هو أحد رجال العلم والفقه والتفسير، من المالكية السلفية في المغرب، علامة وفقيه من أهل فاس، سكن مكناس وجدة والرباط. ودرس في جامع القرويين. وتقلّد الإمام الحجوي عدة وظائف منها التوثيق لصوائر دار المخزن بمكناس، وفي سنة 1320هـ، رُقِّي إلى وظيف أمين ديوان مدينة وجدة، ثم سفيرا للمغرب بالجزائر، كما أشرف على عدة وزارات كوزارة العدل ووزارة المعارف. ترك وراءه آثاراً علمية معتبرة ناهزت المائة بين كتاب، ومختصر، ورسالة، ومحاضرة، ومقالة وقد طبع الكثير منها.
لعل من أشهر المصلحين في مجال الاجتهاد الفقهي والدعوة إليه، ومحاربة التقليد، والعاطفين عليه، نجد الإمام الشوكاني وجمال الدين الأفغاني والإمام محمد عبده، والذين سبقهم من المجتهدين والمصلحين من بينهم: محمد بن عبد الوهاب ، وشاه ولي الله دهلوي في الهند، والمهدية في السودان، والسنوسية في ليبيا، بالإضافة إلى بعض اصحاب الاتجاهات الفكرية التي اتصفت بصبغة علمانية ليبرالية، كرفاعة الطهطاوي، لا سيما في كتابه (تلخيص الإبريز في تلخيص باريز).
أما في العصر الحديث فقد برز مجموعة من الفقهاء الكبار، ونخص بالذكر في هذه الورقة الذين انبروا للدفاع و إصلاح المجتمع المغربي، ومن بينهم الفقيه الدعوي المصلح محمد الحجوي الثعالبي (1874-1956)، الذي يعتبر نموذجا متميزا للتيار السلفي المتنور في معالجة إشكالات التحديث.
يقول بن سعيد الغلوي في هذا الصدد: “لقد بلغ خطاب التحديث السلفي مدى بعيدا جيدا في المغرب مع الفقيه الحجوي، وفي قراءة ما كتبه مؤلف “الفكر السامي”ما يغري بالقول بمد قنوات من الحوار مع الخطاب الليبرالي..بل شكل ذلك الخطاب جرأته في الدعوة الى تحديث الدولة والمجتمع”. لذا فإن الفقيه الحجوي لم يتجه بدعوته الإصلاحية إلى العودة إلى المعايير الأصولية البعيدة عن كل إبداع، ولكن كان همه هو إدماج الجانب العقائدي بالحداثي، عن طريق جعل الحداثة فاعلة في الإصلاح وتوجه بالتشريع الإسلامي الى منهجية الأخذ بالرأي الراعي للمصالح العامة.
سيرته ونشأته
هو محمد بن الحسن بن العربي بن محمد بن أبي يعزى بن عبد السلام ابن الحجوي الثعالبي الجعفري الفاسي، ولد يوم رابع رمضان سنة 1291هـ بمدينة فاس. تلقى الحجوي في المرحلة الابتدائية والإعدادية مجموعة من العلوم الضرورية لطالب تلك المرحلة، دخل إلى جامع القرويين ، فتلقى العلوم التي تدرس فيها، ولازم أساتذتها الكبار أمثال :
محمد بن التهامي الوزاني و محمد بن عبد السلام كنون ومحمد القادري وأحمد بن الخياط وأحمد بن سودة وعبد السلام الهواري والكامل الأمراني. ولما أتم الحجوي تحصيله أجيز للتدريس وشرع في إلقاء الدروس بجامع القرويين ، فشاع في الناس ذكره وفضله. تقلد الحجوي عدة وظائف نذكر منها: سفارة المغرب في الجزائر (1321 – 1323) وولي وزارة العدل فوزارة المعارف.
وينتسب الفقيه المفسر العلامة المتفنن أبو عبد الله محمد بن الحسن الحجوي إلى قبيلة “حجاوة” التي توجد بالغرب قرب بني حسن.
نشأ مترجمنا وترعرع في حضن جدته وكانت فقيهة جليلة، والتي حرصت على أن يشب حفيدها على أحسن وجه، وذلك من خلال بث روح النشاط المؤدي إلى الإقبال على العلم والتحصيل، حتى إنه يقول عنها: “مرآة أخلاقها وأعمالها في الحقيقة أول مدرسة ثقفت عواطفي، ونفثت في أفكاري روح الدين والفضيلة، فلم أشعر إلا وأنا عاشق مغرم بالجد والنشاط، تارك لسفاسف الصبيان، متعود على حفظ الوقت..”.
ولقد كان الجو العلمي الذي ترعرع فيه الحجوي الأثر الكبير في أن يطبع في نفسه حب العلم، والتعلق بتحصيله والاشتغال به، ولذلك دخل الكُتاب لحفظ القرآن الكريم وهو ابن سبع سنوات، فأتقن الكتابة، والقراءة، والتجويد، والرسم، والحساب، ومبادئ الدين، ثم التحق بعد ذلك بجامع القرويين سنة (ت:1307هـ)، فتلقى العلوم التي تدرس فيه، ولازم أساتذته الكبار أمثال محمد بن التهامي الوزاني)ت:1311 هـ (، وعبد الله الكامل الأمراني)ت:1321 هـ(،وجعفر بن إدريس الكتاني (ت: 1323هـ)، ومحمد بن محمد بن عبد السلام كنون (ت: 1326هـ)، وعبد السلام بن محمد الهواري (ت:1328هـ)، ومحمد بن قاسم القادري (ت:1331هـ)، وأحمد بن محمد بن الخياط (ت:1343هـ)، وأحمد بن الجيلاني الأمغاري (ت:1325هـ).
وبعد أن تخرج الإمام الحجوي من جامع القرويين وجمع من العلم أنواعاً، تصدى للتدريس به بعد أن أذن له شيوخه الكبار بذلك سنة (ت:1316هـ).
مؤلفاته
لم يكتف الحجوي بالتدريس فحسب، بل ترك خلفه آثاراً علمية جمّةً ناهزت المائة بين مطول، ومختصر، ورسالة، ومحاضرة، ومقالة وقد طبع الكثير منها. وللعلامة محمد الحجوي الثعالبي أزيد من 95 مؤلفا، حيث له كتب مطبوعة، وفي مقدمتها كتابه المشهور (الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي) أربعة أجزاء، و (ثلاث رسائل في الدين) و (المحاضرة الرباطية في إصلاح تعليم الفتيات في الديار المغربية) أحدث ضجة، وأتى بفائدة، و (التعاضد المتين بين العقل والعلم والدين) محاضرة، ومثلها (مستقبل تجارة المغرب) و (الفتح العربيّ لإفريقيا الشمالية) ألقاها في الخلدونية بتونس، و (مختصر العروة الوثقى) ذكر فيه شيوخه ومن اتصل بهم، كما لديه عدة كتب أخرى في الفقه والتفسير وغير، نذكر منها:
- تفسير الآيات العشر الأولى من سورة قد أفلح
- تفسير سورة الإخلاص
- حكم ترجمة القرآن
- النظام في الإسلام
- الرحلة الأوروبية عام 1919
الفكر السامي في الفقه الإسلامي
كتاب “الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي” كتاب جليل لعالم تحرير مدقق من جهابذة الخلف، تناول مُؤَلَّفَه نشأة العلوم الإسلامية، وهي متشعبة لكنه ربط هذا بفقه فجعله باب الكتاب فأجاد وأفاد عليه – رحمة الله. ويقول محقق الكتاب في مقدمته : إنما غاية هذا “الفكر السامي” تصور اجتهادي مع دعم ذلك التصور بالحقائق التاريخية الثابتة، فهذا مؤلف فريد في بابه، عظيم في جوابه، قسم فيه مُؤلِّفه مادته إلى أربعة أقسام:
القسم الأول: سماه: “طور الطفولية”, ويعني: نشأة الفقه، وهو الذي يبدأ ببعثة النبي -ﷺ، وينتهي بوفاته.
القسم الثاني: سماه: “طور الشباب”, وهو عصر الاجتهاد، ويبدأ ببداية عهد الخلفاء الراشدين, وينتهي بنهاية القرن الثاني.
القسم الثالث: سماه: “طور الكهولة”, وفي هذا الطور بيَّنَ فيه المؤلف توقف الخط البياني للفقه عن الصعود، أي أنه لم تُضف للفقه أيّ إضافات جديدة بحركة الاجتهاد، إنما انتشر خط جديد وهو التقليد والركون إليه.
القسم الرابع: سماه: “طور الشيخوخة والهرم المقرب من العدم”, وهو عنوان يتحدث عن مضمونه فلا يحتاج إلى تفصيل, ويبدأ ببداية القرن الخامس إلى وقتنا هذا. ومما لا شَكَّ فيه عظم الخطب المتناول في هذا التصنيف البديع.
ثناء العلماء عليه
قال العلامة محمد الطاهر بن عاشور : « .. و من أبهر الكواكب التي أسفر عنها أفقنا الغربي في العصر الحاضر، وكان مصداق قول المثل : “كم ترك الأول للآخر” الأستاذ الجليل، والعلامة النبيل، وصاحب الرأي الأصيل، الشيخ محمد الحجوي المستشار الوزيري للعلوم الإسلامية بالدولة المغربية، فلقد مد للعلم بيض الأيادي بتآليفه التي سار ذكرها في كل نادي .. “.
وقال العلامة عبد الفتاح أبو غدة “العلامة النابه البارع، الإمام فقيه المغرب الأقصى، الأصولي المتفنن الشيخ محمد بن الحسن الحجوي المغربي”.
واعترافا بمكانته العلمية أثنى عليه العلامة عبد السلام بن سودة (ت:1400هـ)، بقوله: “العالم المشارك المدرِّس المؤلف”، وحلاه الأستاذ عبد الله الجراري (ت:1403هـ)، بقوله: “من العلماء المتحررين كما يتجلى ذلك من خلال كتبه وتآليفه … يُعد في علية علماء المغرب الذين تفتخر بهم معلمته الثرية والغنية بالعلوم والفنون”.
أفكاره الدعوية وإصلاحاته النهضوية
من أهم الأفكار والإصلاحات التي نادى بها الفقيه والأستاذ محمد الحجوي، والتي لها علاقة بقضية النهضة الفقهية، مايلي:
تجديد الفتوى: كان في زمن الحجوي فقهاء معروفين بالتقليد، ولا يوجد من بينهم في المغرب آنذاك من يدعون إلى الاجتهاد، لذلك كان الفقيه الحجوي يواجه المتاعب ويتحمل المعاناة في سبيل اقناع التيارات التقليدية المتحجرة المعادية للتطور التحريري، فكانت وسائل الإقناع عنده مبنية على القياس كأساس للبحث عن كيفيات قولبة الأحكام الشرعية على نوازل العصر.
وكان الفقيه الحجوي يربط الاجتهاد بالتحديث باعتبارهما ديناميتين تؤثر احدهما على الأخرى، فيرى بأنه كلما تقدمت مظاهر التحديث، برزت معالم الاجتهاد وظهر فقهاء الاجتهاد، كما أن استمرارية الاجتهاد لا تخلو من أثار النزوع إلى التطور والتحديث، لذا يقول: “ويظهر لي أن ندرة المجتهدين أو عدمهم هو من الفتور الذي أصاب عموم الأمة في العلوم وغيرها، فإذا استيقظت من سباتها وانجلى عنها كابوس الخمول، وتقدمت في مظاهر حياتها التي اجلها العلوم، وظهر فيها فطاحل علماء الدنيا من طبيعيات ورياضيات وفلسفة، وظهر المخترعون والمكتشفون والمبتكرون كالأمم الأوربية والأمريكية الحية، عند ذلك يتنافس علماء الدين مع علماء الدنيا فيظهر المجتهدون”.
الدعوة إلى التفكير التحرري: وذلك من خلال مجموعة من مؤلفاته المطبوعة، ومذكراته المحفوظة بالخزانة العامة والتي تناولت بكثير من الدقة مسالة التوفيق بين التصورات الحداثية وأحكام الشريعة.
ومفهوم الحرية الفكرية عند الفقيه الحجوي هي: ممارسة علماء الأمم ومثقفيها للاجتهاد ممارسة مستمرة لا تتوقف ولا تعجز إمام أي ظاهرة من ظواهر التطور الحضاري والفكري، ذلك ان الاستبداد – يرى الحجوي في نفس السياق – ماح أو مضاد للاجتهاد ولحرية الفكر، إذ هي – أي الحرية- من دواعي الاجتهاد، ولا شك أن الأمم الإسلامية لا تشغل مقاما ساميا بين الأمم مادامت ناقصة في هذا الميادين، وهي محتاجة لمجتهدين بإطلاق، عارفين بعلوم الاجتماع والحقوق، يكون منهم أساطين لسن قوانين دنيوية طبق الشريعة المطهرة تناسب روح العصر، وتنطبق على الأحوال المتجددة والترقي العصري كما يوجد عند سائر الأمم لجان من الفطاحل المشرعين في مجالس النواب والشيوخ لهذا الغرض…ولا عبرة بأمة لم تعرف حقوقها فتحفظها ولم تؤمن عامتها شر خاصيتها فذهبت حقوقها وضاعت ثروتها بين المرتشين والمداهنين.
إن الإطلاع الموسوعي للحجوي على التراث الفقهي والسياسي والقانوني والتاريخي الإسلامي ومقارنته بمعطيات الحضارة الغربية في عصره بلور لديه رؤية إصلاحية مستنيرة من أهم سماتها الشمولية ، وهو خلاف الكثير من معاصريه لم يقده الانبهار بمنجزات الغرب إلى الدعوة إلى الانسلاخ عن قيم أمته وثوابتها بل كان لا يرى لأمته مستقبلا خارج هذه الثوابت .
دعا الحجوي إلى إصلاح التعليم لأنه أصل التغيير ومنشؤه فاضطلع بمهمة إنشاء المدارس وتحديثها أثناء تقلده لمنصب مندوب المعارف في عهد الحماية الفرنسية وعمل على تغيير مناهج التعليم وتطويرها ودعا إلى تدريس اللغات الأجنبية والاطلاع على منجزات الحضارة الغربية، والتخلص من ربقة التقليد والجمود.
وما دامت النساء شقائق الرجال في الأحكام فالحجوي يرى أن تعليمهن من أولى أولويات الإصلاح وكان لدعوته هذه أثر أي أثر في إقبال نساء المغرب على طلب العلم وقد ذكر العلامة عبد القادر المغربي عضو المجمع العلمي العربي بدمشق أن محاضرة الحجوي المسماة “المحاضرة الرباطية في إصلاح تعليم الفتيات في الديار المغربية ” أدت إلى تقدم مدهش على مستوى إقبال النساء على التعليم داخل المغرب وخارجه.
ويختزل الفقيه الحجوي توجيهاته النهضوية الإصلاحية في مجموعة من الصيحات والنداءات التي حفلت بها مؤلفاته ومحاضراته ومقالاته:
- فكرة النظام والتنظيم في ميادين الحياة.
- الدعوة إلى إصلاح التعليم وتعميمه على البنات، ومحاربة الأمية.
- نقد نظام جامعة القرويين وإعداد برنامج إصلاحي لها.
- تجديد الكتب المدرسية.
توفي هذا الإمام الجليل بعد عطاء علمي غزير، يوم الاثنين 3 ربيع لاول عام 1376 هـ، الموافق ل: 8 اكتوبر 1956م، في أحد مستشفيات الرباط، عن سن تناهز خمسة وثمانين عاما ودفن في فاس.