أظلنا العام الهجري الجديد ويعيد المسلم النظر إلى تاريخ الهجرة النبوية الأولى على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، وما ارتسمت بها من  معان أخلاقية تحتاجها الأمة الإسلامية اليوم، من ذلك: التضحية، الإيثار، الإخاء ، المبادرة العامة، الوحدة، الولاء والبراء.. وما انبثق بعد الاستقرار في المدينة من مبادرات مختلفة من المؤمنين، دروس أخلاقية نبيلة نتعلمها من الجيل الأول في هجرتهم سواء قبل الهجرة أو أثناءها أو بعدها .

وحين قال عليه الصلاة والسلام إنه (لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية)، فإن الظاهر منه أن الهجرة توقفت إلى الأبد مع بقاء الجهاد، وحيال ذلك اجتهد العلماء في شرح هذا الحديث هل المقصود هنا الهجرة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة من بلاد الكفر؟ أم كان جوابا على شكاية بعض الأعراب من شدة حمى المدينة ولأوائها ؟ أم كانت الهجرة فرضا في بداية الإسلام لهدف اجتماع المسلمين في مكان واحد، وإقامة الدولة الإسلامية ؟

هذه التساؤلات واردة لكن قوله : “ولكن جهاد ونية”، استثنى من الهجرة الجهاد، لأن الهجرة من بلاد المنبت والمولد إلى بلاد الغربة فيها كلفة وتعب وبذل المهج، وهي نوع من الجهاد في التعريف المختار، والهجرة التي نفاها الحديث هنا الهجرة المخصوصة التي كانت من مكة المكرمة قبل الفتح، لأن مكة حين فتحت صارت بلاد الإسلام، لا تجوز الهجرة منها بعد ذلك، ولا ينسحب هذا الحكم على جميع الأحوال، ما لم يتحد السبب، فإن الهجرة من بلاد الكفر تبقى واجبة شرعا حين لا يتمكن المسلم من القيام بأمور دينه، وتكون العبرة هنا بالأمن في الدين والنفس، والحديث إذاً في هذا الإطار محكم لأنه وردت معه أسباب، ومتى ارتفعت هذه الأسباب رجع الحكم إلى الأصل.

إن بقاء الهجرة وهي نوع من الجهاد يجرنا إلى دراسة نماذج أخلاقية من هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم لاصطحابها معنا في حياتنا اليومية، نبذل قصارى جهدنا في تعلمها وتطبيقها وتعليمها لكل من حولنا .

إن الهجرة النبوية غيرت مجرى تاريخ الدعوة الإسلامية، من مرحلة الضعف حين كانت يد الأعداء من مشركي قريش وغيرهم تناوش دعوة الإسلام، إلى مرحلة التمكين وتأسيس دولة الإيمان والعقيدة، واستقرت بذلك تعاليم ديننا بعقائده وشرائعه وأخلاقياته، ولكن الشيء الذي يجب على كل واحد منا أن يسأل نفسه ماذا يمكن أن نتعلم من هذه الحادثة التاريخية؟

نتعلم من هذه الهجرة جوانب أخلاقية رائعة، من ذلك التضحية، حين ترك الناس أهاليهم وأموالهم وأوطانهم في الله، لإعلاء كلمة الله، والرغبة في نيل مرضاة الله، محفزات عبدت طريق الهجرة على الصحابة، صهيب الرومي مثلا يتخلى عن أمواله لقريش ليفسح المجال أمامه للهجرة، وأم المؤمنين أم سلمة يفرق بينها وبين زوجها أبي سلمة، وابنها من أجل الهجرة!

نتعلم من الهجرة الإخاء والإيثار، كانت الأخوة بين المهاجرين والأنصار بلغت ذروتها، وتميزت بالإيثار والتعفف، كان الأنصاري يخير أخاه من المهاجرين أن يأخذ من أمواله ما يشاء، وكان المهاجري يتعفف أن يطلب بهلع وجشع!  وصف القرآن الكريم خليقة المهاجرين بقوله: (يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ) وقال في حق الأنصار : (يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ).

كانت الأخوة بين المهاجرين والأنصار بلغت ذروتها، وتميزت بالإيثار والتعفف، كان الأنصاري يخير أخاه من المهاجرين أن يأخذ من أمواله ما يشاء، وكان المهاجري يتعفف أن يطلب بهلع وجشع

هذا التآخي وصل المرتبة المثالية حين كان الصحابة يتوارثون بينهم ويتناصرون دون أرحامهم من المشركين، ويفضلون إخوانهم من المسلمين على ذوي القرابة الحقيقية من غير المسلمين، فكانت أخوة الإيمان والعقيدة أوثق لديهم. يروي عبد الله بن عمر رضي الله عنهما في حديث صحيح، وصفه لحال المسلمين في بدايات الإسلام، يقول: قَدْ أَتى عَلَيْنَا زَمَانٌ أَوْ قَالَ حِينٌ، وَمَا أَحَدٌ أَحَقُّ بِدِينَارِهِ وَدِرْهَمِهِ مِنْ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ، ثُمَّ الْآنَ الدِّينَارُ وَالدِّرْهَمُ أَحَبُّ إِلَى أَحَدِنَا مِنْ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (كَمْ مِن جارٍ مُتعلق بِجَارِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَقُولُ يَا رَبِّ هَذَا أَغْلَقَ بابهُ دُوني فَمَنع مَعْرُوفَهُ).

نتعلم من هذه النماذج القليلة الأخلاق الاجتماعية التي تمثلها هجرة النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، ولنا أن نقارن بينها وبين وحال الأمة الإسلامية اليوم! ونحن نستحضر مواقف الصحابة وأدوارهم في حادثة الهجرة، وبناء الدولة الإسلامية.

هل نحن مجتمعون على كلمة واحدة أو مفترقون تبعا للانتماءات والحركات، والنزوات، واللغات، والجنسيات؟

هل قدمنا يد العون والنصرة كما يلزم للمسلمين المغزوين في ديارهم؟

وهل إخلاصنا لديننا وعقيدتنا أقوى أم إخلاصنا للحركات، والشخصيات، والأفكار ؟

تساؤلات متعددة يجب على كل مسلم مكلف أن يفكر عنها ، ونجاهد أنفسنا على القيام بهذه الفضائل، ونراعي حقوق أنفسنا ومن حولنا من أبناء المسلمين.