إن الله سبحانه وتعالى قد من على البشرية بخاتم الأنبياء والمرسلين محمد بن عبد الله ﷺ وأتم عليه وعلى أمته النعمة بأن أنزل عليهم القرآن الكريم، وبالتأمل والتدبر نجد أن القرآن الكريم يرشدنا إلى مكارم الأخلاق ويحث عليها، بل وقد فصلت كثير من الآيات كيفية التعامل بالأخلاق الحسنة. ومن هنا ندرك قيمة الحديث الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه بسنده عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها حينما سُئلَت عن خلق رسول الله ﷺ، فقالت: “كان خلقه القرآن”.
ومن هذا الوصف لأم المؤمنين رضي الله عنها ندرك أن أخلاق نبيِّنا ﷺ كانت متمثلة في اتباع القرآن، الاستقامة على ما تتضمنه آياته من أوامر ونواهي، التَّخلق بالأخلاق التي امتدحها القرآن الكريم وأثنى على أهلها، والبعد عن الأخلاق التي نهى عنها القرآن الكريم وذم أهلها.
ومن المؤكدات التي وردت في القرآن الكريم ضمن سورة من السور التي نزلت بمكة المكرمة قوله تعالى: { وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم:4).
قال ابن كثير رحمه الله : ومعنى هذا أنه صلَّى الله عليه وسلم صار امتثال القرآن أمراً ونهياً سجيَّةً له وخُلقاً، فما أمره به القرآن فعله، وما نهاه عنه تركه، هذا ما جبله الله عليه من الخُلق العظيم، من الحياء والكرم والشَّجاعة والصفح والحلم، وكل خُلقٍ جميل.
وقد روى البخاري بسنده عن عطاء رضي الله عنه قال: قلت لعبد الله بن عمرو أَخِبرني عن صفة رسول الله ﷺ في التَّوراة، قال: (أجل والله، إنَّه لموصوف في التوراة بصفته في القرآن، يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وحرزًا للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، لا فظَّ ولا غليظ، ولا صخَّاب في الأسواق، ولا يدفع بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويغفر، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء، بأن يقولوا: لا إله إلا الله، ويفتح به أعينًا عميًا، وآذانًا صمًا، وقلوبًا غلفًا).
ومع أن القرآن الكريم امتدحه ﷺ بحُسن خلقه، وجاء وصفه في التوراة بهذه الأوصاف، أقول على الرغم من ذلك كله نجد أنه كان يدعو ربه سبحانه وتعالى أن يحسّن خلقه، كذلك كان يتعوَّذ من سوء الأخلاق، فيروي الإمام أحمد بسنده عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان ﷺ يقول: “اللهم كما أحسنت خَلْقي فأحسن خُلُقي” كما يروي أبو داود والنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان ﷺ يدعو فيقول: “اللهم إني أعوذ بك من الشقاق والنفاق وسوء الأخلاق
والقرآن الكريم مليء بالآيات التي ترشدنا إلى مكارم الأخلاق؛ ليستمر المسلم على طريق الاستقامة، بل ويرتقي بأخلاقه حتى يستقيم قلبه، وتستقيم جوارحه ويكون عبداً ربانياً حقاً، ويكابد نفسه الأمارة بالسوء، ويأطرها على الحق حتى تكون نفساً مطمئنة.
والأخلاق الكريمة ترتقي بصاحبها وترفع مكانته بين الناس فينال المراتب العليا من التوقير والاحترام. فإذا كان الله عز وجل قد أمرنا أن نتدبر كتابه بقوله سبحانه : {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} (ص:29).
فإن من يريد أن يتخلق بالأخلاق الكريمة فليجتهد في تدبر القرآن الكريم، ليأتمر بأوامره، وينتهي عن نواهيه، ويتأدب بآدابه، وليتعرف على سنة نبيه ﷺ ويتفهمها، ويسير عليها، فإنها تطبيق عملي لما ورد في القرآن الكريم.
القرآن الكريم يرشدنا إلى مكارم الأخلاق .. إشارات إجمالية
هذا ونشير إشارات إجمالية إلى جانب من الأخلاق التي وردت في القرآن الكريم:
- قال الله تعالى في الحث على التحلي بالصبر والعفو: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} (الشورى: 43) ففي التفسير الوسيط: وللإنسان الصابر على الأذى الذي يصفح عمن أساء إليه، الثواب الجزيل، والعاقبة الحسنة؛ لأن ذلك الصبر والمغفرة منه، لمن الأمور التي تدل على علو الهمة، وقوة العزيمة. ولذلك أشار إلى ما يدل على بيان فضله وجميل عاقبته قوله سبحانه : { إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ } (البقرة:153).
- ومن الآيات الجامعة للأخلاق الكريمة قوله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (النحل:90). قال البغوي“: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ” بِالْإِنْصَافِ، “وَالْإِحْسانِ” إِلَى النَّاسِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ العدل التوحيد، والإحسان: الْعَفْوُ عَنِ النَّاسِ، “وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى” صِلَةُ الرَّحِمِ، “وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ” مَا قَبُحَ مِنَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الزِّنَا، “وَالْمُنْكَرِ” ما لا يُعْرَفُ فِي شَرِيعَةٍ وَلَا سُنَّةٍ، “وَالْبَغْيِ” الْكِبْرُ وَالظُّلْمُ. ” يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ” لعلكم تَتَّعِظُونَ. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: أَجْمَعُ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ هَذِهِ الْآيَةُ.
- كذلك من أخلاق القرآن الكريم والتي يأمر الله تبارك وتعالى نبيه أن يتحلى بها ما ورد في قوله تعالى: { خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} (الأعراف:199) قال ابن القيم: جمع الله له هنا مكارم الأخلاق، وقال جعفر الصادق: أمر الله نبيه بمكارم الأخلاق في هذه الآية، وليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق من هذه الآية.
- وقوله: {وَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَٱهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا } (المزمل: 10) { وَٱخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ ٱتَّبَعَكَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ} (الشعراء: 215).
- وقال تعالى : {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر} (آل عمران: 159). قال الواحدي: أَيْ: فبنعمةٍ من الله وإحسانٍ منه إليك “لِنت لهم” يا محمد أَيْ: سهلت أخلاقك لهم وكثر احتمالك “ولو كنت فظاً” غليظاً في القول “غليظ القلب” في الفعل لتفرَّقوا “من حولك فاعف عنهم” فيما فعلوا يومَ أُحدٍ “واستغفر لهم” حتى أشفعك فيهم “وشاورهم في الأمر” تطييباً لنفوسهم ورفعاً من أقدارهم ولتصير سنَّةً.
- ومن الأخلاق التي امتدحها الله عز وجل في كتابه وامتدح من يتحلون بها ما ورد في قوله تعالى: { وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا } (الفرقان: 63). قال ابن كثير: بسكينة ووقار من غير جبرية ولا استكبار، … وإذا سفه عليهم الجهال بالسيئ، لم يقابلوهم عليه بمثله، بل يعفون ويصفحون، ولا يقولون إلا خيرا.
آيات الأخلاق بصيغة الأمر
وكثير من الآيات التي تحض على الأخلاق الكريمة وردت بصيغة الأمر، بعضها وردت صيغة الأمر فيه للمسلمين بوجه عام، وبعضها وردت صيغة الأمر فيه لرسولنا الكريم ﷺ ومعلوم أن مثل هذه الأوامر وإن كانت لسيدنا محمد ﷺ فإنها تنسحب على أفراد أمته.
- قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ” (المائدة: 8).
- وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدً} (الأحزاب: 70).
- وقال تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} (البقرة: 83).
- وقال أيضاً: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} (الإسراء: 24).
كما دعا إلى الأخلاق الكريمة حتى مع المخالفين، فقال تعالى: {لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (الممتحنة :8).
خلاصة القول
من أراد الاستقامة والطمأنينة في الدنيا والفوز والفلاح في الآخرة فعليه أن يجتهد في إرضاء ربه، ويأطر نفسه على التمسك بتعاليم القرآن، والتخلق بأخلاقه، والتأدب بآدابه، والوقوف عند حدوده، والتحلي بمكارم الأخلاق التي تحلى بها من كان خلقه القرآن ﷺ، والبعد عن ظلم الناس، والتكبر والاعتداء عليهم، والإضرار بهم. فمن فعل ذلك فقد سلك سبيل الهدى والاستقامة، وحاز لنفسه ولمن حوله الحياة الطيبة في الدنيا والآخرة: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (النحل:97).
أسأل الله أن يحسن خُلُقنا كما حسن خَلقنا، وأن يرزقنا التخلق بأخلاق القرآن، والتأدب بآدابه.