لا يختلف اثنان من المسلمين أن القرآن الكريم كتاب هداية للناس وإصلاح لهم أفرادا وجماعات حكاما ومحكومين ، و حتى تتحقق الهداية ويكتمل الصلاح لا بد من إنزاله على واقع الحياة بشتى جوانبها ليعالجه ويصوبه نحو الرشاد والسداد ( إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا) الإسراء : 9
لكن المستغرب من المسلمين أن الكثير منهم يحكمونه في آن دون آن ، وفي واقعة دون أخرى ، وفي جزئية دون مثيلتها ، بوعي منهم أو بدون وعي أنهم يغيبونه وهو الحاضر الشاهد الحكم العدل ، المهيمن على سلوك الناس ومنظومة حياتهم وشبكة علاقاتهم .
يستدعونه إذا كان منطوقه أو مفهومه لصالحهم ووفق أهوائهم وميولهم وقناعاتهم ، ويبعدونه إذا كان الأمر على خلاف ذلك ! .
بل ربما يكون المسلم قد أتم تلاوته للتو ، لكن حياته تشهد أنه ختم الحروف فحسب وضيع الحدود ، وأقامه لسانا وضيعه حقيقة وفحوى ! ولعل هذا ما قصده الصحابي الجليل أنس بن مالك رضي الله عنه حين قال : ( رب تال للقرآن والقرآن يلعنه ).
حكم الله على من عمل بالقرآن وطبقه أنه مؤمن به ، ومن لم يعمل به أو ببعضه ولم يطبقه واقعا وضيع حدوده في حكم الكافر والجاحد به ، وتوعدهم بعذابي الدنيا والآخرة
فتجده يقرأ وعيد الله للظالمين والكاذبين والفاسقين باللعن والعذاب المهين ، وهو ظالم غشوم معاند كذوب جحود ، ويقرأ ترهيب الله للمرابي بالحرب { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} البقرة : 278، 279.
وهو المرابي الفاحش الفاسق .. وكأنه مستثنى من هذا التهديد الرهيب والإنذار المخيف .
إن من انحرافات بني إسرائيل ، أن الله حرم عليهم في التوراة سفك دمائهم وافترض عليهم فيها فداء أسراهم . لكنهم كانوا فريقين : طائفة منهم من بني قينقاع حلفاء الخزرج، والنضير وقريظة حلفاء الأوس .
فكانوا إذا كانت بين الأوس والخزرج حرب خرجت بنو قينقاع مع الخزرج ، وخرجت النضير وقريظة مع الأوس ، يظاهر كل من الفريقين حلفاءه على إخوانه، حتى يتسافكوا دماءهم بينهم ، وبأيديهم التوراة ، يعرفون منها ما عليهم وما لهم . والأوس والخزرج أهل شرك يعبدون الأوثان، لا يعرفون جنة ولا نارا، ولا حراما ولا حلالا ، فإذا وضعت الحرب أوزارها، افتدوا أسراهم ، تصديقا لما في التوراة، وأخذا به ، يفتدي بنو قينقاع ما كان من أسراهم في أيدي الأوس ، وتفتدي النضير وقريظة ما كان في أيدي الخزرج منهم ، ويطلبون ما أصابوا من الدماء، وقتلى من قتلوا منهم فيما بينهم، مظاهرة لأهل الشرك عليهم . فأنزل الله فيهم :
( ثُمَّ أَنتُمْ هَٰؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأْتُوكُمْ أُسَارَىٰ تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ ۚ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ۚ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَٰلِكَ مِنكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰ أَشَدِّ الْعَذَابِ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) البقرة : 85. تفسير ابن كثير .
يخطئ من يظن أن تطبيق تعاليم القرآن مختص بالحكام وولاة الأمور والمتنفذين ، وواهم من يعتقد أن هذه التعاليم مقتصرة على تتنفيذ الحدود ونظام العقوبات
فقد حكم الله على من عمل بالقرآن وطبقه أنه مؤمن به ، ومن لم يعمل به أو ببعضه ولم يطبقه واقعا وضيع حدوده في حكم الكافر والجاحد به ، وتوعدهم بعذابي الدنيا والآخرة ! فالأمر جد خطير والمسألة جلل !
أليس حال أمتنا شبيه بحال هؤلاء ؟! إن لم يكن مماثل لهم تماما في هذا الجانب ، مع ما في المثال السابق من لفتات واقعية نحياها بحاجة للتأمل والتدبر !.
يخطئ من يظن أن تطبيق تعاليم القرآن مختص بالحكام وولاة الأمور والمتنفذين ، وواهم من يعتقد أن هذه التعاليم مقتصرة على تتنفيذ الحدود ونظام العقوبات ، بل إن الأمر أوسع وأشمل وهو موكل إلى كل مسلم بالغ راشد ، فالقرآن دستور حياة ونظام متكامل ، فيه ما يتعلق بالأسرة والنسيج الاجتماعي ، وما يشمل الاقتصاد وكسب المال ، و المنظومة القيمية والأخلاقية في المعاملات ، هذا ناهيك عن إقامة الشعائر التعبدية والمشاعر الدينية . فالكل مطالب بتنفيذ شرائعه والعمل بشعائره ، والجميع محاسب على التفريط في ذلك .
فلسنا بحاجة لانتظار أصحاب القرار أن يقروا القرآن منهجا ودستورا ، لنقوم نحن باعتماده حكما على سلوكنا وشبكتنا الاجتماعية وحياتنا الخاصة ، معطلين بذلك معظم تعاليم الدين الحنيف وجل أحكامه !