جعل الله تعالى الاختلاف بين بني البشر سنة من سننه، فقال سبحانه: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ۖ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ)، ومن يرى الكون كله يرى الاختلاف باديا فيه، ليدل على توحيد الله الواحد الأحد.
وقد كان سلف هذه الأمة يختلفون، لكن الملاحظ على اختلافهم أنه كان اختلاف أفكار وعقول، وليس اختلاف أرواح وقلوب، وهو فرق جوهري أدركوا به حقيقة الاختلاف، فاختلاف الفكر المبني على الاجتهاد بالدليل المعتبر هو اختلاف محل تقدير واحترام، والاختلاف المبني على الهوى ليس اختلافا معتبرا؛ لأنه ليس له حظ من النظر والأثر، على أن هناك اختلافا محرما، ألا وهو اختلاف النفوس والقلوب، ذلك الاختلاف الذي ينشأ عنه تفرق المسلمين وخصامه، فتحلق دينهم لا أن تحلق شعور رؤوسهم كما ورد هذا التصوير عن رسول الله ﷺ،من كونها لا تحلق الشعر بل تحلق الدين، فقد ورد عن الزبير – رضي الله عنه – قال : قال رسول الله ﷺ : ” دب إليكم داء الأمم قبلكم الحسد ، والبغضاء هي الحالقة ، لا أقول : تحلق الشعر ، ولكن تحلق الدين . رواه أحمد ، والترمذي
الاختلاف المعاصر
على أن الناظر بين المختلفين – اختلافا مقبولا في أصله- يجد أنه في عصرنا انقلب من اختلاف فكر إلى اختلاف قلب، وبدلا من أن يكون تنوعا وثراء في الأفكار، نتج عنه شحناء وبغضاء وغيبة ونميمة وهتك لأعراض الناس واستباح لذمهم وإنقاصهم، ووقوعا في الغيبة والنميمة والبهتان، وإن كان هذا يقع من عموم الناس، فهو أشد حرمة في حق الدعاة وطلبة العلم، بل الأدهى وأمر أن نراه بين أبناء الدعوة الواحدة في وقت هم أشد ما يحتاجون إلى الوحدة، ألا ساء ما يزرون.
بل ما أحوجنا اليوم أن نقبل خلاف بعضنا في داخل الحركات الإصلاحية والمؤسسات الدعوية، بل وفي دائرة المسلمين حتى ما بين العصاة والدعاة، ليس قبولا للظلم والطغيان والمعصية ولكن إدراكا لمآلات الأمور، فاليوم نحن على أعتاب حرب عالمية ثالثة، تستعمل فيها بعض الأيادي التي تنتمي إلى الإسلام، وتحرك ضد المسلمين، وعلى علماء الأمة ودعاتها أن يحتووا هؤلاء، وأن لا يقعوا في فخ التفريق، ورحم الله هارون عليه السلام حين حافظ على سلامة ووحدة بني إسرائيل، حتى إنهم عبدوا العجل في غيبة موسى عليه السلام، وحين جاءه يعنفه قائلا: ” يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ ۖ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي ۖ إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي ”
وما أحوج العلماء والدعاة والمصلحين إلى قراءة موقف هارون عليه السلام، وكيف أن موسى ظن أنه خالف أمره، ولم يكن له أن يفعل، وبين أن قصده الأكبر هو المحافظة على وحدة بني إسرائيل، وإن كان اجتهادا مرجوحا من هارون عليه السلام، كما قال الإمام الطاهر بن عاشور: ( وكان اجتهاده ذلك مرجوحاً لأن حفظ الأصل الأصيل للشريعة أهم من حفظ الأصول المتفرعة عليه ، لأنّ مصلحة صلاح الاعتقاد هي أم المصالح التي بها صلاح الاجتماع)، ثم إنه قد خشي على نفسه الهلاك، كما في سورة الأعراف، إذ قال معتذرا: ( إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني . )
القواعد السبع للاختلاف عند الشافعي
ويضرب لنا سلفنا الصالح مثلا في كيفية الاختلاف؛ فهذا يونس بن عبد الأعلى أحد تلاميذ الإمام الشافعي – رحمه الله – كان قد اختلف مع الشافعي في مسألة، وظل كل منهما يدافع عن رأيه بحججه وبراهينه، فمازال كل منهما يدلي بدلوه حتى غضب يونس وقام تاركا درس الشافعي متجها إلى بيته.
وظل يونس بن عبد الأعلى غاضبا على محمد بن إدريس الشافعي حتى أقبل الليل، وسمع يونس صوت باب منزله يطرق، فسأل: من بالباب؟ فقال الطارق: محمد بن إدريس. فقال يونس : فتفكرت في كل من كان اسمه محمد بن إدريس إلا الشافعي فلما فتح الباب فوجئ بأنه الشافعي، فقال الشافعي كلمات تنم عن نهج السلف الصالح في كيفية الاختلاف، فقال اﻹمام الشافعي :
_ يا يونس، تجمعنا مئات المسائل وتفرقنا مسألة .. !!! .
_ يا يونس، لا تحاول الانتصار في كل الاختلافات .. فأحيانا “كسب القلوب” أولى من “كسب المواقف”…
_ يا يونس، لا تهدم الجسور التي بنيتها وعبرتها .. فربما تحتاجها للعودة يوما ما .
إكره “الخطأ” دائمًا… ولكن لا تكره “المُخطئ” .
وابغض بكل قلبك “المعصية”… لكن سامح وارحم “العاصي”…
_ يا يونس، انتقد “القول”… لكن احترم “القائل”… فإن مهمتنا هي أن نقضي على “المرض”… لا على “المرضى.
لا تقاطع من اختلفت معه
لقد وضع الإمام الشافعي في محاورته مع يونس بن عبد الأعلى قواعد الاختلاف بين المسلمين، وأولها ما قاله النبي ﷺ:” وخيرهما الذي يبدأ بالسلام”، فقد ذهب الشافعي وهو مختلف مع يونس بن عبد الأعلى إليه في بيته، فالاختلاف مع الكبر دليل الإثم، والتواضع مع الاختلاف دليل الإيمان.
الاتفاقات لا تمحو الاختلافات
أما القاعدة الثانية، ليس من الصواب نسيان الاتفاق والتركيز على الاختلاف، فغالبا ما تجمعنا مئات وآلاف المسائل والقضايا، والاختلاف بيننا عادة ما يكون محدودة، فكيف ينسىى كثرة الاتفاق مع قلة الاختلاف، وهي رؤية حكيمة حيث تغلب الرؤية الإيجابية على الرؤية السلبية، وأن الغالب للكثرة وليس للقلة، وقد قرر الفقهاء في قواعدهم: النادر لا حكم له، ولهذا رجح البعض رأي الجمهور في كثير من المسائل.
كسب القلوب مقدم على كسب الآراء
القاعدة الثالثة التي أسس لها الإمام الشافعي في محاورته ليونس بن عبد الأعلى أن كسب القلوب مقدم على كسب الآراء، فقد تكون على صواب في محاورة بعض الأشخاص، وقد يكون من الحكمة أن لا تشد عليه في الرد؛ كسبا لقلبه، حتى وإن كنت تعتقد نفسك الأصوب، فالتنازل عن كسب رأي لأجل كسب قلب من صفات العقلاء الصالحين.
لا تهدم ما بنيته
وأما القاعدة الرابعة التي أسس لها الإمام الشافعي ليس من الحكمة هدم ما بنيته، فالبقاء عليه أولى، فربما تحتاجه، فنحن نبني جسور الود والوصال مع كثير من إخواننا وأصدقائنا، وهذه الجسور ربما تنبى في سنين، فليس من الحكمة هدمها في ساعة، فلربما كنا أحوج إليها مستقبلا.
اكره الخطأ ولا تكره المخطئ
ويقرر الإمام الشافعي القاعدة الخامسة بقوله: اكره “الخطأ” دائمًا… ولكن لا تكره “المُخطئ” ، وما أحوجنا اليوم إلى هذه القاعدة الحكيمة، وأن نفرق بين الفعل وصاحبه،. وقد أكد الفقهاء هذا المعنى حين قرروا في القواعد الفقهية قولهم:” الحكم على الأفعال، لا على الذوات”، يعني أن الأصل أن نحكم على قول فلان، أو أن نحكم على فعل فلان، ولكن نحكم على فلان، إلا إذا غلب عليه أمر اشتهر به، ودليل ذلك أن النبي ﷺ قال عن الشيطان الذي كان يسرق بيت مال المسلمين وكان أبو هريرة أمينا عليه، حين قال الشيطان لأبي هريرة: ” إذا أويت إلى فراشك، فاقرأ آية الكرسي، فلا يزال عليك من الله حافظ حتى تصبح”. فقال النبي ﷺ:” صدقك وهو كذوب”، فوصف كلامه بالصدق رغم أنه شيطان، وهذا من النصفة والحق، ولكن وصفه بأنه كذوب، فهو وصف للشخص لأن الغالب عليه الكذب.
فالأصل في المسلمين العدول أن نحكم على أقوالهم وأفعالهم، دون الحكم على أشخاصهم، فنفرق بين الفعل وصاحبه.
ولهذا لم ينس النبي ﷺ فضل حاطب بن أبي بلتعة حين بلغ أهل مكة بشأن فتح مكة مع امرأة، رغم أن فعله من الخيانة العظمى واستأذن عمر رضي الله عنه رسول الله ﷺ أن يضرب عنقه، قائلا: يا رسول الله، ائذن لي أضرب عنق هذا المنافق. فرفض النبي ﷺ هذا الوصف؛ لأن خطأ حاطب رضي الله عنه لم ينف عنه الوصف الكلي من كونه محبا لله ورسوله، ومع هذا أقر النبي خطأ، ورفض عقابه عقاب المنافقين، فقال:” لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: افعلوا ما شئتم”.
ابغض المعصية وارحم العاصي
ثم تأتي القاعدة السادسة في الاختلاف ” ابغض بكل قلبك “المعصية”… لكن سامح وارحم “العاصي”.. وهي تتمة للقاعدة السابقة، فالقاعدة الخامسة تتناول الحكم على الفعل لا على الشخص، ثم تأتي القاعدة السادسة تكملها، وهي أن نبغض الفعل الذي هو المعصية، لكن لا نبغض الفاعل وهو العاصي، وهذا ما ورد عن ابن مسعود وقد سئل أتكره العاصي؟ قال: لا ، وإنما أكره معصيته، والحكمة في هذا أن الإنسان يصدر منه الطاعة والمعصية، والكره والحب ربما لا يتغير في الشخص، فماذا لو أطاع العاصي، هل نظل نكرهه أم لا؟ ولهذا، فإن الحب يتوجه إلى الطاعة، والبغض يتوجه إلى المعصية، وقد ورد أنه من تمام الإيمان أن تحب لله وأن تكره لله، ولهذا أتي برجل يشرب الخمر وقد جلد كثيرا لشربه إياها، فقال رجل: لعنه الله، فرفض النبي ﷺ ونهاهم عن هذا الوصف، وقال إنه:” رجل يحب الله ورسوله”.
انتقد القول واحترم القائل
وأما الدرة الشافعية السابعة فهي: ” انتقد “القول”… لكن احترم “القائل”… فإن مهمتنا هي أن نقضي على “المرض”… لا على “المرضى.
فيبين الشافعي أن النقد يتوجه إلى القول لا إلى قائله، بل الواجب أن يحترم المسلم أخاه وإن اختلف معه، وأن العالم كالطبيب ليس قصده الانتصار على الخصم، بل الانتصار للحق، وما أجمل تشبيه الشافعي رحمه الله حين قال: (فإن مهمتنا هي أن نقضي على “المرض”… لا على “المرضى)، فالداعية والعالم والمصلح كل هؤلاء مهمتهم إصلاح الناس لا الانتصار في الخصومة عليهم.