في تاريخ الإنسان التقليدي القديم والأقوام السابقين للاسلام كشريعة ومنهاج؛ كان الناس يصوغون مفاهيميهم الوجودية عن الحياة وأصلها ويتعاملون من خلال “قيم منتجة بشريا مستندين على (الفطرة البشرية، العقل، التقاليد، العادات القبلية والحكمة السائدة).
ففي الفترة بين الدين المسيحي وإرسال الله الرسول محمدا ﷺ بالاسلام كشريعة ومنهاج كانت تلك الفترة مليئة بالأزمات والتحديات الخطيرة، فاشتق منافقو ومجرميو وكهنة ذلك العصر جزءً من الصفات والقيم التي أنزلها ثم ألبسوها رداء شهواتهم وخلطوها مع عاداتهم وثقافتهم الموروثة، ثم أصبحوا ينشرون نسخة مزورة من الدين الإلهي للناس ليلبسوا عليهم الحق مع الباطل. تلك الفترة انتشر الفساد في الأرض ووقع الظلم والعدوان على الناس، انتشر القهر والجبروت من الجهات السياسية والحاكمة صاحبة السلطة السياسة والعسكرية.
لهذا السبب أرسل الله الرسول محمدا بالرسالة الإسلامية كشريعة لتصحيح المسار وإرجاع الناس إلى كف الأذى العدواني المادي والمعنوي والعقائدي. تلك الشعب النفاقية والمجرمة رفضت الرسالة المسيحية “رسالة عيسي” واّمنوا بالموروثات الوجودية والعقائدية والفلسفية والفكرية والاجتماعية والسياسية والثقافية التي ورثوها من اّبائهم، ومن الثقافة التاريخية للمجتمعات التي سبقتهم ولسان حالهم يقول: “إنا وجدنا اّباءنا على أمة وإنا على اّثارهم مقتدون”، كما يقول القرآن، فجاء موقفهم مطابقا لما حق به القرآن من حقائق قطعية لا لبس فيها ولا من خلفها ولا من بين أيديها. هذا الموقف الرافض قطعيا للحقيقة الوجودية والأزلية بحاكمية الله وملكيته الأزلية والأبدية للكون والخلق أجمعين؛ لم تكن السبب الوحيد الذي أنزل الله به الرسالة المحمدية والرسالات من قبله، بل السبب الجوهري هو أن هؤلاء القوم حولوا هذا الموقف المفاهيمي والفكري إلى تطبيق في الواقع العملي، أي أنهم حولوه إلى عدوان وأذى جسدي ومادي على البشر الذين آمنوا بهذه الرسالات والرسل.
هذا الأذى والعدوان كان موجها لاغتصاب حق حرية البشر اّنذاك في الاختيار (الايمان أو الكفر)، وحقهم في أكتساب المعرفة بكل الديانات والرسالات والفلسفات الدينية وغير الدينية، ثم الإيمان بها بعد الاقتناع. فهب هؤلاء الرافضون لحرية الاختيار واكتساب المعرفة بالهجوم على كل من يريد أن يؤمن بالرسالة أو الله، وأخضعوه لخيارات قهرية:
الأول: الإخراج والتهجير والإبعاد والقتل
الثاني: العودة إلى رؤيتنا وثقافتنا الدينية والحياتية الموروثة من اّبائنا.
فمثلا في قصة سيدنا عيسى عليه السلام عندما جاء قومه بالرسالة المسيحية السمحة، جاء الرفض من الكثيرين للرسالة والرسول عيسى، ثم بعد ذلك حولوه إلى عدوان وأذى جسدي على سيدنا عيسي بأن خيروه بين القتل أو اتباع موروثاتهم الدينية وأساطيرهم المنقولة المتتالية. يقول تعالى: “وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ ۚ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ ۚ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ ۚ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا “.
بهذا الأذى والعداوان الجسدي على حرية عيسى ومن آمن معه، أهلك الله هؤلاء القوم وشرد باقيهم في الأرض. فالله تعالى يتدخل عندما تنتهك الحرية البشرية لأي إنسان وهو في موقف لا يملك فيه أي خيار اّخر. فيقول الله تعالى موضحا تدخله ونصره من أجل الحرية البشرية “إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ۖ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ ۗ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيم”. فهنا تدخل ونصر للنبي والصديق من أجل محاولة قومه المشركين انتهاك حرية الاختيار الديني والعبادة، ومن جانب اّخر أهلك الله قوم لوط بالخسف وأرسل لهم حجارة من سجيل بسبب أنهم حولوا موقفهم الديني والعقائدي من الله والنبي لوط إلى عدوان وأذى جسدي على لوط وهموا بإخراجه من دياره عنوة وقهرا. يقول تعالى: “فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ ۖ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ”.
وكثير من الاّيات تشير إلى أن الله يتدخل وينصر العبد من أجل الحرية ليكتسب المعرفة بكل ما في حياته ثم يختار الخيار الذي يريده واعيا وباقتناع، ثم يوفى حسابه في الدينا والآخرة. فتلك الشعب النفاقية المجرمة كانت تستعمل الثفافة والتقاليد والعادات والمواقف العقادئية الموروثة من آبائهم كإطار مرجعي ومفاهيمي تشرع وتضبط وتوجه سلوكياتهم وسياساتهم وعلاقتهم من الجنس البشري في البيئة المحيطة.
وهذا ما أسميه “القيم الإيديولوجية المنتجة بشريا”، ودائما ما يشوبها ويتلبسها الكثير من التشوهات والتحيزات وعدم الاتساقية والكمالية، مما يؤدي إلى ارتفاع معدل الظلم الاجتماعي والاقتصادي وارتفاع معدل الجريمة والفساد. كل هذا بسبب أنها يتم إلباسها بالرغبات الفردية أوالجماعية لسادات وكبراء ذاك العصر، ومطامع شخصية وأهواء لا محدودة فيسود لهم الحكم والسيطرة والقوة في الأرض.
وهذا يؤكد أن هذه المجموعة من القيم لا يمكن أن تصل مرحلة الكمال البنيوي أو التأسيسي، وفي هذا الصدد يقول تبارك وتعالى: “ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها”. بتدبر وتأمل الاية أعلاه نستقرئ أن النفس البشرية مكونة من جانبين أساسيين: جانب الفجور وجانب التقوي، وهذان الجانبان يأثران بقدر كبير على قرارات وممارسات وسلوك الفرد والجماعة، مما يجعلنا نطرح السؤال التالي: كيف نستطيع أن نحرك جانب التقوى في النفس البشرية بما يخدم الفرد نفسه أولا ثم الجماعة المجتمعية؟