المقصود بالقراءة في العنوان فهم المقروء واستيعابه وليس مجرد القراءة الحرفية البعيدة عن التدبُّر[1] ومن هذا المنطق تُثمر القراءة وتوصل إلى التغيير الحسن، وكلمة الحسن قيد ويُفهم من هذا القيد أنَّ هناك تغييرًا سيئًا، وهذا يُفهم أيضا من الأصل اللغوي للتغيير الوارد في العنوان ، يقول ابن فارس في مادة ” (غير) قولُنا: هذا الشَّيءُ غيرُ ذاك، أي هو سِواه وخلافه. ومن الباب: الاستثناءُ بغَير، تقول: عَشرة غير واحدٍ، ليس هو من العَشَرة. ومنه قولُه تعالى: {صِراطَ الَّذينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَليْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ}[2].
والتغيير الحسن هو التغيير الذي يعود بالصلاح على النفس والمجتمع كالقراءة التي تهذب الأخلاق، وتجعل الإنسان يعرف حقوق الآخرين، وتفيد المجتمع في إنتاج المعارف والصناعة، وتوصل صاحبها إلى خالق هذا الكون، فالقراءة المطلقة قد تقود صاحبها إلى الإضرار بالناس وابتزازهم، والكثير من الصناعات التي هي ثمرة القراءة والعلم تجرُّ على العالم الدمار والخراب، واستخدام السفسطة والمغالطات في العصر اليوناني من هذا القبيل، ومثل ذلك علوم السحر والشعوذة.
وقد بيّن لنا ربنا سبحانه وتعالى أنَّ هناك من ضلَّ وانحرف مع وجود العلم الذي هو السبب الرئيس للصلاح كما في قوله سبحانه وتعالى {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ } [الجاثية: 23] وكما قال سبحانه {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) } [الأعراف].
وقد حرَّف بنوا إسرائيل الكتاب الذي نزل عليهم، ولم تكن القراءة والمعرفة طريقا للهداية عندهم {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)} [البقرة: 75].
ما هي شروط التغيير الحسن في القراءة؟
وهي شروط لنا وليست للنبي عليه الصلاة والسلام، فهو مسدَّدٌ معصوم من قبَل الله تعالى، وهذا الشرط هو أن تكون القراءة باسم الله تعالى لغاية مهمة وهي قضية الاستخلاف في الأرض وعمارتها، وهي الثمرة المرجوة من القراءة الحسنة، وليست القراءة باسم الشيطان أو الإنسان أو القومية أو الدولة، ليست باسم الآلهة أو الأصنام التي كانت تنتشر في بيوتات العرب…
ومؤدّى هذا أنَّ القارئ يوجِّه إرادته الحسنة للخير وللصلاح لأنه يقرأ باسم الله ، وما كان من الله ففيه الخير والسعادة، ولننتبه إلى هذا الخطاب الذي فيه المفاصلة بين واقعٍ جديدٍ يُراد للنبي عليه الصلاة والسلام ولهذه الأمة، وبين الواقع الذي عاشه النبي عليه الصلاة والسلام ويُراد تغييره، الواقع الذي ولُد فيه النبي هو واقع يُسنِد الأشياء إلى غير الخالق، فالنصر والرزق والعطاء والحروب … كَلُّها تُبارَك باسم الآلهة حتى غدا اسم الله تعالى بينها شكلي لا قيمة له في النفوس، فقوله تعالى { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61)} [العنكبوت: 61] وقوله { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (63) } [العنكبوت: 63] ليس تعبيرًا حقيقيًا عمّا تُكنُّه نفوسهم وتخضع له رقابهم ويتحكم في قِيمهم وأخلاقهم وبيعهم وشرائهم، ومثال ذلك مثال شخص تسأله عن أبيه فيقول لك فلانٌ من الناس، وهو عاصٍ له غير مبالٍ بطاعته، فالاعتراف هو اعترافٌ شكلي لا قيمة له.
وكلُّ ما جاء من ألفاظٍ في آيات سورة العلق هو تدعيم لفكرة الشعور بوجود الخالق لتكون القراءة باسمه، فالربُّ من الألفاظ المشتركة التي تدلُّ بمجملها على الشعور بضعفك، يقول ابن فارس:” الرَّاءُ وَالْبَاءُ يَدُلُّ عَلَى أُصُولٍ. فَالْأَوَّلُ إِصْلَاحُ الشَّيْءِ وَالْقِيَامُ عَلَيْهِ. فَالرَّبُّ: الْمَالِكُ، وَالْخَالِقُ، وَالصَّاحِبُ. وَالرَّبُّ: الْمُصْلِحُ لِلشَّيْءِ…وَالرَّبُّ: الْمُصْلِحُ لِلشَّيْءِ. وَاللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ الرَّبُّ; لِأَنَّهُ مُصْلِحُ أَحْوَالِ خَلْقِهِ…وَالْأَصْلُ الْآخَرُ لُزُومُ الشَّيْءِ وَالْإِقَامَةُ عَلَيْهِ “[3] .
وهذه المعاني كلها تعود إلى الله تعالى في الحقيقة، فهو المربي والمتعهد والمنشئ والمصلح والقائم على شؤون الإنسان وإذا كان الأمر كذلك فينبغي أن تقوم القراءة باسمه لأنه هو المستحق.
وقد ذكر القرآن وصفًا عظيما لهذا الرب في هذه الآية هو الوصف بـ”الخالق”، فقال {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) } وإذا كان الآمر هو الخالق لهذا الإنسان فينبغي أن يُطاع وأن تكون القراءة باسمه، وكلمة الخالق هي بداية التغيير الذي ينبغي أن يقوم في الجزيرة العربية، فهناك خالق وهناك مخلوق، ومن شأن المخلوق أنْ يُطيع الخالق وأن تكون القراءة باسمه وقد تكرر لفظ الخالق مرتين تنويهًا لأهمية الأمر .
والأمر الآخر الملاحظ في هذه الآية والتي تؤكد المعنى السابق أنَّ هذا التعليم المتكرر مرتين، هو من الله تعالى {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)} [العلق] فالتعليم صادر من جهة عليا هي جهة الخالق، فقد علّمه كيف خُلق، وعلّمه التكاليف التي نزل بها الأنبياء، وعلّمه تاريخ الأنبياء والماضي السحيق، وعلّمه ما يحدث في المستقبل مما جاء به الخبر الصادق، ولو تُرك الإنسان لما علم شيئا {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)} [النحل: 78] ومع كل هذه المعلومات فهي قليلة بالمقارنة بعلم الله تعالى {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)} [الإسراء: 85].
ولماذا هو قليل؟ وما الفرق بين علم العبد وعلم الله تعالى؟
الفرق بينهما هو الفرق بين الخالق والمخلوق، فهو عبدٌ مخلوقٌ من ماء مهين، { ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) } [السجدة:] {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (20)} [المرسلات: 20] “والمهين: الشيء الممتهن الذي لا يُعبأ به”[4]. وإذا كان الأمر كذلك فالعبد يحتاج دائما إلى طلب المدد والاستزادة من الله تعالى {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114)} [طه: 114] وباستشعار الفرق بين الخالق والمخلوق تتكامل القراءة الحسنة لأنه ينفذ ما طلبه الخالق في عمارة الأرض ساعيًا لاستخراج كنوزها وشقِّ طرقها وتحلية مياهها وزرع أرضها حتى ولو قامت عليه القيامة ففي مسند أحمد «إِنْ قَامَتْ عَلَى أَحَدِكُمُ الْقِيَامَةُ، وَفِي يَدِهِ فَسِيلَةٌ فَلْيَغْرِسْهَا» وكذلك عمارتها بالقيم والأخلاق والعدل بين الناس {يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ } [ص: 26]
ولتكتمل هذه العبودة فليس القراءة فقط باسم الله، فالله يريد أنْ يكون الله – سبحانه -حاضرًا في كل تصرفاتنا، فليكن الأكل باسم الله والمشي باسم الله، والقتال باسم الله، والصبر باسم الله.
وتأتي هنا فائدة ذكر الله تعالى في كل حالة من حالات الإنسان التي حثَّ عليه القراءة في عشرات من الآيات {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 191] وهذه الفائدة تذكرك بخالقك وبحقيقتك، وكلما عرف الإنسان حقيقته عرف ربه.
ولنلحظ – في سياق التغيير الحسن- العلاقة بين التعليم المستمر للعبد وبين لفظ الرَّب في الآية، فالقراءة هي ابتداء للتعليم، والتعليم لا ينقطع ما دام الإنسان حيَّا وهذا الاستمرار يحتاج إلى تعهُّد من الله تعالى ورعاية، وهذا يناسب لفظ التربية التي تعني – كما سبق- العناية المستمرة.
لكن أين الشروط الأخرى لتكون القراءة نافعة مثمرة توصل إلى التغيير الحسن؟ أين شرط الإتقان؟ وأين شرط العمل بالمعلوم؟ وأين شرط الإخلاص… بل وأين الشكر على هذه المنحة … هذه الشروط مفهومة ضمنًا في هذه الآية ومصرح بها في أماكن أخرى. فمادام هناك اعتراف من العبد بالخالق، فيلزم عنه الاعتراف بكلّ ما طلبه الله من العبد من حيث الجملة، وأما من حيث التفصيل فهو مبثوث في النصوص الأخرى كقوله تعالى {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)} [التوبة: 105] وبهذا يكون التغيير الحسن الذي ننشده جميعًا، وخاصة في واقعنا المعاصر الذي تحوَّلت فيه الأمَّة من أمَّة اقرأ إلى أمّة تعيش على هامش الأمم، فلكي تنهض الأمة من جديد نحتاج إلى التغيير الحسن، والتغيير الحسن مرتبط بالشعور بأننا عبيد لله تعالى، وهذا التغيير نابع من القراءة الحسنة المسترشدة بالأوامر الإلهية التي تعمر الكون وتنفع الإنسان وفق إرادة الله تعالى.
[1] محمد حسن حسن جبل، المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم (مؤصَّل ببيان العلاقات بين ألفاظ القرآن الكريم بأصواتها وبين معانيها)، الناشر: مكتبة الآداب – القاهرة، الطبعة: الأولى، 2010 م. 4/1759.
[2] ابن فارس معجم، المحقق : عبد السلام محمد هارون، الناشر : دار الفكر، الطبعة : 1399هـ – 1979م.4/ 403.
[3] ابن فارس، مقاييس اللغة: 2/ 381.
[4] ابن عاشور، التحرير والتنوير:21/ 216.