مشكلة الضعف والجمود التي عانى منها الفقه الإسلامي وحركة الاجتهاد، لم تكن شيئا جديدا، بل يمتد تاريخها إلى بداية القرن الخامس الهجري، واستمر هذا الوضع إلى العصر الحالي، حيث ظهرت قلة الاعتناء بنصوص الدين، واستيعابها، والاجتهاد في معانيها وأسرارها، وانتقل الناس إلى الاقتصار على متن الإمام وحفظه، وشرح معانيه، ووضع الحواشي عليه، وهذا يخالف ما كان يتميز به عصر ازدهار العلم والفقه الإسلامي.
يقول مناع القطان واصفا للفرق الجوهري الذي يختص به كل من عصر الازدهار، وعصر الضعف والوهن: “كان أسلوب الكتابة سهلا ميسرا لا تعقيد فيه، فالعبارة واضحة، والحكم صريح، وأبواب الاجتهاد مفتوحة في الاجتهاد المطلق، ثم في الاجتهاد المذهبي، وطرائق الاستدلال بينة، وقلما توجد التفريعات الفرضية البعيدة الاحتمال، ثم خلف ذلك الرعيل تلاميذ آخرون قصر جهدهم عن الإنتاج المبتكر فسلكوا في التأليف طرقا ملتوية شاقة، بعدت عن الطريقة السهلة التي عرف بها المتقدمون.
وكان من أهم أسباب هذا “الوهن والهرم المقرب للعدم” في هذه الفترة الزمنية الممتدة إلى عصرنا أمور منها:
1 – طريقة التأليف: تغير نمط معالجة نصوص الشريعة الإسلامية، بينما كان تناول النصوص قديما يأخذ طريقة الاستنباط والنظر، وكانت المسائل التي تطرح سهلة وواضحة، صار التأليف يجنح إلى التعقيد والإيجاز في صورة المتن، وتتابع عليه الشروح والحواشي والهوامش، وقد يحول أحد الشروح إلى شعر منظوم ، ففي الحين كانت عبارات المتون مختصرة تعود في النهاية إلى عبارة مغلقة، وأصبحت الجهود تروح وترجع في دائرة مغلقة..وبقيت الفكرة أسيرة الكتاب الواحد، وهذا يعبر عن قصور الهمم وضعف أداء العلم في هذه الفترة الزمنية.
وكان دأب العلم وتدوين الفقه الإسلامي على ما سبق ذكره، ووضعت تصانيف متنوعة في هذا الشأن بالمنهج ذاته، إلا حالات نادرة يتميز فيها بعض الأفراد في التأليف، ويشق منهاجا جديدا على غرار المتقدمين في التأليف، بل يتفنن في ذلك، وفي مقدمة هؤلاء ابن تيمية كان ممن تحرر من ربقة التقليد، ويعد نقطة تحول كبيرة في تاريخ الفقه الإسلامي؛ فقد اعتمد في اختياراته الفقهية على النظر في الأدلة، والأخذ بالأقوى من آراء الفقهاء السابقين، واستخرج أحكام للقضايا الجديدة في عصره. [القطان: 398].
2 – القصور في واقع تدريس المواد الشرعية: كان التعليم في العصور الأولى يركز على الدراسات الإسلامية، ومنها تنطلق العلوم الأخرى، بمعنى أن العلوم الإسلامية تمثل المصدر الأول من الكتاب والسنة والأصول وسلوك الأفراد وغير ذلك، ولكن مع ضعف وحدة الأمة، وما تبع ذلك من تخلف فكري وغزو ثقافي، واستطاع أن تتسرب إلى المجتمعات المسلمة أفكار دخيلة، شككت في الدراسات الفقهية، واعتبرها متخلفة في ركب التقدم والتطور ومواكبة حاجات العصر، ووجدت كليات الحقوق أو معاهد الحقوق، في محاذاة كليات الشريعة، تدرس فيها نظريات الحقوق الغربية في العالم الإسلامي، وكان أحد أسباب تراجع الاهتمام بالعلوم الإسلامية والفقهية.
يقول مناع القطان: ” وقع الازدواج في الدراسات الفقهية؛ حيث توجد “كليات الشريعة” في معظم البلاد الإسلامية لدراسة الفقه الإسلامي ومصادره في جميع مجالات الحياة، وتوجد كذلك “كليات الحقوق” لدراسة الحقوق الغربية وقوانينها الوضعية، وزاحمت هذه تلك، وتوشك أن تضيق عليها الخناق، لتطمس معالم الدراسات الفقهية، كما هو معهود لدينا في بعض البلاد”.
3 – ضعف الالتزام الديني والتطبيق العملي للفقه الإسلامي: ترتب على السببين الماضيين، انحسار الأخذ بالفقه الإسلامي، والعمل على منواله في المجتمعات الإسلامية، تبعا لتأثير الغزو الفكري الملحوظ على صعيد التعليم والتطبيق، وتبعا لكثرة احتكاك المسلمين بثقافات غربية وافدة، وضعف العلم الشرعي في أوساط المسلمين.
وبدأت بوادر ضعف الالتزام الديني بأحكام الشريعة تلوح وتظهر، مع أحكام الجنايات والحدود – وهو ما يسمى بالعقوبات- وتشمل: القصاص في النفس وما دونها، وحدود الزنا، والقذف، والسرقة، والشرب، والردة والبغي، والحرابة؛ “وذلك حين أحدثت الخلافة العثمانية قانون الجزاء العثماني، سنة 1840م وهو ترجمة لقانون الجزاء الفرنسي، مع شيء من التعديل، فسرى هذا القانون على عامة البلاد الإسلامية، وبذلك تعطل جانب من جوانب الفقه الإسلامي في مجال التطبيق”. [القطان: 400 – 402].
4 – التوسع في فقه الفرضيات: وهذا السبب اختار الدكتور أحمد شلبي أنه أهم الأسباب التي أدت إلى القصور الفقهي حتى دعوى إغلاق الاجتهاد، حيث اعتبر فقه الفرضيات في عصور ما بعد المذاهب نظاما أثر في تاريخ التشريع الإسلامي تأثيرا بالغا، وأطلق التلاميذ أتباع المذاهب لخيالهم العنان، وبدأوا يضعون الفرصيات والألغاز والأجوبة عليها، وكان من هذه الفروض ما لا يمكن تصوره ولا حدوثه، وبعض هذه الفروض تتميز بالتعقيد والتصنع. قال شلبي: وكان هذا من أهم الأسباب التي تسبب عنها وقف اجتهاد العلماء فيما بعد. [شلبي: 198].