القرآن الكريم هو كلمة الله النهائية للإنسانية، لذا تعهد بحفظه، ومنذ نزوله تعرض للافتراءات، فادعى المشركون أن القرآن ليس من عند الله، وأن الشياطين هي التي أوحت به، وأن النبي-صلى الله عليه وسلم- تلقاه عن أهل الكتاب، وهي افترءات تولى القرآن نفسه الرد عليها في حينها، وبقيت الردود خالدة قابلة لخوض المعركة من جديد ضد دعاوى الاستشراق، الذي أعاد إنتاجها بعدما أصبغ عليها ستارا منهجيا وأكاديميا.

يأتي كتاب “القرآن والمستشرقون: دراسات نقدية حول القرآن الكريم” لمجموعة من الباحثين، ليناقش قضايا الاستشراق حول القرآن، وصدر الكتاب في طبعته الأولى عام 2021، عن المركز الإسلامي للدرسات الاستراتيجية، في بيروت، ويقع في أكثر من ألف صفحة، في جزأين، الأول جاء  578 صفحة، موزعة على ثلاثة  فصول، هي: المستشرقون والوحي، والمستشرقون وجمع القرآن، والمستشرقون والنصّ القرآني، أما الجزء الثاني فيقع في 446 صفحة، ويتوزع على ثلاثة فصول هي: المستشرقون وترجمة القرآن، والمستشرقون اليهود والقرآن الكريم، وقراءات في أطروحات قرآنيّة لبعض أعلام المستشرقين.

الاستشراق والوحي

لعل قضية الوحي من أهم القضايا التي عالجها الكتاب، وهي من أهم القضايا التي ناقشها المستشرقون، فالإيمان بالوحي مدخل للإيمان بالكتاب، والإيمان بالرسول، ومن ثم استرعى الوحي الجهد الاستشراقي، للتشكيك فيه، بما يكفل الشك في الرسالة الإسلامية كلها، لذا كان الدفاع عن حقيقة الوحي موجودا في النص القرآني، حيث ورد الوحي في أكثر من سبعين موضعا في القرآن الكريم، لإبطال الدعوى التي تخدش قدسيته وحقيقته.

والملاحظ أن شبهات المستشرقين قديمًا أو حديثًا لا تخرج عن الشبهات التي أثارها كفار قريش، والتي تولى القرآن منذ نزوله الرد عليها ودحضها، وكانت أولى الشبهات التي دحضها القرآن قضية الأخذ عن أهل الكتاب، أو الأخذ عن الأحناف، أو من خلال وصف النبي-صلى الله عليه وسلم– بأنه كان نابغة ومصلحا اجتماعيا، وبالتالي يصبح القرآن من كلام محمد ، وليس وحيا سماويا، لذا زعم الكثير من المستشرقيين بأن القرآن من صنع محمد وتأليفه، وأنه منتحل من الكتب الدينية اليهودية والنصرانية، أو أن النبي أخذ تلك التعاليم عن “بحيرا الراهب” الذي التقى به في أسفاره التجارية قبل البعثة، والزعم بأنه تعلم منه وأخذ عنه .

واستعان بعض هؤلاء المستشرقين بقصص خرافية من نتاج أفكارهم للتدليل على صحة ما يقولون، كما ادعى آخرون أن النبي أخذ القرآن عن ورقة بن نوفل، وزعم آخرون أن الوحي ما هو إلا اضطرابات نفسية، لكن السؤال كيف لتلك الاضطربات التفسية أن تنتج هذا النص المُحكم المُعجز، ووصل الزعم بالمستشرقين للقول بأن الشيطان هو مصدر الوحي، وذهب آخرون أن القرآن تأثر بالشعر الجاهلي، وفي كتابه “مدخل إلى القرآن” للدكتور محمد عبد الله دراز، تناول جميع الافتراضات الاستشراقية المتعلقة باحتمال وجود مصدر بشري للقرآن وناقشها مناقشة علمية، وأظهر زيفها وبطلانها.

تناول الكتاب كذلك قضية ترجمة القرآن الكريم، وهل ذلك النص البليغ في اللغة العربية يمكن نقله بذات الإعجاز البياني إلى اللغات الأخرى، ومن الناحية الأخرى فإن الضرورة تفرض ترجمة معاني القرآن، وأن يقف وراء تلك الترجمة جهد جماعي لأن رسالة القرآن عالميّة وكونيّة، وتحتاج أن تُنقل للناس على اختلاف ألسنتهم، ومن ثم فالترجمة ضرورة رساليّة ودعويّة، لا بدّ من الاضطلاع بها؛ وفق رؤية شاملة محكومة بأطر معرفيّة ومنهجيّة تنظر إلى القرآن بوصفه كتابًا معجزًا له خصائصه ومميّزاته، لا كما يريد المترجم أن يقدِّمه، ومن الضروري أن تتجنّب الترجمة تشويه تعاليمه ومفاهيمه وحَرْفِها عن مقصدها الرساليّ. 

والواقع أن الاستشراق من خلال ترجمته لمعاني القرآن الكريم، لم يراعي تلك الأبعاد، فجاءت غالبية الترجمات تشويها للنص القرآني والرسالة الإسلامية، وغابت عن غالبية الترجمات الأمانة العلمية، والقدرة على نقل معاني النص العظيمة إلى اللغات الأخرى، لذا كثرت فيها الثغرات.

الموسوعات الاستشراقية

كان موقف الاستشراق من القرآن الكريم ينطلق من غايات دينية واستعمارية، فالقرآن كان عقبة أمام القوى الاستعمارية في بسط هيمنتها على المسلمين، وعقبة أمام مشاريع التغريب، وكان القرآن قادرا على إثارة المشاعر الإسلامية ضد القوى الاستعمارية، أما من الناحية الدينية فقد نظر المستشرقون إلى القرآن الكريم كتهديد لأديانهم وكتبهم المقدسة، خاصة وأن القرآن وجه انتقادات قوية لتلك الكتاب بعدما أصابها التحريف، كما أنه عالج كثيرا من القضايا التي تناولتها تلك الكتب طارحا الحقيقة التاريخية بعيدا عن زيف التحريف الذي اعترى تلك الكتب، لهذا رأى هؤلاء في القرآن خطرا يجب مواجهته.

وتناول الكتاب في الجزء الثاني عددا من الموسوعات الاستشراقية حول القرآن الكريم، ومساعي بعضا منها لحصر الرؤية الغربية للقرآن من خلالها،  ومن تلك الكتب “المصاحف” لـلمستشرق الاسترالي”آرثر جفري” والذي صدر عام 1936، والذي بدأت أبحاثه عن القرآن  منذ العام 1908، وكتاب “المصاحف” هو تحقيق للكتاب الذي ألفه “أبو داود السجستاني” المتوفى 316 هجرية، حيث قدم “جيفري” التحقيق برؤية فكرية لآراءه الاستشراقية، فتحدث عن قضية اختلاف النص القرآني بين المصاحف المختلفة، ويبدو أن “جيفري” ارتكز في مقدمته على المساواة بين النص القرآني والكتب المقدسة الأخرى خاصة التوراة والإنجيل، فهو يصر على أن القرآن الكريم منجز بشري، وطالته رياح التغيير والتطور والتحوير، ويستند في ذلك إلى القراءات المتواترة .

أما “القرآن: موسوعة” لــ”أوليفر ليمن” التي أعدها فريق كبير من المسشترقين يزيد على الأربعين أستاذا جامعيا من 14 دولة، وحررها البروفيسور “أوليفر ليمن” Oliver leaman، وصدرت عام 2005  في أكثر سبعمائة صفحة، وتحوي 468 مدخل حول القرآن الكريم، مرتبة على الهجائية الإنجليزية، كتب منها  “أوليفر ليمن” (99) مدخلا، لكن هناك الكثير من الأفكار المسبقة حول القرآن حكمت الموسوعة، ومن ثم جرى إعادة وتكرار ما كتبه المسشترقون الأوائل حول القرآن.

أما موسوعة “دراسة القرآن” Corpus Corani لـ”أنجيليكا نويفيرت” Angelika Neuwirth، فقد جري فحص النسخ المخطوطة للقرآن بواسطة الكربون 14 لحوالي أربعين نسخة خطية للقرآن، وجرى إطلاق هذا المشروع في ألمانيا عام 2007، ومخطط للمشروع أن يتم الانتهاء منه خلال ثمانية عشر عاما، وحسب ما هو معلن فإن هدف المشروع هو اكتشاف النصوص القرآنيّة التاريخيّة القديمة وجمعها لربط تلك النصوص بالسياق التاريخي والثقافي الذي نزلت فيه، ومن ثم فالمشروع ليس له طابعٌ فرديٌّ، بل هو مشروعُ مؤسّساتٍ كبيرةٍ ولها أهدافٌ استراتيجيّةٌ.