التعليل عبارة عن السبب والعلة التي من أجلها وجد حكم من الأحكام الشرعية، وبالرغم من أن التعليل يعد من المسائل الأصولية التشريعية المهمة، إلا أنه موضوع شائك، وعِر الطريق، اعتلجت فيه الأفكار، وتعددت فيه المذاهب، لذلك يصنف ضمن المسائل الأصولية التي كثر فيها الأخذ والرد وتعددت المناهج في بحثها، فالباحث فيها يجد نفسه أمام تراث هائل من المذاهب والآراء والاتجاهات التي تحيط به، ولأهمية التعليل للاجتهاد قال ابن تيمية: ” إدراك الصفات المؤثرة في الأحكام على وجهها ومعرفة الحكم والمعاني التي تضمنتها الشريعة من أشرف العلوم فمنه الجلي الذي يعرفه كثير من الناس ومنه الدقيق الذي لا يعرفه إلا خواصهم[1]“. ويقول الفقيه الحنفي الدبوسي: ” فسرت الحكمة في القرآن بالفقه، لأن الحكمة هي المعنى الباطن في المصنوع لأجله كان الصنع، فكذلك المعنى الباطن في النص الذي شرع لأجله الحكم هو العلة”[2].
وربط تعليل الأحكام الشرعية بالبحث عن حكمة التشريع والغاية منها جاء في الكتاب العزيز ما يؤسس لأصل الحكمة، ويعزز على فائدتها، في كلمة جامعة، يقول الله تعالى: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} (البقرة: 269)، والحكمة هنا كما جاء في التحرير هي: إتقان العلم وإجراء الفعل على وفق ذلك العلم، وهو إدراك وجه الإصابة في القول والعمل، وغاية ما ذكره المفسرون في بيان الحكمة، ما يجتنيه الإنسان من المنافع والحقائق والفوائد عند القيام بمصالحهم المتعلقة بأمورهم المدنية والدينية، قال ابن عاشور: الحكمة في نظر الدين أربعة فصول:
أحدها: معرفة الله حق معرفته وهو علم الاعتقاد الحق، ويسمى عند اليونان العلم الإلهي أو ما وراء الطبيعة.
الثاني: ما يصدر عن العلم به كمال نفسية الإنسان، وهو علم الأخلاق.
الثالث: تهذيب العائلة، وهو المسمى عند اليونان علم تدبير المنزل[3].
الرابع: تقويم الأمة وإصلاح شؤونها وهو المسمى علم السياسة المدنية، وهو مندرج في أحكام الإمامة والأحكام السلطانية[4].
فكان التعليل ضمن الحكم التي يهبها الله تعالى لمن يشاء من عباده، وهو أحد ركائز الفقه الإسلامي، الشاهد على شمولية التشريع الإسلامي لجميع الحوادث.
وهذا النظر العام يدلنا على أمر ضروري في إطار البحث عن التعليل، وهو أن التعليل ليس موضوعا خاصا بعلم الفقه والأصول فحسب، وإن اشتهر في هذا المجال أنه طريقف الاستنباط والاستدلال لمن يروم الحكم بناء على الدليل، غير أن التعليل متجذر في جميع الشرائع الإسلامية، ونصوصها الجامعة لكل حاجة البشر، لأن الحكم لا يتعرى من الحكمة والمصلحة، وهذا ما كان ابن عاشور يشير إليه فيما سبق ذكره، ويضيف على ذلك ما جاء في “شفاء العليل”، يقول: ” إن الله سبحانه حكيم لا يفعل شيئا عبثا ولا لغير معنى ومصلحة وحكمة، وهي الغاية المقصودة بالفعل، بل أفعاله سبحانه صادرة عن حكمة بالغة لأجلها فعل كما هي ناشئة عن أسباب بها فعل “[5].
يتبين من ذلك أن جميع الأحكام الشرعية معللة بحكمة قد يدركها العقول، وقد لا يدركها، بل أنكر ابن تيمية في حديث له مطول أن يكون ثمة حكم شرعي بغير علة، والحديث في هذا الباب ذو شجون.
لكن الهدف من هذا المقال بيان الفوائد التي يحققها التعليل في التشريع الإسلامي، وقد استقرأ هذا الموضوع الدكتور أيمن صالح في بحثه المحكم تحت عنوان: “فوائد تعليل الأحكام الشرعية: دراسة أصولية”[6]، وقد قسم هذه الفوائد العلمية والعملية إلى جزأين:
أحدهما: الفوائد العامة للمكلفين، وهي الفوائد الرئيسة التي يحققها البحث عن علل الأحكام الشرعية واستخراجها وتجليتها للمسلم المكلف.
الثاني: الفوائد الخاصة بأهل النظر والاجتهاد، وهذا النوع من الفوائد يجتهد في البحث عنها أهل العلم والفقهاء، للإستدلال بها، وبناء الحكم عليها.
وفي هذا المقام نقتصر على الفوائد العامة للتعليل وهي ثلاثة وبيانها فيما يأتي:
الفائدة الأولى: حمل المكلفين على امتثال التكليف الشرعي – فإن بيان حكم الأوامر والنواهي مما يهون على المسلم مشقة التكليف، ويحفز على الامتثال والالتزام، لا سيما إذا كان التعليل يتصل بمصلحة مباشرة للمكلف عاجلة أو آجله، مثال ذلك: أن الشارع خفف من وطأة وجوب إيتاء الزكاة بإبراز علة التطهير والتزكية كما في قوله تعالى {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}(التوبة: 103). يقول الغزالي: “معرفة باعث الشرع ومصلحة الحكم استمالة للقلوب إلى الطمأنينة والقول بالطبع والمسارعة إلى التصديق؛ فإن النفوس إلى قبول الأحكام المعقولة الجارية على ذوق المصالح أميل منها إلى قهر التحكم ومرارة التعبد، ولمثل هذا الغرض استحب الوعظ وذكر محاسن الشريعة ولطائف معانيها، وكون المصلحة مطابقة للنص وعلى قدر حذقه يزيدها حسنا وتأكيدا”[7].
الفائدة الثانية: حسن امتثال التكليف وتطبيقه، فإن إدراك علل الأحكام الشرعية تساعد على القيام بمقتضاها على أحسن وجه، يقول رشيد رضا: “إن الحكم إذا لم تعرف فائدته للعامل لا يلبث أن يمل العمل به فيتركه وينساه، وإذا عرف علته ودليله وانطباقه على مصلحته ومصلحة من يعيش معهم فأجدر به أن يحفظه ويقيمه على وجهه ويستقيم عليه، لا يكتفى بالعمل بصورته وإن لم تؤد إلى المراد منه”[8].
وحين تستفرغ النصوص والاحكام عن عللها تظهر صور التكاليف بدون معانيها ومقاصدها، ويكون الامتثال صوريا لا روح فيه، مثل لعق الأصابع بعد الطعام واعتباره سنة، مع غفلته عن معنى الإسراف وهو المقصود من الحكم، فتراه يلعق الأصابع لكنه يرمي بواقي الطعام في القمامة. وهذا يؤثر بشكل عام على التفقه السديد للدين والشرع.
الفائدة الثالثة: زيادة الأجر على امتثال التكليف – إن الأجر المترتب على امتثال التكليف بعد درك علته يكون على أكمل وجه وأحسن صورة، فيكون صاحبه مأجورا عليه من وجهين، أجر قصد فعل التكليف نفسه ، وأجر قصد المعنى منه، وذلك للعالم المدرك لجاني التعليل، والعامل على وفق العله، أما الجاهل بالحكمة فلا يحصل له إلا أجر واحد وهو أجر قصد الفعل. قال تقي الدين السبكي: “كل حكم معقول المعنى فللشارع فيه مقصودان: أحدهما: ذلك المعنى، والثاني: الفعل الذي هو طريق إليه، وأمر المكلف أنّ يفعل ذلك الفعل قاصدا به ذلك المعنى، فالمعنى باعث له لا للشارع، ومن هنا يعلم أنّ الحكم المعقول المعنى أكثر أجرًا من الحكم التعبدي”[9].
[1] مجموع الفتاوى (20/567).
[2] تقويم الأدلة في أصول الفقه (351).
[3] التحرير والتنوير (3/63).
[4] المصدر السابق.
[5] شفاء العليل ص 190.
[6] مجلة العلوم الشرعية، جامعة القصيم، المجلد (13) العدد (4) ص ص 3027 – 3095 (رجب 1441 هـ / مارس 2020م).
[7] المستصفى (339).
[8] تفسير المنار (2/284).
[9] الإبهاج في شرح المنهاج (6/2288).