“الحضارة الغربية لا تجحد الله في شدة وصراحة، ولكن ليس في نظامها الفكري موضع لله، ولا تعرف له فائدة، ولا تشعر بحاجة إليه” ربما كانت كلمات المفكر النمساوي المسلم محمد أسد من أقوى الكلمات في نقد الحضارة الغربية، لأنها حددت طبيعتها، وطبيعة الطريق الذي يسير فيه إنجازها، فقد صممت ألا يكون للخالق-سبحانه وتعالى- موضوع فيها، وإذا غاب الإله غاب الإنسان، لتتحول إلى حضارة يقتصر إدراكها للكون على حواس الإنسان فقط.

والحقيقة أن الحضارة الغربية تعرضت لنقود كثيرة، وعلى أرضيات فكرية وأيديولوجية وثقافية متنوعة، فالغرب بفلسفته ومنجزه الحضاري هو التحدي الأكبر للإنسان المعاصر، وفي هذا الإطار جاء صدور كتابي: ” نقد الحضارة الغربية في فكر مالك بن نبي” للدكتور “عماد الدين إبراهيم عبد الرزاق”، والصادر في 2019 في (96) صفحة، وكتاب “عبد الوهاب المسيري:دراسة في سيرته المعرفية ونقده لقيم الحداثة الغربية” للدكتور أحمد عبد الحليم عطية” والصادر نهاية 2018 في (202) صفحة، وذلك ضمن سلسلة “نحن والغرب” الصادر عن المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية” في بيروت.

الكتابان يقدمان اثنين من أهم المفكرين العرب والمسلمين الذين نقدوا الحضارة الغربية، على خلفية معرفية واسعة، فكلاهما يتقن لغة غربية سواء الفرنسية أو الإنجليزية اتقانا تاما أتاحت له الاطلاع على الثقافة والفلسفة الغربية بلغتها، وكلاهما عاش في الغرب فترة طويلة، أتاحت له الاكتشاف من قرب للواقع الغربي، وكلاهما اطلع على مشكلات الإنسان الغربي المعاصر، مكنته أن يتكلم من موقع البصير والعارف، وكلاهما يدرك مشكلة تعامل المسلم المعاصر مع الحضارة الغربية، والتي أنتجت انتقالا لمشكلات الغرب إلى العالم الإسلامي دون ميزاته ومنجزه العقلي والعلمي.

مفهوم النقد الحضاري لا يعني إتخاذ موقف عدائي من الحضارة الغربية، ولكن يعني في الأساس عدم تقبل ما تطرحه الحضارة الغربية دون نقاش وجدل، نظرا اختلاف السياقات التي نشأت فيها الأفكار والحلول الغربية، عن  السياقات والمشكلات في الواقع العربي والإسلامي، كما أن مفهوم النقد الحضاري يغوص بعيدا للوصول إلى الأسس الفلسفية والفكرية التي ترتكز عليها الحضارة، ثم مناقشة تجلياتها، لذا كان النقد الحضاري أمرا حتميا قبل الاقتباس، وإلا تعرضت العلاقة بين الحضارات إلى علاقة استلحاق وتبعية، وتكمن أهمية تراكم النقد الحضاري في أنه يقوي الذات، ويجعلها قادرة على التفاعل الإيجابي دون ضياع الخصوصية .

مالك ومشكلات الحضارة

يعد المفكر الجزائري مالك بن نبي من أوائل الذين نبهوا إلى أهمية البحث في مشكلات الحضارة، بل يكاد مشروعه  ينحصر في هذا الإطار، فهو يرى أن مشكلة كل شعب أو أمة تكمن في حضارته، والحضارة الغربية تعاني من انفصام حقيقي بين منجزها وضميرها، وهنا يكون المأزق لها وللإنسانية بعدما حولت هذا الاختلال إلى نوع من الهيمنة التي تؤكد التمركز الغربي، فهناك ارتباط بين الثقافة والحضارة، فنحن لا نتلقى الثقافة ولكن نتنفسها ونتمثلها في حياتنا، فالثقافة ذات بُعد نفسي واجتماعي وتاريخي، فهي الجو العام الذي يطبع أسلوب حياة مجتمع ما، وطبيعة سلوك أفراده بطابع خاص يختلف عن الآخرين، وهي تساعد في قيام الحضارة، أما الحضارة فهي مركب اجتماعي يشتمل على ثلاث عناصر، هي: الإنسان والتراب والزمان، ومن ثم فالحضارة لها جانب مادي وآخر معنوي.

ونجد أن منظور مالك في دراسة الحضارة يرتكز على نظرية الدورة الحضارية التي تشكل المدخل الرئيسي لنقد الحضارة الغربية، كما تحدث عن الاستعمار وأشكاله، والقابلية للاستعمار، ورأى أن الاستعمار في تلك الحضارة يعود إلى جذورها الرومانية، فالروح القيصرية كانت تنتقص قيمة الإنسان الخاضع للاستعمار، كما انتقد القابلية لاستعمار التي تخلقها الحضارة الغربية في البلاد المُحتلة، وما يترتب عليها من فوضى اجتماعية ووهن ثقافي، بل تطرفت الحضارة الغربية لتننتج معارف تشرعن الهيمنة والاستعمار والاستغلال.

أدرك مالك -خلال السنوات التي عاش فيها في الغرب إبان فترة الحرب العالمية الثانية وما بعدها- أن هناك تراجعا للفكرة الدينية أمام الأيديولوجيات الحديثة، وهو ما انعكس سلبا على الجانب الأخلاقي والنفسي في الغرب، فالمرض العضال في تلك الحضارة هو نزوعها الدائم إلى الهيمنة، وهو شعور مبعثه الثقافة، التي سببتها جراثيم الكبرياء التي تزعم أن التاريخ بدأ من أثينا .

طرح مالك سؤال المصير، ورأى أن الحضارة الغربية رغم توهجهها، إلا أنها فقدت منذ بدايتها قيمها الدينية والأخلاقية، ومن ثم فقدت التوزان بين مكوناتها، واختلال التوازن يُنشيء الأزمات الحضارية، فتخلي الغرب عن الدين كعامل أساسي في حياته الاجتماعية، أفقد القداسة مكانها في النفوس والضمائر، بعدما اعتبرها الغرب شيئا تافها لا قيمة له، ولعل ذلك يرجع إلى أنها أخضعت كل شيء لمقاييس الكم، وبقدر ما تتراكم الأشياء تضمحل القاعدة الأخلاقية والروحية.

المسيري والمادية

تنوعت جهود الدكتور عبد الوهاب المسيري في نقد الحضارة الغربية، ويمكن اختزال رؤيته في مقولة أنها “حضارة تعادي الإنسان” بعدما جعلت الإنسان شيئا ماديا وأغفلت جانبه الروحي، فالفيلسوف الألماني “نيتشه” الذي ادعى “موت الإله” كان العدو الأول للمسيري، فقد اعتبره “فيلسوف العلمانية والعدمية الأكبر” لذا نصاب رؤيته العداء، بل إنه يُحمل نيشته وفلسفته كل خطايا الحضارة الغربية، وكل مآسي البشرية وفقدانها لأخلاقها، فالصراعات في فلسفة نيتشه لا تحسم إلا بالقوة التي لا سقف لها ولا سلطان عليها، فالقوة هي المُطلق العلماني.

رأى المسيري أن الإبادة وتفكيك الإنسان إمكانية كامنة في الحضارة الغربية الحديثة، التي همشت الإنسان ومنظومته المعرفية والأخلاقية، ورأى أن المفكرين اليهود تزايد دورهم وحضورهم في الحضارة الغربية مع تزياد عدمية تلك الحضارة وحلوليتها، فحين أعلن نيشته “موت الأله” أمسك بها المفكرون اليهود في نهاية القرن التاسع عشر، فقد كانوا  يشعورن بالعدمية نتيجة لتهميشهم في مجتماعتهم واغترابهم عنها، لذا اكتسحتهم أفكار نيتشه.

أخذت فلسفة “ما بعد الحداثة” نصيبا وافرا من نقد المسيري، فلاحظ ارتباط تلك الفلسفة باليهود، فأغلب فلاسفتها إما يهود أو من أصل يهودي مثل: جاك دريدا، إدموند جابيس، وهارولد بلوم، فمع نهاية القرن التاسع عشر أحكمت الصهويينية قبضتها على اليهود في الغرب، وأصبح تاريخ اليهود السياسي متصهين، وفي ظل هذا السياق، تصاعدت رؤى تُفكك فكرة المعيارية والمرجعية، وأن يصبح المعيار هو الإنسان ذاته، ونتج عن ذلك العلمانية الشاملة، وفيها لا يتساءل الإنسان عن أصل الأشياء ومعناها، وعندها يتفكك الإنسان، وينهار.

والتفكيك معناه فصل العناصر الأساسية في التكوين والبناء عن بعضها البعض، ورأى المسيري أن فلسفة ما بعد الحداثة (أو التفكيكية) فلسفة تهاجم وترفض المرجعية، فليس التفكيك أداة منهجية للفهم والتحليل، وإنما رؤية لتقويض ظاهرة الإنسان، نظرا لأن التعددية المفرطة تؤدي إلى اختفاء المركز، وتساوي بين كل الأشياء، بحيث لا يبقى شيء متجاوز للمادة، وتصبح الأمور كلها نسبية فلا اعتراف بأي مُطلق، وهو ما يقود إلى العدمية، بل تصل بالإنسان إلى اللاعقلانية المادية.

ومن أقوى انتقادات المسيري للحضارة الغربية أنها تعبير عن التراجع التدريجي والمستمر للفلسفة الإنسانية، فالعلمانية الشاملة تبدأ مع إزاحة مركزية الإنسان، ثم نزع الجوانب الشخصية عنه ليصبح شيئا ليست له خصوصية أو تفرد، ثم نزع القداسة عن كل شيء فتُهتك كل أستاره، وتفضح كل أسراره، ويُعرى من أية مثالية، ويُحول إلى مادة محضة، وهذه قمة العلمانية الشاملة والتفكيكية، فـ”ما بعد الحداثة” ما هي إلا نزع للقداسة عن العالم والإنسان والكون، وتحرير العالم من سره وسحره وجماله، وتجريد الإنسان من خصائصه، وهناك تشابه بين العقيدة اليهودية وما بعد الحداثة، فالعقيدة اليهودية غير متجانسة ومتناقضة بشكل عميق وتفتقر إلى المعيار، والثابت فيها هو التغير، كما أن الصهيونية تتشابه مع ما بعد الحداثة  في رؤيتها التفكيكية، وإنكار الكليات واستخدام العنف للتغيير والإيمان المُطلق بالقوة، والبرجماتية المفطرة والقدرة الهائلة على التحرك بلا مُطلقات.

فهل يدرك الإنسان المعاصر ما أدركه شاعر الهند العظيم “محمد إقبال” عندما التقط نت الحضارة الغربية خيرها وأفلت من شباكها، يقول إقبال:” التقطت الحبة وأفلت من شبكة الصياد ، يشهد الله أني كنت في ذلك مقلداً لإبراهيم ، فقد خضت في هذه النار واثقا بنفسي وخرجت منها سليماً محتفظا بشخصيتي”.