من الضروري عند البحث في نماذج الإصلاح والثورة عن العامل الأساس للتغيير وفكرته ومضمونه وتجلياته المعرفية والسلوكية، فإذا كانت النماذج الاشتراكية والرأسمالية الوضعية على اختلافها ترجح العامل المادي والاقتصادي تحديدا من خلال فكرة الصراع الطبقي للنموذج الأول والتراكم الرأسمالي للنموذج الثاني، فإن النموذج التوحيدي الذي يقدمه الإسلام يجعل من ( الإنسان ) العامل الأساس للتغيير والعنصر الجوهري لأي تحول حقيقي في حياة المجتمعات والأمم، سواء كان ذلك التحول تدريجيًا أو جذريًا.
ونتناول فيما يلي من خلال منهجية القراءة المستعرضة لأفكار الإصلاح والتغيير في الأمة – والتي يتبناها كاتب هذه السطور في أغلب طروحاته البحثية- فكرة العامل الأساس لدى كل من شريعتي ( 1933-1977) ومالك بن نبي ( 1905-1973) .
العامل الأساس للتغيير عند على شريعتي ( 1933-1977)
طرح شريعتي العامل الأساسي للتغيير في المجتمع والذي أكد عليه “القرآن” وهو “الناس” في محاولة منه لتخفيف النزعة الجبرية التي سادت العالم الإسلامي إبان عصر الاحتلال والتغريب، حيث ألقى شريعتي العبء في مسألة التغيير على “الناس” كل “الناس” فهم المسؤولون عن قضايا التحرير والاستقلال والتطور الاجتماعي وليست القوى الغيبية أما الرسل عليهم فقط “البلاغ المبين”، فالإسلام لا يعتمد نظرية الشخصيات البارزة في التغيير ولا العوامل المادية وإنما يعتمد “الناس” في عموم هذه الكلمة المصدر الحقيقي والعامل الأساسي والمسؤول المباشر عن تغيير المجتمع والتاريخ.
الإسلام لا يعتمد نظرية الشخصيات البارزة في التغيير ولا العوامل المادية وإنما يعتمد “الناس” في عموم هذه الكلمة المصدر الحقيقي والعامل الأساسي
يذكر شريعتي أنه في الإسلام والقرآن لا يوجد مكان للنظريات التي تفسر التغيير الاجتماعي بالعوامل المادية أو نظريات الشخصيات البارزة، فإن أعظم شخصية إنسانية في نظر الإسلام هي شخصية النبي r. وإذا كان الإسلام يعطي للشخصية هذا الدور باعتباره العامل الرئيسي لتغيير المجتمعات والتاريخ، لكان من اللازم أن يعتبر الأنبياء عليهم السلام – وخاصة نبي الإسلام محمد r- هم عامل التغيير والتحول الاجتماعي ولكن ليس الأمر كذلك. فالقرآن ذكر أوصاف النبي ورسالته والدور الذي يقوم به، وهو أن يقوم بدور المبلغ للرسالة وعليه البلاغ وليس أكثر. فهو مسؤول عن إبلاغ الرسالة، وهو بشير ونذير.
وعندما يتأثر النبي من عدم اهتداء الناس، وعدم قدرته على هدايتهم، فإن الله يبين له، إنك مسؤول فقط عن تبليغ الرسالة، ولست مسؤولا عن رقي الناس أو انحطاطهم فهم المسؤولون عن ذلك. نلاحظ في القرآن الكريم أن النبي لم تعرض شخصيته كعامل وحيد وأساسي للتغيير الاجتماعي وإحداث التحول التاريخي، بل يُعتبر أنه مبلغ يقوم بتبليغ الرسالة وتوضيح الحقيقة للناس، وتنتهي رسالته عند هذا [فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البَلَاغُ] {آل عمران:20}. وللناس بعد ذلك أن يتبعوا الرسالة، ويختاروا الحقيقة أو لا يفعلوا ذلك [فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ] {الكهف:29} .
كما لا مكان للصدفة في قاموس هذا الدين .. لأن جميع الأمور بيد الله سبحانه. فالصدفة التي تشير إلى وجود حادثة من دون علة، وبدون هدف في نظام الكون عند أولئك، لا يمكن تصورها لا في الطبيعة ولا في المجتمع الإنساني. وعندما يأتي القرآن على ذكر الشخصيات البارزة في التاريخ، فإنه يذمهم إن كانوا ظلمة كفرة. وإذا ذكر شخصية صالحة خيرة، فإنه لا يعتبرها عاملاً ذا تأثير في تغيير مجتمعها.
والحقيقة أن “الجماعة” التي يخاطبها الدين، ويتوجه إليها كل نبي، تشكل العامل الرئيسي والمؤثر للتغيير الاجتماعي في نظر الإسلام. فعلى هذا الأساس نحن نلاحظ أن المخاطبين في القرآن الكريم هم “الناس”.
إذا تحرك الإنسان تحرك التاريخ ..وإذا سكن ..سكن المجتمع والتاريخ
فالنبي ﷺ مبعوث إلى الناس ويتوجه في خطابه إلى الناس، ويجيب على أسئلة الناس، وعامل التغيير والتحول والرقي أو الانحطاط هم الناس، كما أن مسئولية المجتمع والتاريخ تقع على عاتق الناس.
إن كلمة “الناس” كلمة قيمة وعظيمة جداً، ولا تقابلها في القيمة كلمة أخرى… وليس لها مرادف آخر، والكلمة الوحيدة التي تشبهها في الوزن واللفظ هي كلمة “ماس = masse” وهي أي “masse” – في علم الاجتماع – عبارة عن عامة الشعب بدون ملاحظة مميزاتهم وخصوصياتهم الطبقية، أو الفروق الاجتماعية التي تخرجهم عن عموم الجماعة الإنسانية.
ولفظة (الناس) تشتمل على هذا المعنى بالضبط، وهو عموم النوع الإنساني بدون إضافة معنى آخر، بينما كلمة الإنسان أو البشر وما يرادفها تعطي نفس المعنى، ولكن بإضافة صفة أخلاقية أو اعتبار معين.. مثلاً: يقال البشر مقابل الحيوان أو الإنسان مقابل الحيوان، ثم يقسم إلى إنسان مؤمن وتقي وغير ذلك.
انطلاقاً من هذا نستنتج أن الإسلام هو أول مدرسة اجتماعية تعتبر المصدر الحقيقي، والعامل الأساسي، والمسؤول المباشر عن تغيير المجتمع والتاريخ، ليست الشخصيات المختارة، كما يقول (نيتشه) وليس الأشراف والأرستقراطيون، (كما يقول أفلاطون)، وليس العظماء والقادة كما يقول (كارليل وأمرسون)، وليس أصحاب الدم الطاهر كما يقول (الكسيس كارل) وليس المثقفون أو رجال الدين، بل عامة الناس.
العامل الأساس للتغيير عند مالك بن نبي ( 1905-1973)
المقولة الرئيسة الحاكمة لفكرة مالك بن نبي هي: (إذا تحرك الإنسان تحرك التاريخ ..وإذا سكن ..سكن) هكذا يعتقد مالك في الإنسان فهو الداء والدواء ..مهما توافرت العوامل الاقتصادية أو السياسية ..وغاب الإنسان بوعيه برسالته الاستخلافية ..فلا جدوى في العمران تذكر .. فالسبب الرئيس في الحالة التي يحياها العالم الإسلامي –من وجهة نظر مالك بن نبي- نتجت عن ذلك “المريض الحقيقي وهو الإنسان المستعمَر، الإنسان الذي أصابه داء القابلية للاستعمار”، “هذا الإنسان الذي يشكل نواة مجتمع ما بعد الموحدين فى كل صورة – باشا أو عالماً، مزيفاً أو مثقفاً، مزيفاً أو متسولاً – فإنه يعد عموماً عنصراً جوهرياً يضم العالم الإسلامي من مشكلات منذ أفول حضارته، وهو عنصر لا ينبغي أن يغيب عن أنظارنا عندما ندرس نشأة المشكلات وحلولها التي تشغل اليوم الضمير الإسلامي”.
التخلف الذي يعنيه مالك بن نبي.. هو تخلف الإنسان المسلم عن أداء رسالته، وليس تخلفاً عن الصناعات والآلات، لأنه يعتبر هذا النوع الثاني تابع بالضرورة للنوع للأول
ونموذج التغيير المنشود عند مالك يشغل الإنسان منه القلب فهو أحد أضلاع نظريته الحضارية: الإنسان -الوقت – التراب ..فالإنسان – موضوع الإسلام – هو نواة النموذج المعرفي عند مالك بن نبي، ويرى أن أزمة العالم الإسلامي إنما هي أزمة وعي بالأساس تتمثل في ” أزمة إدراك الإنسان المسلم للمشاكل والقضايا التي يعاني منها العالم الإسلامي”؛ لذا، يدعو ابن نبي الإنسان المسلم إلى “إدراك العالم من حوله الذي أصبح يعتمد على العلم والتخطيط في رسم حاضره ومستقبله وأن يستبطن هذه المعطيات حتى يسترد وعيه وينتبه لمدى تخلفه”، والتخلف الذي يعنيه مالك بن نبي هنا: هو تخلف الإنسان المسلم عن أداء رسالته، وليس تخلفاً عن الصناعات والآلات، لأنه يعتبر هذا النوع الثاني تابع بالضرورة للنوع للأول.
ومرحلة الحضارة إذًا ليست أي حال أو وضع عليه حياة الإنسان، وليست هي الوضع أو المعيار المادي فقط؛ بل هي جملة أوضاع أخلاقية تضم القيم الأساسية للإنسان وتصوراته التي تميز وجوده الاستخلافي والتي تدخل في برامج تربيته وتزكيته في كل مراحل عمره من الطفولة إلى الشيخوخة، بالإضافة إلى العوامل المادية المعبرة عن شكل ونشاطات الإنسان في مرحلة ما، والحضارة بهذا المعنى انتقال إيجابي من حالة لا تتوافر فيها تلك الشروط الأخلاقية والمادية (وهي المكونات الكونية الأساسية) إلى حالة تتوفر فيها تلك الشروط فهي حالة “تغييرية بالأساس وفي الجوهر، وهو ما جعل مالك بن نبي يتخذ من الآية الكريمة: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَومٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِم ﴾ (الرعد:11) مكاناً في قلب رسالته “الإصلاحية” الحضارية. واعتبار حركة “التغيير الذاتي” هي الخطوة الأولى نحو الإصلاح.
والحضارة عند مالك تحديدًا هي : جملة الجهود الفكرية والعملية التي تبذل في ميدان بناء الإنسان لتوفير الشروط الزمنية والنفسية للبناء الحضاري، من خلال إعداد الفرد المسلم وتهيئته لهذه الحالة، ففعل النهضة كما يشير مالك بن نبي هو : “ما يبذله العالم الإسلامي من جهد في الميدان النفسي”. ومتجاوزاً معوقات هذه النهضة، ومتوافقاً مع مقوماته المعرفية (الأصيلة)، ومرجعيته الحضارية، مراعياً السنن الكونية في التغيير والتطور. وهذا لن يتأتى إلا “بتكوين الفرد الحامل لرسالته في التاريخ”، والذي أسماه مالك بـ “الإنسان الجديد” الذي يتسم بـ”تركيب أصيل لعبقريته الإسلامية الخالصة، مع العبقرية الحديثة”.
ويحدد مالك بن نبي أهداف منهج التغيير المطلوب للإنسان ومتطلباته والتي تبدو في جانبين أدائيين هما: أداء الرسالة، وتحقيق الشهادة، ومتطلباتهما تجديد النظر إلى رسالة الوحي من أجل استعادة دور المسلم في الشهادة والحضور وهو ما يحتاج ” أولاً: إلى إعادة تنظيم طاقة المسلم الحيوية، وتوجيهها، عن طريق تنظيم تعليم القرآن تنظيماً (يوحي) معه من جديد إلى الضمير المسلم (الحقيقة) القرآنية كما لو كانت جديدة، نازلة من فورها من السماء على هذا الضمير، وثانياً: يجب تحديد رسالة المسلم الجديدة في العالم، حتى يستطيع منذ البداية المحافظة على استقلاله الأخلاقي مهما يكون قدر الظروف الخارجية الأخلاقية أو المادية”.
استعادة الإنسان المسلم وعيه بالحضارة كشرط أساس لدخول مرحلة الحضارة مرة أخرى
ومن ناحية أخرى فإن مستهدف المشروع التربوي الحضاري عند مالك هو استعادة الإنسان المسلم وعيه بالحضارة كشرط أساس لدخول مرحلة الحضارة مرة أخرى، وهذا لن يتحقق إلا بتجديد النظر إلى رسالته ووظيفته الكونية من أجل تحقيق “توحيد النماذج” المعلمة للأمة على امتداد وجودها من طنجة إلى جاكرتا، وهو المنحى التربوي الذي قامت عليه الجماعة المسلمة الأولى. والآلية المعرفية لتحقيق ذلك هو “بناء نموذج معرفي صالح ومصلح للإنسان المعاصر”، ينتج عنه بالضرورة شخصية حضارية توظف طاقتها الحيوية في بناء حضاري إنساني، تتفاعل فيه الأصالة والمقومات الذاتية والتاريخية الصالحة، مع التطورات الحديثة النافعة.
لذلك جعل مالك بن بني هدف النموذج عنده هو “بناء رجالٍ يمشون في التاريخ، مستخدمين التراب والوقت والمواهب في بناء أهدافهم الكبرى”. أي بناء “الإنسان ” الذي يلزم نفسه “السعي”: ﴿فامشوا﴾ لتحقيق مقاصد الخلق والحق في العمران والتزكية والتوحيد. انطلاقا من قاعدة ومفهوم “التسخير” بين الإنسان والطبيعة و”الانسجام” و”التوافق” كخصائص أساسية لعلاقة الإنسان بالكون والطبيعة.
أما علاقة الإنسان بحركة التاريخ فيصفها مالك بأنها علاقة اطرادية “فالتاريخ يبدأ بالإنسان المتكامل الذي يطابق دائماً بين جهده ومثله الأعلى وحاجاته الأساسية، والذي يؤدي في المجتمع رسالته المزدوجة، بوصفه ممثلاً وشاهداً”، ﴿ وَكَذَٰلِكَ جَعَلنَٰكُم أُمَّة وَسَطا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيكُم شَهِيدا وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ (البقرة:143) .
خلاصة: الإنسان والتغير الذاتي هما منهج الإصلاح والتغيير الحضاري في النموذج التوحيدي، وهو ما يتباين مع النماذج الوضعية المتماهية مع المادة، ومع فكرة الصراع، والتناقض.