادم والمثير للجدل “الغرب نقيضًا للحضارة”، يطرح روبير جولان سؤالًا فلسفيًّا عميقًا يهزّ الأسس الراسخة للفكر الغربي: هل الحضارة الغربية التي تروّج لنفسها باعتبارها رمز التقدم والحرية، هي في جوهرها مشروع إبادة ثقافية وهيمنة شاملة؟

بعين الباحث الإثنيولوجي وبالاعتماد على دراسة ميدانية دقيقة وتحليل تاريخي ناقد، يكشف جولان عن تاريخ طويل من التدمير المنهجي للآخر، من أمريكا اللاتينية إلى فلسطين، تحت غطاء “التمدين”. ويقلب المفاهيم المتداولة رأسًا على عقب، حيث تصبح “الحضارة” مرادفًا للإقصاء بدلاً من الانفتاح.

هذه المقاربة الجذرية تمنح القارئ العربي فرصة نادرة لإعادة النظر في رواية الحداثة، وتقديم قراءة مغايرة لعالم لا يزال يعيش على أنقاض الإمبراطوريات. إنها دعوة إلى استعادة صوت الشعوب المقهورة، وفتح باب حوار حضاري مبني على التعدد والاختلاف.

صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ضمن سلسلة “ترجمان”، كتاب بعنوان “الغرب نقيضًا للحضارة “، وهو مجموعة من النصوص المختارة لعالم الإثنيولوجيا الفرنسي روبير جولان ، ترجمها إلى العربية الباحث مراد دياني . يُعد هذا الكتاب محاولة جريئة لتفكيك خطاب الحضارة الغربية، والكشف عن وجهها الآخر الذي يستند إلى الهيمنة، والإبادة الجماعية، والتهميش الثقافي، عبر استعراض تاريخي وتحليل إثنوغرافي دقيق.

كتاب "اللاّتمدين" من تأليف روبرت جاولين، يتناول السياسة وممارسات التهجير. الغلاف باللون الأخضر، يظهر الكتاب بشكل ثلاثي الأبعاد.
غلاف كتاب “الغرب نقيضًا للحضارة” النسخة الأصلية الفرنسية

يناقش جولان في كتابه “الغرب نقيضًا للحضارة” فكرةً غير بديهية وغير مطروحة في الخطاب الغربي السائد، وهي: هل يمكن اعتبار الغرب حضارة حقًّا؟ ويؤكد المؤلف أن الحضارة تعني التعدد والانفتاح وتقبّل الآخر، بينما ما قام به الغرب طوال تاريخه الاستعماري هو نفي هذه القيم، وتحويل نفسه إلى أداة للإفناء والإلغاء. ومن هنا جاء العنوان الأصلي للكتاب بالفرنسية: “La Décivilisation: Politique et pratique de l’éthnocide” ، أي “الانحلال الحضاري: سياسة وممارسة الإيثنوسايد (الإبادة العرقية)”.

الهيكل العام لكتاب “الغرب نقيضًا للحضارة”

قبل الدخول في صميم أفكار كتاب“الغرب نقيضًا للحضارة” ، من المفيد التعرف على هيكله التنظيمي، الذي يساهم في تنظيم المواد المقدمة بطريقة منهجية وسهلة الوصول. يتكون الكتاب من 240 صفحة، ويشمل مقدمة للمترجم مراد دياني، وقائمة مراجع، وملحقًا، وفهرسًا عامًّا، مما يجعله مرجعًا شاملًا للباحثين المهتمين بدراسات ما بعد الاستعمار، والنقد الحضاري، والصراعات الثقافية. يتوزع النص بين مقالات ونصوص مختارة لجولان، تتطرق إلى موضوعات مثل:

  • الإبادة الجماعية للسكان الأصليين في الأمريكتين.
  • الهوية الغربية كنتاج للهيمنة.
  • العلاقة بين الإمبريالية والاستعمار الثقافي.
  • النقد الإثنوغرافي للخطاب الغربي.
  • المقارنة بين إبادة الأمريكيين الأصليين وإشكالية الفلسطينيي

أولًا: فكرة الكتاب الأساسية – هل الغرب حضارة أم انحلال حضاري؟

يتناول هذا القسم أحد أكثر الأسئلة الفلسفية جذرية في الكتاب: هل يمكن اعتبار الغرب حضارة؟ أم أنه مشروع انحلالي؟ إن الإجابة على هذا التساؤل ليست فقط مسألة تصنيف ثقافي، بل لها آثار عميقة على فهمنا للتاريخ الحديث، ومشاريع الهيمنة العالمية، والصراعات الثقافية المعاصرة.

السؤال الفلسفي: ما هي الحضارة؟

يطرح جولان سؤالًا فلسفيًّا عميقًا: هل يمكن اعتبار الغرب حضارة؟ ويستند إلى تعريف الحضارة باعتبارها نظامًا ثقافيًّا متعدد الأبعاد، يحتوي على التنوع، ويحترم الاختلاف، ويتيح المجال للاشتباك مع الآخر. أما الغرب، كما يرى المؤلف، فقد بنى هويته على نفي الآخر، سواء كان ذلك الآخر شعوبًا مستعمرة أو أصواتًا معارضة داخل المجتمع الأوروبي نفسه.

ويربط جولان بين مفهومي “الحضارة” و”التعددية”، مشيرًا إلى أن غياب التعدد يعني تحول الحضارة إلى “حضارة إفناء”، أي نظامًا لا يُنتج الحياة بل يسعى إلى إلغائها. وهكذا، يتحول الغرب من كونه حضارة مفترضة إلى مشروع إبادة ثقافية وبيولوجية وسياسية.

ثانيًا: الإبادة الجماعية – من الأمريكتين إلى فلسطين

بعد توضيح الأساس الفلسفي لرؤية جولان حول الغرب، ينتقل كتاب “الغرب نقيضًا للحضارة” إلى الجانب العملي والأكثر وضوحًا من مشروع الإبادة الحضارية، وهو الإبادة الجماعية التي طالت الشعوب الأصلية في أمريكا الشمالية والجنوبية، ثم يمتد ليشمل التجارب الأخرى في العالم، مثل القضية الفلسطينية. يشكل هذا القسم محورًا مركزيًّا في نقده للحداثة الغربية.

تجربة الأمريكيين الأصليين: التاريخ كجريمة

يستند جولان إلى خبرته الميدانية الطويلة مع القبائل الهندية الأمريكية الأصلية، ليقدم تحليلًا إثنوغرافيًّا دقيقًا لما يسميه “الإبادة العرقية” أو “الإيثنوسايد”. ويعرض كيف استخدم الغرب أدوات مختلفة لإبادة الشعوب الأصلية، بدءًا من الحرب الجرثومية (مثل استخدام ملابس ملوثة بالجدري)، مرورًا بالتشريعات التي أجبرت السكان الأصليين على التهجير القسري، وانتهاءً بإلغاء اللغة والدين والثقافة.

رسم توضيحي قديم يظهر مشهداً تاريخياً مع جندي يحمل درعاً يقف بالقرب من بوابة حجرية، إلى جانب سفن شراعية تقف في الماء. التصميم يبرز تفاصيل عتيقة ويعكس أجواء البحرية القديمة.

ويشير إلى أن هذه الإبادة لم تكن فقط جسدية، بل كانت ثقافية أيضًا، حيث تم تدمير المدارس التقليدية، وحرمان الأطفال من التحدث بلغاتهم الأم، وفرض نموذج الحياة الغربية عليهم. وهذا النوع من الإبادة، كما يوضح جولان، أخطر لأنه يمحو الذاكرة الجماعية ويزيل الهوية.

المقارنة مع القضية الفلسطينية

يثير جولان مقارنة جريئة بين إبادة الأمريكيين الأصليين والقضية الفلسطينية، ويقول إن المشروع الصهيوني ليس مختلفًا في طبيعته عن المشروع الاستعماري الغربي. فالطرفان يستهدفان إلغاء وجود الشعب الأصلي، سواء عبر التطهير العرقي أو عبر تجريده من الحقوق السياسية والثقافية. ويؤكد أن الهدف المشترك هو تكوين مجتمع “أحادي” خالٍ من الآخر المختلف.

وهذه المقارنة أثارت جدلًا كبيرًا في الأوساط الفكرية، خاصة في العالم العربي، حيث اعتبر البعض أنها تساعد في فهم جذور المشكلة الفلسطينية من منظور عالمي، فيما انتقدها آخرون باعتبارها مبالغة في التشبيه.

ثالثًا: الأحادية الغربية والهيمنة الثقافية

بعد استعراض الممارسات العملية للإبادة الثقافية والجسدية، ينتقل جولان إلى دراسة البنية الأيديولوجية التي تقوم عليها الهيمنة الغربية، والتي يراها نتيجة حتمية لفكر أحادي يرفض الاختلاف ويسعى إلى فرض نموذجه على الجميع. هذا القسم يركز على تحليل البنية الثقافية للنموذج الغربي وتأثيره على الشعوب الأخرى.

الأحادية كأيديولوجية

يحلل جولان كيف حوَّل الغرب نفسه إلى نموذج واحد يجب أن تتبعه البشرية كلها، مهما اختلفت ثقافاتها وأعرافها. ويصف هذا التوجه بأنه “أحادية ثقافية” تقوم على فكرة أن الحداثة الغربية هي الطريق الوحيد للتقدم، وأن كل ثقافة أخرى لا تتوافق مع هذا النموذج يجب أن تُمحى أو تُعيد صياغتها.

ويرى جولان أن هذه الأحادية ليست جديدة، بل هي امتداد للفكرة الإمبريالية التي ظهرت منذ القرن الخامس عشر، عندما بدأت الدول الأوروبية في توسيع نفوذها عبر العالم، مدعية أنها تحمل رسالة ت civilisatrice (مدنية) بينما كانت في الواقع تحمل الرصاص والنار.

الثقافة والفلكلور: اختزال الآخر

يشرح المؤلف كيف يتعامل الغرب مع الثقافات الأخرى من خلال تصنيفها تحت مسمى “الفلكلور”، وكأنها مجرد عادات تقليدية غير ذات قيمة. ويشير إلى أن هذا التعامل يكرِّس صورة سلبية للآخر، ويجعله كائنًا تاريخيًّا منقرضًا، لا يمكنه أن يكون فاعلًا في الحاضر أو المستقبل.

ويستشهد جولان بمواقف عديدة من التاريخ الحديث، منها كيفية تصوير الثقافات الأفريقية أو الآسيوية في الوسائل الإعلامية الغربية، وكيف تُختزل إلى رقصات وملابس غريبة، دون الاعتراف بها كأنظمة ثقافية كاملة.

رابعًا: نقد التاريخ الرسمي ودعوة للتاريخ الشامل

من خلال التركيز على التاريخ كأداة للهيمنة، يسلط جولان الضوء على الروايات الرسمية التي تُكتب غالبًا من منظور المنتصر، وتجاهلها لوجهات نظر الشعوب المستعمَرة. ويعتبر أن إعادة كتابة التاريخ من منظور آخر ضرورية لإعادة الاعتبار لتلك الشعوب ولبناء خطاب نقدي حقيقي.

التاريخ الرسمي: تاريخ المنتصر

يُبرز جولان كيف أن الروايات التاريخية الرسمية غالبًا ما تكتب من منظور المنتصر، وتتجاهل وجهة نظر الشعوب المستعمَرة والمُهمَشة. ويعتبر أن هذا النوع من التاريخ يُعيد إنتاج الهيمنة، ولا يتيح الفرصة لفهم الماضي بشكل عادل.

ويشير إلى ضرورة إعادة كتابة التاريخ من منظور آخر، يعطي الكلمة للشعوب التي كانت ضحية الإبادة الثقافية والجسدية، وهذا ما يُعرف بـ “التاريخ الشامل” أو “التاريخ من الأسفل”.

الدعوة إلى التعددية الثقافية

في الختام، يدعو جولان إلى استعادة التعددية الثقافية كأساس للتعايش الإنساني، ويؤكد أن المستقبل لن يكون آمنًا إلا إذا اعترفنا بأن هناك “آخرين” لهم الحق في الوجود، وفي بناء هوياتهم بعيدًا عن هيمنة النموذج الغربي.

خامسًا: القراءات النقدية للكتاب عربيًّا ودوليًّا

مع ترجمة كتاب “الغرب نقيضًا للحضارة” إلى اللغة العربية، حظي باهتمام واسع في الأوساط الفكرية، خاصة من الباحثين المهتمين بنقد الحداثة والاستعمار. كما أثار ردود فعل متباينة في العالم الغربي، بين مؤيد ومعارض. يتناول هذا القسم أبرز التفاعلات مع الكتاب في العالمين العربي والغربي.

في العالم العربي

حظي كتاب “الغرب نقيضًا للحضارة” باهتمام لافت في الأوساط الفكرية العربية، خاصة في أوساط الباحثين في دراسات ما بعد الاستعمار، والدراسات الثقافية. وقد كتب عنه الكاتب والأكاديمي المغربي عبد الله العروي في مقال له بجريدة “الاتحاد الاشتراكي”، قائلاً:

“يُعد كتاب ‘الغرب نقيضًا للحضارة’ من أكثر الأعمال التي تجرؤ على وضع الحقيقة أمام المرآة، فالغرب ليس حضارة كما يُصور، بل هو مشروع إبادة ثقافية واستبدادية تستمد مشروعيتها من رواية واحدة، هي رواة المنتصر.”

غلاف كتاب "الغربي: نقد للحداثة" يتوسطه عنوان بارز، يشمل صورة لجهاز توقيت على خلفية ضبابية، مما يعكس موضوع الكتاب حول مفهوم الحداثة.
غلاف كتاب “الغرب نقيضًا للحضارة” النسخة المترجمة

كما أشار الباحث الفلسطيني سمير صلاح إلى أن الكتاب يفتح بابًا جديدًا لقراءة القضية الفلسطينية في إطار أوسع، متجاوزًا الحدود الجغرافية إلى فهم جذري لظاهرة الاستعمار.

في العالم الغربي

على الجانب الآخر، واجه الكتاب انتقادات من بعض النقاد الغربيين، الذين رأوا فيه تجاوزًا في تعميم الصورة السلبية عن الغرب، وعدم التمييز بين فترات ومراحل مختلفة من تاريخه. لكن آخرين، مثل المؤرخ الفرنسي جان بيير ريشار، أثنوا على جرأة جولان في كشف الوجه المظلم للحداثة الغربية، وقالوا إنه “يقدم قراءة ضرورية للتاريخ البشع الذي تُحاول الأجيال الحالية تجاهله”.

سادسًا: أهمية الكتاب ودوره في المكتبة العربية

يُعد ترجمة كتاب “الغرب نقيضًا للحضارة” إلى اللغة العربية خطوة مهمة في إثراء المكتبة العربية بمصادر نقدية تتناول الحداثة والاستعمار من زاوية غير غربية. كما يلعب دورًا في توفير أدوات تحليلية جديدة للتعامل مع قضايا الهوية، والاختلاف، والهيمنة.

موقف المترجم مراد دياني

اختار المترجم مراد دياني تقديم كتاب “الغرب نقيضًا للحضارة” بمقدمة موسعة، يعرض فيها سيرة جولان ومساره الفكري، ويشرح دوافع اختيار هذا النص بالذات للترجمة. ويؤكد دياني أن الكتاب يشكل مساهمة مهمة في إغناء الخطاب النقدي العربي حول الحضارة والهيمنة، ويوفر أدوات تحليلية مفيدة للتعامل مع القضايا المتعلقة بالهوية والاختلاف.

القيمة العلمية والفكرية

يتميز كتاب “الغرب نقيضًا للحضارة” بجمعه بين التحليل الإثنيولوجي العميق، والمقاربات التاريخية والسياسية، مما يجعله مصدرًا غنيًّا لكل باحث في مجالات:

كما أن ترجمته إلى اللغة العربية تعد خطوة مهمة في تسليط الضوء على قضايا لا تزال تُناقش بحساسية عالية في العالم العربي.

دعوة إلى إعادة النظر في مفهوم الحضارة

في الختام، يُعد كتاب “الغرب نقيضًا للحضارة ” عملًا نقديًّا جريئًا يتحدى الرواية السائدة عن الحضارة الغربية، ويكشف عن جانبها المظلم، الذي لم يُناقش كثيرًا في الخطاب العربي. يقدم روبير جولان رؤية عميقة ومبنية على مادة ميدانية وتحليل تاريخي، تجعل من كتاب “الغرب نقيضًا للحضارة” مرجعاً أساسياً لكل من يرغب في فهم جذور الهيمنة الثقافية والسياسية، وآثارها المدمرة على الشعوب.

وإن كانت مهمته الرئيسية هي كشف زيف فكرة “الحضارة الغربية”، فإن دعوته الأهم هي إلى استعادة “الإنسانية بصيغة الجمع”، والاعتراف بأن الاختلاف ليس تهديدًا، بل هو مصدر الثراء والتنوع الذي تنهض عليه الإنسانية.