يركز مالك بن نبي في تصوره للأزمة الحضارية وما يرتبط بها من عناصر مختلفة على المشكلة الفكرية التي يعاني منها العالم الإسلامي منذ عصر ما بعد الموحدين**  ويرى أن الجانب الفكري هو الأساس في المشكلة التي نحن بصددها. إن الأفكار لا تتمتع في المجتمع الإسلامي بقيمة ذاتية، تجعلنا ننظر إليها بصفتها أسمى المقومات الاجتماعية، وقوة أساسية تنظم وتوجه قوى التاريخ كلها، و تعصمها بذلك من محاولات الإحباط مهما كان نوعها. وهذه الثغرة تعود في تكوينها، إلى شئ من التخلف في تطورنا الاجتماعي.

 وبناء على هذا الاعتقاد المعرفي يعيد مالك تعريف المجتمع المتخلف، فالمجتمع المتخلف ليس موسوماً حتماً بنقص في الوسائل المادية (الأشياء)، وإنما بافتقاره للأفكار. ويتجلى بصفة خاصة في طريقة استخدامه للوسائل المتوفرة لديه بقدر متفاوت من الفاعلية، وفي عجزه عن إيجاد غيرها. وعلى الأخص في أسلوبه في طرح مشاكله أو عدم القدرة على طرحها إطلاقاً”. والخلل الموجود في (نظام الأفكار) في العالم الإسلامي يترتب عليه بالضرورة غياب وسائل الفعالية، والتي من أهمها عدم القدرة على تأسيس شبكة للعلاقات الثقافية، والتي لم تتكون بعد في المجتمع الإسلامي الراهن، وهو ما يتجلى في صورتين: الصورة الأولى: تدلنا على أن المجتمع الإسلامي يفقد شبكة الاتصالات الثقافية فالشخصيات التي يمكنها المساهمة مادياً في القيام بمشروع كهذا لا تشعر بأهميته.

الصورة الثانية: تكشف لنا عن ضعف الطبقة المثقفة نفسها في البلاد العربية و الإسلامية. ويحمل “مالك بن نبي” “المثقف المسلم” مسؤولية الخلل والاضطراب الموجود في نظام الأفكار، وغياب وسائل الفاعلية، وذلك بعدم قناعته بالقيمة الاجتماعية للأفكار وهو ما جعل المثقف المسلم “يدور في فلك بعض الأوثان بدلاً من أن يكرس نفسه لخدمة الأفكار.

المجتمع المتخلف ليس موسوماً حتماً بنقص في الوسائل المادية (الأشياء)، وإنما بافتقاره للأفكار

ويؤدي المثقف المسلم دورا مهما  في تفاقم أزمتنا الحضارية بدلاً من الإسهام في معالجتها، لا سيما ذلك “المتعالمِ” الذي بتر فكر النهضة فلم ير في مشكلتها إلا حاجاته ومطامعه، دون أن يرى فيها العنصر الرئيسي لما في نفسه من كساد…هذا المتعالِم مريض ولا سبيل إلى مداواته؛ لأن عقل هذا المريض لم يقتن العلم ليصيره ضميراً فعالاً؛ بل ليجعله آلة للعيش، وسلماً يصعد به إلى منصة البرلمان.وهكذا يصبح العلم مسخة وعملة زائفة، غير قابلة للصرف،وأن هذا النوع من الجهل لأدهى وأمر من الجهل المطلق.

ومن النتائج التي ترتبت على الخلل في (نظام الأفكار) وغياب (وسائل الفاعلية) وتشوه دور (المثقف المسلم) في العالم الإسلامي، سيادة حالة التوهم والوهن في الإعداد للنهوض الحضاري والتي استبدلت التكديس بالبناء مما جعلها تعيش فترة أكبر، وتفقد الجهد والوقت إلى حد الإسراف في هذا الإعداد الحضاري الذى لم يتم، ولن يتم في ضوء خيار “التكديس” القائم على اختيار عقلية التوهم والوهن.

وهذه الإشكالية أوقعت المجتمع الإسلامي في تناقض واضح بين التكديس والبناء و بين الاستعارة والفعالية، حيث أورث ذلك تدهوراً في قيمة الأفكار الموروثة، وتدهوراً في قيمة الأفكار المكتسبة، وقد حملا أفدح الضرر في نمو العالم الإسلامي أخلاقياً ومادياً. وإن هذه النتائج الاجتماعية لذلك التدهور نصادفها يومياً في صورة غياب لكل فعاليه، وقصور في مختلف أنشطتنا الاجتماعية، فمن ناحية فإن الأفكار التي أثبتت فاعليتها في بناء الحضارة الإسلامية منذ ألف عام تبدو اليوم عديمة الفعالية، لأنها فقدت التصاقها بالواقع.

ومن ناحية أخرى فإن أفكار أوروبا التي شيدت النظام الذى نسميه الحضارة الأوروبية، فقدت بدورها الفاعلية في العالم الإسلامي المعاصر. فسلوكنا اليوم يرتبط بتنكر مزدوج. فالمسلم فقد الاتصال بالنماذج المثالية لعالمه الثقافي الأصلي. وهو لم ينشئ كما فعلت اليابان الاتصال الحقيقي بالعالم الثقافي الخاص بأوروبا، ونحن اليوم نقاسى هذا التدهور المزدوج، فالأفكار المخذولة في هذا الجانب أو ذاك لها انتقام رهيب. وإن انتقامها المحتوم هو ما نعانى نتائجه اليوم.

الأسى الذي يبديه مالك هنا بالأساس لافتقاد المثقف المسلم الارتباط بنموذجه الأصلي ورصيد تجربته الحضارية، وهو ما أفشله أيضاً في الاتصال بالواقع المعاصر والتطور الحضاري الحادث في الغرب؛ وذلك لافتقاده أدوات الاستيعاب الحضاري والتجاوز الذي يمده به نموذجه المعرفي الأصلي وتجربته الحضارية، ومن ثم يصبح المثقف الذي وقع في أسر الاستلاب ينطبق عليه مقولة حكيمة “إن المنبت لا ظهر قطع ولا أرضا أبقى”.

العلاقات الاجتماعية تفسد عندما تصاب الذوات بالتضخم فيصبح العمل الجماعي المشترك صعباً أو مستحيلاً

وتنعكس الحالة الفكرية والخلل الموجود فيها على العالم الاجتماعي، وهو من أخطر وجوه الأزمة والذي يستدعى فيه مالك حديث “الغثاء” ويرى أنه تصوير لحالة المجتمع عندما يتحلل كيان المجتمع تحللاً كلياً، و عندما يحتل المرض جسده الاجتماعي في هيئة انفصالات في شبكته الاجتماعية… ويتجلى هذا المرض الاجتماعي في العلاقات بين الأفراد. وأكبر دليل على وجوده يتمثل فيما يصيب (الأنا) عند الفرد من (تضخم) ينتهي إلى تحلل الجسد الاجتماعي لصالح الفردية… فالعلاقات الاجتماعية تفسد عندما تصاب الذوات بالتضخم فيصبح العمل الجماعي المشترك صعباً أو مستحيلاً، إذ يدور النقاش حينئذ لا لإيجاد حلول للمشكلات، بل للعثور على أدلة وبراهين تبرر المواقف الفردية والخيارات الشخصية”.

وينتقل مالك بن نبي من وصف للأزمة إلى تحديد الأسباب التي أدت إليها، والتي يراها تنحصر في قسمين، الأول: العوامل الداخلية، والثاني : العوامل الخارجية ( الاستعمار)، والذي يرد في النهاية إلى الأسباب الداخلية النفسية والاجتماعية التي تدخل ضمن إصابات الشخصية المسلمة، وما تعرضت من وهن جعلها عرضة لأي داء ، وفي ذلك يقدم مالك تصوراً يمكن أن نطلق عليه “نظرية في النقد الذاتي والمساءلة الحضارية”.

في هذه النظرية يطرح مالك فكرة “الأوهام الثلاثة” التي وقع فيها “العالم الإسلامي” منذ الأفول الحضاري و الذى يحدده زمنياً بزوال “دولة الموحدين“، وهذه “الأوهام” أو “الأساطير” المسيطرة على عقل المسلم ووجدانه ونزوعه تسببت في استمرار حالة “الأفول”. وهذه الأساطير أو الاعتقادات المتوهمة ركن إليها المسلم لأنها أقل جهداً وتكلفة نفسية وزمنية في تفسير حالته الحضارية.

هذا “الثالوث” المتوهم “الجهل – الفقر- الاستعمار” ساد عقلية “التخلف” عن أداء الرسالة، والتي يسميها مالك بن نبي، عقلية عصر ما بعد الموحدين

وتتحدد هذه الأساطير في الاعتقادات المتوهمة التالية بالتالي:

1- لسنا بقادرين على فعل شئ لأننا جاهلون.

2- لسنا بقادرين على أداء العمل لأننا فقراء.

3- لسنا قادرين على الفعل الحضاري لأن الاستعمار في بلادنا.

هذا “الثالوث” المتوهم “الجهل – الفقر- الاستعمار” ساد عقلية “التخلف” عن أداء الرسالة، والتي يسميها مالك بن نبي، عقلية عصر ما بعد الموحدين، التي حلت محل العقلية الفاعلة صاحبة الرسالة، وهو ما أدى إلى تصادم بين “مسلم ما بعد الموحدين” و “نماذجه الرائدة / المثالية” في هذه الرسالة. والمجتمع المسلم هو بالتحديد في هذه اللحظة في مواجهة المشكلة في وجهيها؛ إنه يعاني من انتقام النماذج المثالية لعالمه الثقافي الخاص به من ناحية، ومن ناحية أخرى لانتقام رهيب تصبه عليه الأفكار التي استعارها من أوروبا.

ويحمل مالك الذات المسلمة في الترويج لهذه الأساطير/ الأوهام وعدم وجود الرغبة الذاتية لمواجهتها مع امتلاك قدرات وإمكانات وأدوات المواجهة. فالجهل واقع وأثر من آثار الاستعمار، ولكن ماذا فعلت الدوائر المثقفة، وماذا فعلت بثقافتها ضد الأمية العامة، إن مضاعفة العدم لا تؤتي غير العدم، فإذا ما كان المتعلم نفسه عديم التأثير، وإذا لم يكن لتعليمه أثر اجتماعي، فإن أسطورة (الجهل) تصبح أسطورة خطرة، إذ هي تحجب خلف مشكلة الإنسان الأمي، مشكلة أعمق لإنسان ما بعد الموحدين – جاهلاً كان أو متعلماً.

وأسطورة الفقر ليست بأقل خطراً، وينبهنا مالك لأن نلتفت إلى دور الفرد المسلم الثري ومدى فاعليته الاجتماعية إنها لا شئ، لقد زاد أغنياء المسلمين على فقرائهم في العطل على الرغم مما يملكون من ثروات. والأسطورة الثالثة هي أسطورة الاستعمار، وهى تعبير عن العجز الداخلي الذى يعاني منه الفرد المسلم، ويخلص مالك إلى أن هذه الأساطير ناتجة عن “سبب داخلي ناتج عن نفسية الناس، وأدواتهم وأفكارهم وعاداتهم، أي كل ما يُكَّون عقل ما بعد الموحدين، وهو في كلمة واحدة ناتج عن قابليتهم للاستعمار”.

فالسبب الرئيسي في الحالة التي يحياها العالم الإسلامي نتجت عن ذلك “المريض الحقيقي وهو الإنسان المستعمَر، الإنسان الذى أصابه داء القابلية للاستعمار”،  “هذا الإنسان الذى يشكل نواة مجتمع ما بعد الموحدين في كل صورة – باشا أو عالماً، مزيفاً أو مثقفاً، مزيفاً أو متسولاً – فإنه يعد عموماً عنصراً جوهرياً يضم العالم الإسلامي من مشكلات منذ أفول حضارته، وهو عنصر لا ينبغي أن يغيب عن أنظارنا عندما ندرس نشأة المشكلات وحلولها التي تشغل اليوم الضمير الإسلامي”.


** عصر ما بعد الموحدين : يبدأ عصر ما بعد الموحدين بسقوط الدولة الموحدية بعد هزيمة الناصر لدين الله الموحدي في موقعه خص العقاب في الأندلس في 15 صفر (609 هـ). وقد اعتبرت هذه الموقعة نذيراً بنهاية قوة المسلمين بالمغرب والأندلس على السواء. وقد ازدهرت الفلسفة والعلوم في عهد الدولة الموحدية فكان فيها ابن طفيل وابن رشد وابن باجة والوزير الطبيب ابن زهر.وفي رأي مالك بن نبي أنه بزوال دولة الموحدين في المغرب وانطواء الدولة الأيوبية المعاصرة لها في القرن الثاني عشر انتهت دورة الحضارة الإسلامية، وبدأ عصر الانحطاط رغم ما لمع من بوارق انتصارات المماليك والدولة العثمانية في الشرق والغرب. وبدأت دورة جديدة للحضارة المسيحية الغربية تبعث على أشلاء الأندلس وتأخذ إصرارها على حيث نرى نتائجها في عالمنا الحاضر.