بواعث التصنيف حول المدن والبلدان
هناك بواعث عديدة تقف وراء كثرة المصنفات الإسلامية حول المدن والأمصار، ويمكن استشفافها من خلال أحد المصنفات الذائعة ألا وهو (معجم البلدان) لصاحبه ياقوت الحموي (ت:626هـ ) الذي تحدث في مقدمته عن دواعي تأليفه، وهي: أولا: الامتثال للأمر الإلهي بالسير في الأرض والاعتبار بحال أهل القرون الخالية، وحول هذا المعنى يقول الحموي إن هذا الكتاب ” لم أقصد بتأليفه وأصمد نفسي لتصنيفه، لهوا ولا لعبا، ولا رغبة حثتني إليه ولا رهبا، ولا حنينا استفزني إلى وطن، ولا طربا حفزني إلى ذي ود وسكن، ولكن رأيت التصدي له واجبا، والانتداب له مع القدرة عليه فرضا لازبا، وفقني إليه الكتاب العزيز وهو قوله جل وعز … ” أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار، ولكن تعمى القلوب التي في الصدور”. ثانيا: ضبط وتصويب ما شاع من الأخبار والآثار والروايات حول أسماء البلدان ومواقعها وسير الفضلاء وتراجم أهل العلم. ثالثا: حاجة أهل العلم على اختلافهم للمعلومات الدقيقة عن المدن والبلدان؛ فالفقهاء محتاجون لمعرفة هل فتحت البلدان صلحا أم عنوة إذ لكل منها حكم في الشريعة في قسمة الفيء والخراج وأخذ الجزية وهذا ما لا يسعهم الجهل به لأنه من لوازم الفتيا، وأما أهل السير والتراجم والتواريخ فحاجتهم إلى معرفتها أمس لأنه معتمد علمهم الذي عليه مدار كتبهم، وأما الأطباء فلمعرفة أمزجة أهل البلدان وأهوائها وما يلزم لتطبيببها[1]. ويمكننا أن نضيف لما ذكره الحموي باعثا آخر وهو اتساع رقعة الدولة الإسلامية الذي استلزم جمع معلومات دقيقة عن تقسيم الولايات والأماكن المأهولة والمحاصيل الزراعية والصناعية وتقدير الخراج والضرائب نقدية وعينية، ثم إن مصالح الدولة حالت دون اكتفائها بمعرفة أراضيها وحدها بل غدا ضروريا الحصول على معلومات دقيقة عن البلدان المتاخمة والبعيدة وساعدها هذا في إقرار سياسة السلم أو الحرب[2].التصنيف الموضوعي لكتب المدن والبلدان
والمصنفات حول المدن والبلدان وفيرة بحيث يصعب إحصاؤها وهي تتنوع في موضوعاتها ومناهجها، وبالإمكان تصنيفها وفقا لمعيارين: أولهما معيار التعميم أو التخصيص، وأعني به أن بعضها يتخذ طابعا عموميا أو بالأحرى موسوعيا كما هو الحال مع كتاب البلدان لأبي حنيفة الدينوري (282هـ )، والبلدان لليعقوبي (ت: 292هـ )، وآكام المرجان فى ذكر المدائن المشهورة فى كل مكان لإسحاق بن الحسين المنجم وهو من أهل القرن الرابع، ومعجم البلدان لياقوت الحموي (ت: 626هـ ) وهو من أكبر المصنفات في بابه إذ يبلغ 7 مجلدات تضم 15038 مادة جغرافية موزعة على 28 بابا. وبعضها الآخر ينحو نحو التخصيص بحيث يقتصر على ذكر مدينة واحدة إذ لا تكاد توجد مدينة تخلو من كتاب يتناول خططها وما يتصل بها من ضواحي وموارد للمياة إضافة إلى تاريخها وسير رجالها، ومن أمثلتها: تاريخ مكة للأزرقي (ت:244هـ )، وآخر للفاكهي، (ت: 246هـ)، وتاريخ المدينة لابن شبَّه النميري (ت: 262هـ ) وتاريخ واسط لبحشل (ت: 292 هـ) وتاريخ بغداد لابن طيفور (ت: 280هـ)، وللخطيب البغدادي (ت: 483 هـ)، وتاريخ دمشق لابن عساكر (ت: 571 هـ)، ومعظمها يغلب عليها الطابع التاريخي، إلا أن بعضها يقع ضمن حقل الجغرافيا مثل كتاب ترصيع الأخبار للعذري (ت: 478 هـ) وهو في جغرافية الأندلس[3]. وثانيهما معيار الموضوع، وهو معيار أكثر شمولا وغنى من المعيار السالف إذ أن هذه المصنفات تصنف موضوعيا على النحو التالي:- كتب الفتوح، وهي من أوائل المصنفات الإسلامية إذ قصد من ورائها التأريخ للفتوح الإسلامية في الأقطار المختلفة، وهي تحوي معلومات تاريخية قيمة عن الفتوحات وكيفيتها وعن جغرافية الأقطار المفتوحة ونظمها الاقتصادية والإدارية وما إلى ذلك من معلومات دقيقة كانت تقدم للحكومة المركزية في دمشق أو بغداد، ومن أمثلة كتب الفتوح، كتاب (فتوح الشام) للواقدي( ت:207هـ ) وهو أقدم كتب الفتوح، وكتاب (فتوح مصر وأخبارها) لابن عبد الحكم (257هـ ) وكتاب (فتوح البلدان) للبلاذري (ت: 287هـ ) وهو أول مصنف شامل في الفتوح ومن أكثرها ذيوعا، وتلته كتب أخرى شاملة مثل كتاب (الفتوح) لابن أكثم الكوفي (ت: 314هـ ).
- كتب الفضائل، وهي نمط مبكر في الكتابة استمر حتى وقتنا الراهن ارتبط ببعض المدن ذات الصفة الدينية أو البلدان ذائعة الصيت المشتهرة بالعلم والفضل، ومن أمثلتها: كتاب (فضائل مكة والسكن فيها) للحسن بن يسار (ت:110هـ ) وهو من أوائل كتب الفضائل وهو منشور في طبعات كثيرة، وفضائل مصر المحروسة للكندي (ت:355هـ )، وفضائل الأندلس وأهلها لابن حزم الأندلسي(ت:456هـ ) ، وفضائل القدس لابن الجوزي (ت:597هـ )، وإتحاف الاخصا بفضائل المسجد الأقصى للمنهاجي السيوطي (ت: 880هـ )، ونثر الدر المكنون من فضائل اليمن المكنون للأهدلي (ت: 1371هـ ).
- كتب الخطط: وهي نمط آخر من أنماط الكتابة المتخصصة تعنى بذكر طوبوغرافية المدن كالشوارع والدروب والدور والمحلات والأسواق والجوامع والربط والزوايا وغيرها وفي الغالب ترتب حسب الأحرف الأبجدية، وخير مثال لها كتاب : المختار في ذكر الخطط والآثارللقضاعي(ت:454هـ ) وقد ذكره المقريزي وهو مفقود، وكتاب الخطط المقريزية لتقي الدين المقريزي (ت:875هـ )، والخطط التوفيقية لعلي مبارك (ت: 1311هـ ) وهي تقع في ستة مجلدات وتعد مرجعا لا غنى عنه في تاريخ مصر خلال القرن التاسع عشر إذ تضمنت أسماء البلاد المصرية ومواقعها ومواردها الطبيعية وأشهر رجالاتها وحوادثها، وكتاب خطط الشام لمحمد كرد علي (ت: 1372هـ ) وهو آخر من صنف في هذا الباب.
- كتب الأخبار والتواريخ: وهي أغزر أنماط التأليف وأكثرها شيوعا، والمصنفات في هذا الباب يتعذر حصرها إذ حرص أهل كل مدينة أو قطر على تدوين تاريخها في كتاب أو ما يزيد ومن أمثلتها تاريخ المدينة لأبي زيد عمر بن شبة (262ه)، وذكر أخبار أصبهان لأبي نعيم الأصبهاني (ت: 430هـ ) وتاريخ جرجان للسهمي (ت: 427هـ )، وتاريخ أربيل المسمى نباهة البلد الخامل بمن ورده من الأماثل لابن المستوفى الأربيلي (ت: 637هـ )، ومن المصنفات الضخمة في هذا الباب الإحاطة في أخبار غرناطة لابن الخطيب (ت: 776هـ ) وهو يقع في أربعة أجزاء، حققه ونشره كاملا محمد عبد الله عنان، وكان المنشور منه جزءا واحدا قبل ذلك جزءا واحدا، وتاريخ دمشق الكبير لابن عساكر وهو يقع في ثمانين مجلدا( ت: 571هـ ) وحسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة للسيوطي (ت: 911هـ ) والمغرب في حلى المغرب لأبي الحسن على بن موسى بن سعيد المغربي الأندلسي (ت: 685هـ)، والمؤنس في أخبار أفريقية وتونس لابن أبي دينار (ت: نحو 1111هـ ).
- كتب تراجم المدن والبلدان: وهي نمط آخر شائع من أنماط الكتابة التاريخية يختص بذكر تراجم أهل المدن والأمصار ومن أمثلتها، تاريخ علماء أهل مصر ليحيى ابن ابراهيم الحضرمي (ت: 416 هـ ) جذوة المقتبس في تاريخ علماء الأندلس للحميدي (ت:488هـ ) وهو من أهم كتب تراجم أهل الأندلس ويقع في ثمانية عشر مجلدا نشرها محققة الأستاذ إبراهيم الإبياري، وطبقات فقهاء اليمن لابن سمرة (ت: بعد 586هـ )، والطالع السعيد الجامع لأسماء الفضلاء والرواة بأعلى الصعيد [صعيد مصر] لابن جعفر الأدفوي ( ت:748هـ ) ، والوسيط في تراجم أدباء شنقيط للأمين الشنقيطي (ت: 1331هـ )[4].
- كتب الرحلات: وهي أحد الأنماط المألوفة في التدوين حول المدن والبلدان، وارتبطت نشأته بسفر المسلمين للحج إلى مكة، وهنالك مؤلفات مشتهرة ضمن هذا الباب ومنها: رحلة ابن فضلان الى بلاد الترك والروس والصقالبة لأحمد بن فضلان (ت: بعد 310 هـ )، ورحلة السيرافي لأبي زيد السيرافي (ت: بعد 330هـ ) وزار خلالها بلاد الصين والهند ووصفها وصفا دقيقا، وذكر ملوكهما وتاريخهما منذ القدم، ورحلة ابن جبير لمحمد بن جبير الأندلسي (ت: 614 هـ ) وزار خلالها القدس بعد رحيل الصليبيبين عنها ومكة والمدينة (لأداء فريضة الحج) وزار بعض الحواضر الإسلامية كالقاهرة ودمشق، ورحلة ابن بطوطة المعنونة : تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار لمحمد بن عبد الله اللواتي الشهير بابن بطوطة (ت: 779هـ ) والتي استغرقت ما يقرب من الثلاثين عاما بدأها من مدينته طنجة التي خرج منها قاصدا الحج عام 725 هـ وأتمها عام 754 هـ ممضيا قرابة الثلاثين عاما في السفر والترحال، وهي أشهر كتب الرحلات في التراث الإسلامي، وقد طبعت ونشرت للمرة الأولى في منتصف القرن التاسع عشر.
[1] ياقوت الحموي، معجم البلدان، طبعة ألمانيا، 1282هـ، 1/3-4.
[2] اغناطيوس يوليانوفتش كراتشكوفسكي، تاريخ الأدب الجغرافي العربي، ترجمة: صلاح الدين عثمان هاشم، القاهرة: لجنة التأليف والترجمة والنشر، ج1، ص 19.
[3] عبد الله بن يحيى السريحي، معجم البلدان لياقوت بن عبد الله الحموي: أهميته ودواعي تحقيقه.
[4] لمزيد من الكتابات في هذا الباب أنظر؛ محمود محمد الطناحي، الموجز في أسماء التراجم والبلدان والمصنفات وتعريفات العلوم، القاهرة: مكتبة الخانجي، 1985.