كثر اللغط  وشاعت المغالطات في زمن الجائحات والنوازل،  وضاقت الساحة بالوقحاء وعرضت العورات وخصوصيات الفرد والمجتمع والأوطان للكشف المبرح من غير صدق ولا حياء، ومع هذا يدافع البعض عن هذا الهراء وتصرف في سبيله الأموال وتجند له القنوات. كل ذلك بزعم أن هذا هو الصحيح وما يجب أن يكون أو ما هو كائن وواقع. إذن فالواقع هو المحكم، ودع الفضائل والقيم خارج الاعتبار أو التوظيف جانبا. وهكذا انقلب الرِّذل إلى علًم ونجم ساطع، يصول ويجول عبر القنوات والمواقع،  يتقيأ الفضلات وينفث الزعانف المقرفة من غير ذوق ولا صدق ولا حياء !.  

ولا أريد أن أعين بعض تلك القنوات، والمواقع، وحتى الأشخاص، وهي كثيرة ولكنها على خط واحد من الرعونة، التي تتناول الحديث عن الدين والوطن وقضايا المجتمع والعلاقات،  والشهوات والجنس والشذوذ والانحراف العقدي والنفسي والسلوكي عموما، لا ممنوع لديها ولا حدود، ولا مبادئ ولا قيود. لأن الجميع يعرفها والكثير يعافها، ويشمئز منها ويشك في نواياها وغاياتها، التي في النهاية ليست سوى معول هدام للقيم ومحارب للدين والمجتمع السليم. ولكن إياك أعني واسمعي يا جارة!

والأسوأ من هذا هو استضافة أشباه المفكرين والعلماء للحوارات، حيث يبدو ضعف الاحتجاج ونقص الذكاء ومعه  قلة الحياء، فيكون صوت الوقح هو الغالب في الظاهر ويمرغ،  في توهمه، الدين والأخلاق والعلم الموضوعي تمريغا، بزعم علم النفس وحرية الفرد وحقوقه،  ولا من يناصر أو يحذر. . . و:  “إذا لم تستحي فافعل ما تشاء”.

أولا:  التفسير السلوكي  بين الثوابت الصحية والظاهرة المرضية   

    ومن باب تصحيح المفاهيم ودرء المفاسد أقول: إن التحري الذي سلكه المسلمون  في بحوثهم النفسية والأخلاقية  قد يتخطى ويضاهي في كثير من  جوانبه مناهج الدراسات الحديثة التي لم تخل من نقائص وخلل في التعليل والاستنتاج رغم ادعائها للتجربة والموضوعية في مجال العلوم الإنسانية وعلم النفس بصفة خاصة.   

   1)  فالمنهج الذي سلكه مثلا سيجمند فرويد مؤسس المدرسة التحليلية (1939)بالتركيز على شخصيات محددة معلولة لا تتعدى أصابع اليد الواحدة، وخاصة شخصية هانز الصغير الذي كان يمثل محور دراسته، لا يفيد العلم اليقين بالنتائج المتحصل عليها من خلال هذا النمط  من البحث والخاص بتحديد القلق ومفهوم خواف الأطفال من الحيوانات[1].  

     إذ أن طريقة التحليل هذه التي شملت شخصية هانز الصغير قد كانت تعتمد على الاحتمالات أكثر مما تفيد القطع والثبوت بصورة برهانية على صحة النتائج المحصل عليها، وهذا ما جعل فرويد يظهر بصورة المتردد في إقرار نظريته.

    بل قد عبر صراحة عن هذا الضعف الذي كان يختلجها، وذلك حينما شعر بتناقض في إحدى نظرياته عن العرض وأسبابه عند هانز بأنه”لو أن العرض الرئيسي الذي أظهره كان في الواقع عداوة من هذا النوع لا ضد أبيه وإنما ضد الخيول، لما كنا نقول،  وهذا يبدو غريبا أنه مصاب بعصابولا بد أن يكون هناك خطأ ما إما في نظريتنا عن الكبت وإما في تعريفنا للعرض[2].

     أيضا فقد نجد هذا التشكك يظهر عند الحديث عن الشخصية الثانية في بحوثه وهو الشاب الروسي وخوفه من الذئب، حيث يحلل سبب خوفه منه على غرار ما حصل لهانز بأنه”من المحتمل أن والد هذا المريض الروسي كان يقلد الذئب أثناء لعبه معه وكان يهدده مازحا بأنه سيأكله”[3].

    فعن النتائج التي تحصل عليها أثناء البحث في الشخصية النفسية لهانز الصغير تطرح تساؤلات عدة حول قيمة شهادتي هذا الطفل الصغير وأبيه بصفة خاصة إذ كانت”تقارير الأب عن سلوك هانز عرضة للشك في كثير من المواضيع، وعلى سبيل المثال فقد حاول الأب أن يقدم تفسيراته لملاحظات هانز وكأنها حقائق مقررة، كما أن شهادة هانز نفسه لا يمكن الاعتماد عليها إطلاقا لأسباب عديدة، فلقد ذكر كذبات عديدة في الأسابيع الأخيرة لمخاوفه المرضية، بالإضافة إلى أنه قد قدم العديد من التقارير غير المنسقة والمتعارضة أحيانا، والأهم من ذلك هو أن معظم ما قدم على أنه آراء هانز ومشعره كان ببساطة عبارة عن كلمات الأب.

    ويقر فرويد نفسه بذلك ولكنه يحاول أن يتغاضى عنه حين يقول:  

   “في الحقيقة إنه خلال عملية  التحليل كان لابد أن يقال لهانز أشياء كثيرة لا يمكنه قولها بنفسه، وكان لابد أن يمد بأفكار لم يبد أي إشارة لامتلاكه إياها، كما أن انتباهه كان لابد أن يوجه في الاتجاه الذي يتوقع منه الأب شيئا ما، وقد يقلل هذا من القيمة البرهانية للتحليل، ولكن نفس الطريقة تتكرر في كل حالة وذلك لأن لتحليل النفسي ليس مجرد فحص علمي صرف ولكنه وسيلة علاجية”.

2)  ويقول وولب وراخمان تلخيصا لهذا بأن:  ” شهادة هانز لا تخضع فحسب لمجرد الإيحاء ولكنها تحتوي أيضا على مواد كثيرة ليست من قوله على الإطلاق”[4].

   فإذا تتبعنا الاستبيانات التي تحصل عليها فرويد من أب الصغير هانز ونوع الأسئلة التي طرحت عليه لكي يدلي برأيه لوجدنا أن هناك خللا واضحا وإبهاما حول الطريقة التي وصل بها فرويد إلى بناء نظريته النفسية.

    من بين مظاهر هذا الخلل المنهجي هو أن المادة التي قام عليها تحليله قد: “تم جمعها عن طريق والد الصغير هانز الذي ظل على صلة بفرويد عن طريق تقارير مكتوبة منتظمة، ولقد تمت بين الأب و فرويد عدة مناقشات تتعلق بالمخاوف المرضية للصغير هانز، ولكن فرويد نفسه لم يقابل الصبي الصغير خلال التحليل إلا مرة واحدة!!!”[5].

   من خلال هذا تبدو الموضوعية العلمية ضعيفة جدا عند فرويد، فهي لا تستند على وثاقة في الاستبيانات ولا إلى أحكام نظرية قطعية الدلالة ومبنية على منطق عقلي صارم، إضافة إلى غياب المراقبة المباشرة والمتواصلة من طرف المحلل النفسي للمريض، وأيضا حصر النظرية في مجرد شخصية وحيدة  و مريضة غير مستقرة أو سوية في إثبات الحقائق.

   فبالنسبة إلى هانز الصغير هناك احتمال تأثير نوع الأسئلة على الأجوبة الموجهة من طرف الأب له وصياغة بعض منها من طرفه لا من طرف المريض، وهنا قد يتدخل فهمه الشخصي وغياب تخصصه في نقل المعاني من الألفاظ وبالتالي توصيل الحقيقة مبتورة ومتكلفة، وهو ما يتنافى مع المنهج العلمي والطبي على الخصوص في تشخيص الأمراض على حقيقتها.  

    فلربما لم تكن للصبي، الذي كان يبلغ من العمر خمس سنين[6]، أية انشغالات بالمشاكل النفسية التي استنتجها فرويد[7]، بحيث قد كان ذهنه خاليا، لكن من خلال إثارة الأسئلة لديه أو الإجابة عن أسئلته المحدودة سيتولد لديه اتجاه خاص في سلوكه وشرود ذهني نحو مواضيع كان في غنى عنها لولا افتعال هذا الجو المسرحي[8] المستفز لمكامن شخصيته، التي كانت ما تزال في مرحلة انتقالية وعدم نضج على المستوى العقلي و العاطفي.

    لهذا فكل أحكامه في هذه المرحلة وفي موضوع يخص الكبار قد لا يعتمد عليها في بناء نظرية ما، كما لم تكن العشوائية يوما ما أساسا لنظرية أو حقيقة علمية.

    بالإضافة إلى هذا فإن الجانب الأخلاقي لدى الطفل في هذه المرحلة يكون غير مستقر ولا يملك حرية التصرف والاستقلالية السلوكية إلا بحسب الجو الذي نشأ فيه، وهذا ما ذهب إليه بعض المفكرين المسلمين كابن مسكويه الذي يرى أن:  “أول ما ينبغي أن يتفرس في الصبي ويستدل به على عقلهالحياء فإنه يدل على أنه قد أحس بالقبيح،  ومع إحساسه به هو يحذره ويتجنبه ويخاف أن يظهر منه أو فيه، فإذا نظرت إلى الصبي فوجدته مستحييا مطرقا بطرفه إلى الأرض غير وقاح الوجه ولا محدق إليك فهو أول دليل نجابته والشاهد لك على أن نفسه قد أحست بالجميل والقبيح وأن حياءه هو انحصار نفسه خوفا من قبيح يظهر منه.  

    وهذا ليس بشيء أكثر من إيثار الجميل والهرب من القبيح بالتمييز والعقل، وهذه نفس مستعدة للتأديب صالحة للعناية لا يجب أن تهمل ولا تترك ومخالطة الأضداد الذين يفسدون بالمقارنة والمداخلة”[9].

ثانيا:  فضيلة الحياء دليل الشخصية السوية والتوازن النفسي

   1) هذه الخصلة المميزة للطفل في أول نشوئه سيعتبرها  الماوردي من خصائص البنية السليمة له، وهي تعبر في حضورها وغيابها عن انعكاس للأوضاع العامة لاشعوريا على الطفل التي قد يكون عليها مجتمع ما[10].

    نفس الشيء سيذهب إليه الغزالي بخصوص تأثير البيئة على الطفل من حيث اكتسابه للفضائل والرذائل، في حين قد تكون هذه الأخيرة أقرب إليه وله نزوع نحوها إذا لم يوجه التوجيه الخلقي السليم لأنه:  

   “مهما أهمل  في ابتداء نشوئه خرج في الأغلب رديء الأخلاق حسودا سروقا نماما  لحوحا ذا فضول وضحك وكياد و مجانة[11].

    فليس مستبعدا أن يكون هانز الصغير من نموذج الطفل الذي ذكره الغزالي  في هذا النص التحليلي الذي يصف لنا نفسيته المهملة عند النشوء، بحيث ستكون النتيجة العلمية- في زعم فرويد-التي توصل إليها مجرد مجانة واستهتار،  وسخرية ذلك  الصبي من المحللين لنفسيته والمثيرين لأسئلة غريبة ومتجرئة على براءة طفولته وحيائه!!!.

     فلو أن فرويد جاء إلى مجتمع إسلامي نظيف وملتزم،  واتصلت أبحاثه بصبي مسلم له نشوء مبني على الحياء  فإنه قطعا سيجد أن أحكامه ونتائجه عن هانز، وإسقاطها على المجتمع ككل والإنسانية أيضا، قد كانت مجرد أوهام بنيت على شخصية غير سوية بالافتعال سلوكا وأخلاقا، ومن ثم فلن تصلح نظرياته هاته لكي تعمم على كل الناس وتصير قانونا وحتمية علمية تتحكم في مساراتهم واتجاهاتهم السلوكية.

    فما يزيد الطين بلة من حيث إبراز خلل  منهج فرويد في البحث النفسي هو اعتماده على الأساطير[12]! في إثبات نظريته و دون التأكد من صحة القصة التي يوردها، كان من أهمها أسطورة أوديب اليونانية [13]، بحيث لا يرى:  “في هذا الموضوع الميثولوجي مجرد إثبات لحقيقة أن الرغبات الجنسية هي أساس نشاط الإنسان فحسب، بل ويعتبره تأكيدا لفكرة وجود تلك المركبات (العقد)الجنسية الكاملة –حسب رأيه-في الإنسان منذ الطفولة “.

    فكان التفسير الفرويدي للرغبات الجنسية بعيدا كل البعد عن النظرية العلمية للمسألة، وما يدل على وهمية حجج فرويد، يكفي أن نذكر التوجه إلى الاستعارات الميثولوجية”[14].

    إذا كان هانز الصغير فيما أجريت عنه من دراسات وبنيت عليه من نظريات يمثل جوهر طريقة فرويد والمحللين النفسيين بشكل عام فإنه توجد طريقة أخرى مشابهة لها من حيث اعتماد شخصية طفل صغير في الدراسة النفسية.

    هذه الطريقة توضح وجهة نظر بافلوف الباحث  النفسي الروسي والسلوكيين[15] بصفة عامة، وهي تعتمد على طفل صغير آخر أمريكي يدعى ألبرت درس حالته ج. ب. واطسون، المؤسس الشهير لمدرسة السلوكيين، الذي أوضح أنه يمكن بالتأكيد تكوين المخاوف المرضية تجريبيا باستخدام وسائل كتلك التي استخدمها بافلوف في عملية تكوين التشريط  البسيط محاولا أن يثبت ذلك بالاستفادة من الصغير ألبرت الذي يبلغ من العمر أحد عشر شهرا[16]، ودراسة علاقته بالفئران وخوفه منها لبناء نظرية.

    كما أن بافلوف سيقوم بنقل المظاهر النفسية للكلب وجعلها قانونا لدى الإنسان وتقرير نظرية الانعكاسات الشرطية وتعميمها . . .

2) ليس قصدنا في هذه العجالة مناقشة المدارس النفسية الحديثة أو مقارنتها بالإسلامية، لكن الهدف هو محاولة تسليط الضوء على المنهج الذي سلكه المسلمون للحصول على معلوماتهم النفسية والمتمركزة أساسا حول موضوع الحياء والصدق، ومعه موضوع الحب كما ركزعليه ابن حزم الأندلسي في كتابه” طوق الحمامة”،  وذلك بتبيين أهمية هذا المنهج وقوته في إكساب المعرفة الحقة .

   فإذا كنا قد غلبنا الحديث عن فرويد أكثر من غيره فيما يخص علماء النفس المحدثين فليس ذلك إلا لأن كتاب”طوق الحمامة” أيضا يهم جانبا مهما من جوانب التحليلات النفسية عند فرويد، بل يجعلها محور النشاط الإنساني ألا وهو: الحب الجنسي وانفعالاته، لكن مع وجود تباعد كبير بين وجهة نظر كل منهما  حول هذا الموضوع سواء في دوافعه[17] أو غاياته وحضوره، وكذلك في طريقة إثبات الظاهرة ونوع العينة، وهذا ما لا يسمح المجال الآن بتفصيل النظر فيه. ولكن في النهاية فإن ابن حزم كغيره من المفكرين المسلمين جعل من الموضوع مدعاة للحياء والصدق والتوثيق الميداني، مع اعتبار الشخصية السليمة في أخذ العينة والمعلومة. إذ ما اعتمد على مرض لا ينتج سوى المرض وما أسس على رعونة لا يفرز سوى الرعونة، وما بني على باطل فهو باطل. . . “فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض”. . .


[1] سيجمند فرويد: الكف والعرض والقلق، ترجمة الدكتور محمد عثمان نجاتي،  دار الشروق بيروت، ط3-1403-1983  ص168

[2] نفس ص71

[3] نفس ص72

[4] هـ. ج أيزنك: الحقيقة والوهم في علم النفس، ترجمة قدري حفني ورؤوف نظمي، دار المعارف بمصري ص116

[5] نفس  ص107        

[6] نفس ص105

[7] فرويد: الكف والعرض والقلق ص67

[8]هـ. ج أيزنك: الحقيقة والوهم في علم للنفس ص118

[9]  ابن مسكويه: تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق، مطبعة محمد عي  صبيح وأولاده، مص  ص58

[10] الماوردي: أدب الدنيا والدين،   تصحيح محمد  محمد محيسن ص168

[11] الغزالي: إحياء علوم الدين، مطبعة محمد علي صبيح وأولاده،  مصر ج3ص62

[12] فرويد: الكف والعرض والقلق ص73

[13] فرويد: تفسيرالأحلام، ترجمة مصطفى صفوان،  دار المعارف بمصر ط2ص277

[14] فاليري ليبين: مذهب التحليل النفسي وفلسفة الفرويدية الجديدة ص44

[15] هـ. ج. أيزنك: الحقيقة والوهم في علم النفس ص94

[16] نفس  ص122

[17] ابن حزم: طوق الحمامة   ص24