لعل الفلسفة – كطريقة عقلية للمعرفة والمنطق – من أعظم اختراعات العقل البشري وأهم إبداعاته على امتداد تاريخه، ويمكن اعتبار الإغريق أول من أنتج الفلسفة بمفهومها الشامل والمتكامل، ولذلك تعد الحضارة اليونانية أهم حضارة للمعرفة والعقل في التاريخ باعتبارها حضارة مهدت للحضارات البشرية المتعاقبة، وقاعدة تأسيسية لمنتجاتها المعرفية والعلمية اللاحقة.
وإذا كانت وظيفة الفلسفة هي صياغة الأسئلة الصحيحة والإجابة عليها بشكل صحيح ضمن المجالات الرئيسية التي تبحث فيها من مثل: (ماهية المعرفة وطرائقها – فلسفة الماورائيات – فلسفة القيم – فلسفة الأخلاق – فلسفة العلوم – …الخ)، فإن الخوض فيها وممارستها واجبة على كل إنسان في كل زمان ومكان.
ولكن هذا بشرط أن تكون الأسئلة المطروحة ضرورية ومهمة لحياة الإنسان ولوجوده، وبفرض أن تلك الأسئلة لم تجد أجوبتها الصحيحة، أو ظلت معلقة بأجوبة نسبية دون إجابة قاطعة.
ومن هنا يستطيع المسلم المؤمن بالله ورسله وكتبه أن يقول بكل ثقة وبدون تردد: أن الحاجة الحقيقية لوجود الفلسفة والمبرر لممارستها بدأت نهايتها مع قوله تعالى: ” اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ” وانتهت كلياً مع قوله تعالى: “الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا “، فلم تعد الفلسفة واجبة وضرورية بالنسبة له عندما وجد الحق المبين وحاز الحقيقة المطلقة حين أجاب الوحيُ الأمين على أسئلة الإنسان الكبرى والخالدة، وأطلعه على حقائق الأمور وغاية الوجود، فاقتنع عقله واطمئن قلبه.
وبناءً عليه، فليس عند المسلم – برأيي الشخصي – أي حاجة للتبحر في الفلسفة أو التفلسف إلا في سياق:
- دراسة تاريخ الحضارات وتطور الفكر والعقل البشري.
- الرد على الفلسفات المناوئة للإسلام والمناقضة لعقيدته وتصوره المعرفي والوجودي والقيمي، وتعلم فنون المنطق والمحاججة العقلية لاستغلالها في الدعوة إلى الله تعالى وإبطال دعاوي أتباع الملل والنحل الأخرى، ونقض حججهم بسلاحهم، وذلك من باب مداواة أصل الداء بجنسه، كاستعمال الترياق لإبطال مفعول السم.
ويمكن القول أن هذه المقاصد هي التي دفعت بعض المسلمين لدراسة الفلسفة وتفحص أقوال الفلاسفة والرد عليهم، وبموجبها نشأ ما يعرف بالفلسفة الإسلامية وما تفرع عنها كـ “علم الكلام “، فكان الغرض الأول للمشتغلين بالفلسفة من المسلمين هو الدفاع عن العقيدة وإثبات فوقية الإسلام وصحة تصوراته وأحكامه بالطرق العقلية والمنطقية، وقد أجادوا في ذلك ووفقوا إلى غايتهم، وكان إمام ورائد هذه المدرسة عبر التاريخ حجة الإسلام ” الإمام أبو حامد الغزالي ” رحمه الله.
وقد نَفَرَت طائفة من المسلمين في الماضي والحاضر للتوفيق بين الدين والفلسفة عن حسن نية وعن قناعة صحيحة في أصلها، وهي أن مقتضيات العقل السليم لا يمكن أن تخالف عقائد الدين وتقريرات الوحي، وهؤلاء الفلاسفة – وإمامهم الفيلسوف ابن رشد رحمه الله – اجتهدوا فأصابوا وأخطأوا، وكان جهدهم محموداً وسعيهم مشكوراً. أما تعلُّم المسلم للفلسفة فيما دون ذلك، فمن الفضول المعرفي الزائد وغير النافع، والخوض فيها خارج تلك المقاصد هو من بطر الكلام والفكر، ومن مظاهر التحذلق والتفلسف الممجوج، وقد يقع صاحبها في البدع والمغالطات التفسيرية لآيات القرآن وأحاديث النبي ﷺ، وقد يصل به الأمر إلى تحريف مقاصد الشريعة وإنكار بعض المسلمات الغيبية وأركان الإيمان في العقيدة، وهذا بالضبط ما حدث مع بعض فلاسفة المسلمين كابن سينا والفارابي وابن عربي، فالذي ينطلق من الوحي ومن أجل الوحي في دراسة الفلسفة وممارستها – كالغزالي وأبو الحسن الأشعري مثلاً -، لا كالذي ينطلق من الفلسفة ويحكم عقله بشكل مطلق في تفسير الوحي وشرح العقيدة.
ولأن ” كلَّ ما زاد عن حده أتى بضده “، فقد أصبحت الفلسفة الإسلامية في بعض مراحلها وجوانبها عبئاً على المسلمين وتراثهم الفكري عند خروجها عن مسارها السليم ومقاصدها المطلوبة، حين وصل المسلمون إلى درجة من التفلسف والجدل وفرط الكلام جعلتهم يختلقون قضايا ومسائل جديدة، فيجعلونها من صلب العقيدة ليحاكموا الناس بموجبها ويحكموا عليهم بالكفر أو الفسوق أو الابتداع ! فناقشوا وجادلوا بما لم يفرضه الله عليهم و (لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاَٰنًا وَمَا لَيْسَ لَهُم بِهِ عِلْمٌ)، وجعلوا من التفاصيل الهامشية وفضولِ المسائل صراطاً يتقلب عليه الناس بين الإيمان والكفر وبين الجنة والنار، وحشد أنصار كل مذهبٍ التفسيرات المتكلفة والتأويلات المستبعدة وحرفوا الكلم عن مواضعه ليفحموا خصومهم ويخرجوهم عن الملة فقط، فصاروا شيعاً (كُلُّ حِزْبٍ بمَا لَديْهِمْ فَرِحُونَ).
ولكن لا بأس للمسلم الذي التطمت به أمواج الفلسفة فتعرض لطروحاتها المغايرة وشبهاتها فاعتراه الشك دون قصد منه، أن يخوض في بحرها ويغوص في أعماقها شريطة أن يضبط بوصلته بالاتجاه الصحيح فيقصد الحق صادقاً ومخلصاً، وأن يتقن فنّها، فيتسلح بالمنطق الصائب والمنهجية العلمية الرصينة لكي يسدد ويقارب على هدىً وبصيرة، فيميّز الصواب من الخطأ والغث من الثمين، وعندها سيرسو على شاطئ الحق ويصل إلى المحجة البيضاء أكثر رسوخاً ويقيناً بإيمانه وإسلامه، وسينتهي به المطاف حينها كما انتهى ببطل القصة الرائعة التي خطها قلم الشيخ اللبناني نديم الجسر رحمه الله تحت عنوان (قصة الإيمان بين الفلسفة والعلم والقرآن)، لأنه سيجد الفلسفة كما وصفها الشيخ (أبو النور الموزون السمرقندي) في تلك القصة قائلاً: ” إن الفلسفة بحر، على خلاف البحور، يجد راكبه الخطر والزيغ في سواحله وشطآنه، والأمان والإيمان في لججه وأعماقه “.
أما الفلسفة في المجتمعات الغير إسلامية فقد وجدت اهتماماً مستمراً عبر العصور، وإن كان ذلك الاهتمام يتأرجح بين فترة وأخرى ويتباين بين مجتمع وآخر، خاصةً في تلك المجتمعات التي تمردت خلال فترة من تاريخها على أديانها المتوارثة وبدأت بمحاكمة معتقداتها وقيمها التقليدية بعد إسقاط حصانة القداسة التي أحاطتها لقرون، ولذلك فلا عجب أن تشهد الفلسفة ازدهاراً في أوروبا خلال عصر النهضة والتنوير وما بعده، ولا غرابة في أن تتجدد الفلسفة في العالم الغربي خصوصاً، لأن ” الحاجة أم الاختراع ” كما يقال، والحاجة عند غير المسلمين من الأقوام والأمم موجودة وملحة جداً، فالفلسفة ضرورية لهم ما داموا يعيشون في فضاء النسبية المطلقة، حيث لا أجوبة يقينية لعقولهم ولا تفسيرات مُرضية تطمئن لها قلوبهم، لأن ذلك مرتبط ببحث الإنسان الأزلي عن علة وغاية وجوده وعن حقيقة العلاقة الثلاثية بين الإنسان والحياة والكون، ولذلك فاللجوء للفلسفة عندهم دائمٌ طالما يأبون الاعتراف بصدق الوحي والرسالة المحمدية والإيمان بها.
ولما كان الفكر البشري نتاجاً لمعطيات الزمن وأوضاع المحيط الذي ينشأ فيه، فإننا نلحظ بوضوح عدم وجود “ثوابت” في معادلة الفكر البشري المستغني عن الوحي الإلهي، فقد كان يتطور ويتكيف بحسب متطلبات الزمن والوسط الاجتماعي والثقافي عبر التاريخ، وقد فرض هذا على الفلسفات البشرية الوضعية أن تبقى مؤقتة ومرحليّة تتغير وتتقلب وفقاً للتغيرات والظروف التي يفرضها تغير الزمان والمكان والثقافة، والمعايير والمبررات التي تنطلق منها هذه الفلسفات، أو تظل نسبية وقاصرة عن الوصول إلى الحالة المثالية التي ينشدها الإنسان وعاجزة عن تقديم التصور المنسجم والمتكامل عن غاية وجود الإنسان ووظيفته في هذه الحياة، كالفلسفة الرواقية والأبيقورية قديماً والفلسفة الوجودية حديثاً، بينما انتهى المطاف ببعض المذاهب الفلسفية في طريق مسدود وسوداوي لتخرج علينا كالفلسفات العدمية والعبثية.
والحق أن التفلسف المعاصر في معظمه عبارة عن مواربة والتفاف على الحق وهروب من مواجهة الحقيقة، وذلك لأن أكثر المتفلسفين غلّبوا في أنفسهم نوازع (الهوى) على نداء (الهدى)، وهذا ما يلاحظه أي قارئ موضوعي ومنصف في (أغلب) مدارس الفلسفة الحديثة والمعاصرة ونظريات الفلاسفة المتأخرين وأطروحاتهم – عند المسلمين وغيرهم -، حيث سيلاحظ الجدل العبثي والتفكر الوهمي وفيض الحديث فيما (لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ)، أو تكرار واجترار ما عفا عليه الزمن، وما ذاك إلا انعكاس واقعي لطبيعة الإنسان الذي يرفض التسليم بصحة الأدلة البيّنة والبراهين الواضحة المتوافقة مع مسلمات العقل السليم والمنسجمة مع ميول الفطرة النقية، فيعقّد المسائل البسيطة ويخلط الحابل بالنابل ويفترض مالا وجود له، وينقض أحياناً الأدلة المنطقية والمعايير المنهجية التي يتبناها ويطبقها عادةً فيناقض نفسه، وهذه طبيعة الإنسان التي عنتها الآية الكريمة في قوله تعالى: (وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَٰذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ ۚ وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا).
أما في عالمنا العربي والإسلامي، فقد امتطى بعضهم حصانَ الفلسفة رافعين شعار ” التنوير” زوراً وبهتاناً، فصار ” التنوير ” كلمة حقٍ يُراد بها باطل، إذ أنه غالباً ما كان هذا المصطلح يصدر عن شياطين الإنس في بلاد المسلمين في تحريفٍ واضح لمعنى “التنوير” الحقيقي والواقعي الذي يعني (إخراج الناس من الظلمات إلى النور) بالمفهوم القرآني والفهم الإسلامي، فتراهم ينشغلون بأقوال شوبنهاور ونيتشه وسارتر، ويشغلون الناس بلهو الحديث ليضلوهم عن سبيل الله، وذلك في مسعى عقيم لإشباع حاجتهم الروحية وإقناع أتباعهم بوجود غايةٍ وقيمٍ تستحق حياتهم وتهون عليهم آلامها ومصاعبها، وهيهات هيهات أن يصلوا لذلك بمنأى عن آيات الذكر الحكيم.
وعلى العموم، فقد خضعت الفلسفة في عصرنا لعملية تمييع لا تخرج عن إطار عملية التمييع الشاملة التي رافقت عصر العولمة وما بعد الحداثة، والتي شملت جميع جوانب الفكر والفنون والمهارات، فكانت تلك الظاهرة أحد أهم عوامل إنتاج زمن التفاهة الذي نعيش فيه، وذلك حين أصبح كل من رَصَف الكلمات والجمل كاتباً حتى لو كانت كتابته مبتذلة ولغته ركيكة الصياغة وعديمة المعنى، وحين تسلّق كل من هبّ ودبّ على موهبة الشعر فأصبح شاعراً رغماً عن الجميع ! حتى لو اغتصب القوافي وبحور الشعر، فلا حرج إذاً على كل من يهذي بما لا يدري ويهرف بما لا يعرف أن يسمى مفكراً وفيلسوفاً. مع أن هذه الألقاب والصفات تمنح من قبل الجمهور وأهل الاختصاص لصاحبها بعد أن ينال استحقاقها، وليس هو من يمنحها لنفسه !
بل إن (بعض) النصوص والمقالات والكتب الفلسفية المعاصرة أشبه بحشو الكلام الذي – أزعم أنه – لو اشتعلت فيه النار لما نقص من علم البشرية شيء ولما بكت عليه خزائن المعرفة ورفوف المكتبات، وإذا كان المعنى الحقيقي لكلمة (الفلسفة) في أصلها اللغوي الإغريقي هو (حب الحكمة)، فإن من رام الحكمة حقاً ليفضل أن يتّبع الأعرابي الذي يقتفي أثر البعير من البعر الدال عليه، على ذلك الفيلسوف المتكلف والمتحذلق الذي ينسج النصوص الطويلة المملة والشروحات المرصعة بالمصطلحات الغامضة والمبهمة، ليدخل القارئ في متاهة لو أراد الخروج منها ببضع جمل مفيدة وخلاصة جلية لما استطاع لذاك سبيلاً ! وإن كثيراً ممن تصدروا مشهد الفلسفة المعاصرة واحتلوا منابر الفكر – خصوصاً في العالم الغربي – اعترتهم (الأنا المتضخمة) وأصابهم (جنون المعرفة) حتى أصبحوا يتكلمون كثيراً دون أن يقدموا الكثير للسامعين !
وأخيراً، يجدر التنويه إلى أن المقصود من مفهوم ومصطلح (الفلسفة) في سياق هذا المقال هو الفلسفة المتعلقة بموضوعات الأسئلة الوجودية الكبرى للإنسان كسر وجوده ووظيفته في الحياة ومرجعية أخلاقه وقيمه، أما ما سوى ذلك من أفرع الفلسفة كفلسفات العلوم التطبيقية والاجتماعية وغيرها، فهي خارج إطار هذا المقال وغير مشمولة بفرضياته ومحتواه، لأنها من أبواب العلوم التي لا تفقد أهميتها وضرورة تعلمها، باعتبارها مرتبطة بالمنهج العلمي القائم على الملاحظة والتجربة والتراكم المعرفي، فهي لا تتقاطع مع مقررات وموضاعات الوحي الإلهي (الإسلام) أو مقاصده.