مع مطالعة وجوه الناس في الطرقات، وفي أسواقهم، وفي تعاملاتهم، ترى مظاهر الكبت والقهر بادية في سلوكياتهم وتصرفاتهم، فأصوات الشجار تعلو لأتفه سبب، وكثير من المشكلات الاجتماعية تطفو على السطح مدللة على وجود خطأ في البنيان الاجتماعي.
“القهر الاجتماعي” أو “الظلم الاجتماعي” سببان مباشران لكثير من السلوكيات الخطيرة التي تشكل بمجموعها ما نستطيع تسميته بـ”مجتمع المقهورين”، الذين يسعون إلى إثبات “الأنا الشخصية” بأية طريقة، وبأية وسيلة مسموح بها، أو غير مسموح مما أدى إلى ظهور عادة “العنتريات”، التي تتجلى في القفز فوق القانون، وفي تسخير الناس لحوائج “المواطن العنتري”، وتترافق عادة العنتريات مع مظهر العضلات المفتولة، والشوارب، وهذا كله مؤشر على حاجة “المواطن” إلى إبراز “وجوده” في مجتمع تربى على كونه مجرد “رقم” في إحصائيات الدوائر الرسمية.
وفي هذا المجتمع، يُعدُّ أي فعل خارج إطار القانون والشرعية “فعلا مشروعا”، يُصَفق له، ويُحَفز الآخرين للقيام بمثله، أو أكثر منه، كي يثبت “أناه” الخاصة به، فيؤدي هذا بالضرورة إلى غياب منطق القانون، ويُعَد من يطالب به، أو يتكلم حسب منطقه “ساذجاً” لا يستحق الدخول في “عالم الرجال”.
وفي المجتمع المقهور يمارس الجميع القهر والظلم على من هو أدنى منه، في حركة هرمية، تعكس مدى القهر المُؤَسَس له في هذا المجتمع، ويمتد القهر ليورث إلى الأجيال اللاحقة، عبر أدوات المجتمع، من تربية، وإعلام..
ويأتي المواطن المقهور في خضم هذا المجتمع ليكون عنصرا فاعلا، في تثبيت هذه الثقافة، عبر رفضه لأي شكل من أشكال التغيير، لخوفه من المستقبل، ولعدم ثقته بأية وسيلة تغير من واقعه، أو من حاله، وفي حياة هذا المواطن المقهور، يكون كل شيء يذكّره بقهره وحرمانه، وأن طبيعته غير مهيأة لتغيير حاله.
ويتخذ القهر الاجتماعي أشكالا متعددة فهناك القهر عبر الحرمان، وهناك القهر عبر الإقصاء، وهناك القهر عبر التهميش، وهناك القهر عبر الجهل، وهناك القهر عبر نشر الخرافات. لذلك جاء الإسلام حربا على القهر الاجتماعي ممثلا في الظلم التي تحترفه بعض النظم التي تنتسب إلى ثقافة “الجاهلية”، فالظلم في نظر الإسلام يمثل التعدي على الإنسان وحرمانه من حقوقه، فيقول عليه الصلاة والسلام: “كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه” [1].
وبيّن النبي عليه الصلاة والسلام أن الظلم كان سببا لهلاك الأقوام السابقين حيث كانوا يطبقون القانون على الضعفاء فقط فقال: “إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد”[2] .
وحذر النبي من الانجرار من انتشار ثقافة “الظلم” و”القهر” قائلا: “لا يكن أحدكم إمعة، يقول: أنا مع الناس، إن أحسن الناس أحسنت، وإن أساءوا أسأت، ولكن وطِّنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساءوا أن لا تظلموا”[3].
إن أولى خطوات أقامة المجتمعات السليمة يتمثل في نشر قيم العدل، واحترام الحقوق المتبادلة بين جميع شرائح المجتمع، ومحاربة القهر وأدواته، وحينئذ تنطلق المجتمعات الإسلامية في سباق الحضارة، جاعلة من تقدمها وتطورها أفضل طريقة للدعوة إلى الله.