التاريخ هو عِرض الأمة. هذا ما عبر عنه بعمق ودقة أديب العربية الأستاذ الكبير عباس محمود العقاد رحمه الله عن شأن التاريخ ومكانته في هُوية الأمة. وكما أن عِرض الإنسان هو شرفه الذي ينبغي أن يصان ويذاد عنه فكذلك الشأن في تاريخ الأمة الذي هو عِرضها. وبما أن من يطعن في عِرض شخص بهتاناً يعد قاذفاً له ومرتكباً لجرم عظيم في حقه بسعيه لتشويه عِرضه وتدنيس سمعته؛ فإن من يطعن في تاريخ الأمة افتراءً يعد قاذفاً لها ومرتكباً لجرم أعظم من جرم القاذف لعِرض شخص، ذلك أنه يسعى لتشويه عِرض أمة بأسرها.
وقد تعرض تاريخ أمتنا مبكراً لمحاولات حثيثة مغرضة لتشويهه من قبل إخباريين وضاعين مناوئين للأمة وحاقدين عليها، إذ قاموا بالافتراء على الأمة فرووا أخباراً فيها تشويه لرموز الأمة وأحداثها، من أمثال الإخباري أبي مخنف لوط بن يحيى (ت ١٥٧ هـ) الذي قال فيه الإمام المحقق ابن حيان: “رافضي يشتم الصحابة ويروي الموضوعات عن الثقات”، وقال فيه الإمام المحقق الذهبي: “إخباري تالف لا يوثق به.
وعلى الرغم من أن علماءنا المحققين ذادوا عن عِرض الأمة بتصديهم لأولئك الوضاعين الكذابين بالنقد بناء على قواعد علم الجرح والتعديل والذي هو من مفاخر إنجازات أمتنا العلمية؛ إلا أن رواياتهم المشوِّهة نُقلت عبر العصور في الكتب والدواوين غير المحققة.
والأدهى من ذلك والأمر أن مضامين تلك الروايات المكذوبة المشوِّهة تسربت إلى عقول ووجدان جماهير غفيرة من الأمة، بل تكاد تكون نظرتهم عن تاريخنا تنحصر فيما ترسمه تلك الروايات من صور مشوِّهة وتجزيئية كذلك. وهذا ما كان يلاحظه ويعبر عنه بمرارة شيخنا المحقق الكبير الأستاذ الدكتور عبد العظيم الديب رحمه الله، إذ كثيراً ما كان يردد:
“وعندي في هذا الموضوع الكثير الكثير مما يصحح أخطاء وأكاذيب تعلمناها وصارت عندنا بدهيات ومسلمات، وما زال الدعاة والعلماء يرددونها، ويتخذونها مرتكزاً لأفكارهم، ومنطلقاً لآرائهم، ومستنداً لأحكامهم.
بل الأدهى من ذلك أن هذه الأكاذيب والأغاليط التاريخية شكّلت وِجدانَ هؤلاء العلماء، وصاغت عواطفَهم، لم يَنْجُ من هذا أحد (إلا من رحم ربَّك وقليلٌ ما هم) ..”.
والإشكال العويص في هذه القضية أن القلة القليلة التي أشار إليها شيخنا الديب – وقد كان هو منهم – ممن يذودون عن عِرض الأمة ويتناولون قضايانا التاريخية بمنهجية تحليلية مبنية على رؤية كلية تركيبية للأحداث التاريخية، ومتحررة من العقدة النفسية وأسر المعهودية لتلك الروايات المشوِّهة يشغب على جهودهم ما في ذاكرة بل ووجدان جمهور كبير من الأمة – بمن فيهم فئة الدعاة والعلماء للأسف الشديد كما لاحظ شيخنا – المشحونة بصور شنيعة عن تاريخنا رسختها تلك الروايات التاريخية التي افتراها أولئك الإخباريون الوضاعون القاذفون لعرض الأمة والمناوئون لها.
يقول شيخنا الديب: “ما لم يصحح الدعاة وقادة العمل الإسلامي، وعلماء الأمة، أقول: العلماء والدعاة وقادة العمل الإسلامي، ما لم يصحح هؤلاء فهمهم لتاريخ الإسلام والمسلمين، فلن تستقيم الأمة على طريق …”.
إن هذه الصور الشنيعة الراسخة في ذاكرة ووجدان هؤلاء والتي تكشف عن مدى استمرار نجاح المشروع المناوئ لمشروع الأمة عبر التاريخ منذ تحقيق نجاحها الأول باغتيال الخليفة الراشد الفاروق رضي الله عنه – تحول – في تقديرنا – دون التعاطي بصفاء ومزاج معتدل مع الطرح الذي تطرحه تلك الفئة القليلة من المتحررين من أسر المعهودية والذين يذودون عن عِرض الأمة.
فالأمر يحتاج ابتداء إلى عملية تفتيت لهذا الركام الآسن – من الروايات المكذوبة – المشحون في الذاكرة والوجدان، ثم التحرر من النظرة التجزيئية التي تقطع الخطوط الكبرى للسيرورة التاريخية والحائلة دون التفسير الصحيح لحركة التاريخ الإسلامي والاتعاظ به والاعتزاز بإنجازاته الحضارية.
والإشكال يزداد تعقيداً في هذه المرحلة من مراحل أمتنا – التي يعاني أبناؤها من ضعف عام في ذاكرتها التاريخية بسبب ضحالة التعليم السائد – مع خروج فئات هنا وهناك من القاذفين الجدد لعِرض الأمة ممن أتيحت لهم مؤسسات بحثية ومنابر إعلامية ووسائط تواصل تذيع افتراءاتهم على تاريخ الأمة وطعنهم في رموزها وتشويههم لحضارتها في الآفاق بما يفوق بأضعاف مضاعفة انتشار افتراءات القاذفين الأوائل.
وقد صدق شيخنا الديب حينما قال بأسى وهو يشخص هذه الظاهرة: “حاضر الأمة -بعد أن ضل عن معرفة أعدائها- راح يشتبك مع ماضيها بحثاً عن ذرائع تبرر ما نحن فيه من هوان، فصرنا نستدعي رموزَ أمتنا وعظماءَ تاريخنا لنحاسبهم، فنجلدهم، ونركلهم، ونصفعهم، ثم نقتلهم سحلاً، واستشرى هذا الداء حتى عمّ وطمّ…”!!
إن الأمة اليوم تشهد جرائم قذف لعِرضها مكثفة تتطلب تضافر الجهود للذود عنها من جميع الغيورين على عِرضهم.