مع أنني لا أتفق مع وجهة نظر الفيلسوف الروسي المعاصر والجالس بجوار “بوتين” أو خلف قراراته، إلا أنني أرى أن تصوراته المستقبلية تستحق التأمل العميق(رغم أنها لا تتفق مع وجهة نظري قيد انملة)، ففي نظريته السياسية ” الرابعة” يرى دوغين ما يلي:

 

إن المستقبل “للمقدس لا للمستباح ،للمطلق لا للنسبي، لهايدغر لا لديكارت، للتقاليد لا للحداثة ،إنها لعودة العصور الوسطى، إنها لعودة الأزمنة الكبرى الجادة..فالحداثة افقها العدم..وهذه هي المشكلة الأعمق المتوارية خلف كل السياسات الدولية التي تنسجها العولمة الليبرالية المعاصرة”…هذه زبدة رايه.

من الواضح ان تراث الفيلسوف الروسي “نيكولاي برديائيف” بخاصة كتاباته ” فلسفة اللامساواة ، و”معنى التاريخ” و كتاب “روح ديستوفسكي” تُطِلُ من بين سطور النظرية السياسية الرابعة لدوغين، مع ملاحظة ان بوتين طلب في عام 2014 من كبار موظفي الدولة الروسية قراءة كتاب برديائيف “فلسفة اللامساوة” الذي كان سببا في طرد الشيوعيين لذلك الفيلسوف من الاتحاد السوفييتي في بداياته ،وهو امر يستحق التأمل العميق لفهم كل من بوتين ودوغين.

يقف دوغين ضد النظريات الكبرى الثلاث وهي الفاشية والماركسية والليبرالية لانها في رأيه تجسيد للحداثة التي يرفضها جملة وتفصيلا ،فالنظرية الأولى (الفاشية اجبرت المكونات الاجتماعية بطريقة قسرية على الانضواء في مشروع عنصري” والثانية (الماركسية فإنها ديماغوجية وتفتقد الرؤية المستقبلية وعادت تدور في نطاق التكيف مع مقولات الليبرالية مثل الحرية والديمقراطية..الخ) اما الثالثة (الليبرالية فحولت الفرد تحت شعار الحرية الى عبد للسوق وللسلعة)، وهو يرى في التقاليد” الدين والعائلة والتراث والتنوع العرقي..الخ” الأساس الذي يجب العمل على العودة له لبناء نظرية سياسية جديدة…فما هي اسس هذه النظرية الجديدة التي يقترحها دوغين؟

تقوم نظريته السياسية الرابعة على مجموعة أفكار محددة هي :

1- الاعتراف بقيم المجتمعات الأخرى بعيدا عن المركزية القيمية الغربية.
2- القبول بنظام دولي تعددي وأخلاقي
3- تجسيد السيادة الجيوسياسية للقوى الأوراسية( روسيا والصين وايران والهند) ضد القوى الاطلسية.
4- العمل على تعزيز ماضي الشعوب وكبح الحداثة وإعادة الفرد المستلب الى الجماعة والى “الروح” أي الله.
5-تصنيف النزعة الامبراطورية المعاصرة الى صنفين هما الامبراطورية السلبية وتجسدها الطموحات الامريكية ممثلة في العولمة وميثاقها الرأسمالي ، والنزعة الامبراطورية الاسلامية وتمثلها الحركات “الارهابية الدينية ” ونزعة امبراطورية اوروبية لكنها نزعة مترددة وتفتقد لمنظور اقليمي واضح…اما النوع الثاني فهوالامبراطورية الايجابية التي يدعو لها دوغين وتقوم على الاسس الأربعة سابقة الذكر وتتجسد في “ألأوراسية”.

في تقديري ان مشكلة دوغين هي في الخلط بين مسالتين هما : رومانسية النزعة الانسانية التاريخية بدءا من لحظة الوجود من ناحية ،وبين ما ينتج في الواقع عن تفاعل الميتافيزيقيا مع الفيزيقيا ومع ما تفرضانه على النزعة الانسانية من قيود من ناحية أخرى.

فالحداثة هي مرحلة في مدرسة الحياة لفك طلاسم التفاعل السابق ،فهي منهج وليست ” آيديولوجيا”، فالنظريات الثلاث التي عرضها دوغين حولت الحداثة لآيديولوجيا ووظفتها سياسيا، بينما هي منهج يحاول أن يصل للنزعة الانسانية التي تراوده منذ الأزل لكنه كثيرا ما تاه في الطريق عن غير قصد ولكن بحكم بنية النفس البشرية ، وهذا التوهان ظنه دوغين “المنهج” بينما أراه أنا ” آيديولوجيا”..فالإنسان في مرحلة معينة كان عبدا يباع ويُشترى، وكان جزءا من التقاليد المقبولة من البائع والمشتري، فمن حول هذا التقليد الى “جريمة”؟ إنه المنهج عندما يعود للجادة الصحيحة….ربما.