في عالم مليء بالنزاعات والصراعات، على مختلف المستويات، تشتد الحاجة إلى “كلمةٍ سَواء”؛ تكون قاسمًا مشتركًا بين الفرقاء المتنازعين، وجسرًا للتواصل بين المتقاطعين، وبلسمًا يخفف من حدة الصراعات ويعمل على تحقيق ولو الحد الأدنى من التفاهم. و”الكلمة السواء” تعبير قرآني في شأن دعوة أهل الكتاب إلى الاتفاق على ما يمكن أن يكون قاسمًا مشتركًا بين أهل الرسالات السماوية؛ رغم ما وصل بينها من اختلاف، نتيجة تحريف بعضها، ودخول الوثنية على أصلها النقي.. قال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ ۚ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (آل عمران: 64).

جاء في تفسير ابن كثير: “هَذَا الْخِطَابُ يَعُمُّ أَهْلَ الْكِتَابِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَمَنْ جَرَى مَجْرَاهُمْ. {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ} وَالْكَلِمَةُ تُطْلَقُ عَلَى الْجُمْلَةِ الْمُفِيدَةِ. ثُمَّ وَصَفَهَا بِقَوْلِهِ: {سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} أَيْ: عَدْلٌ وَنَصَفٌ، نَسْتَوِي نَحْنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا. ثُمَّ فَسَّرَهَا بِقَوْلِهِ: {أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا} لَا وَثَنا، وَلَا صَنَمًا، وَلَا صَلِيبًا وَلَا طَاغُوتًا، وَلَا نَارًا، وَلَا شَيْئًا؛ بَلْ نُفْرِدُ الْعِبَادَةَ لِلَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ. وَهَذِهِ دَعْوَةُ جَمِيعِ الرُّسُلِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (الْأَنْبِيَاءِ: 25). ثُمَّ قَالَ: {وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ}، وَقَالَ ابْنُ جُرَيْج: يَعْنِي: يُطِيعُ بَعْضُنَا بَعْضًا فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ”([1]).

وقال الإمام محمد عبده: “المعنَى أننا نحن وإياكم على اعْتِقَادٍ أن الْعَالَمَ مِنْ صُنْعِ إِلَهٍ وَاحِدٍ، وَالتَّصَرُّفَ فِيهِ لِإِلَهٍ وَاحِدٍ، وهو خَالِقُهُ وَمُدَبِّرُهُ، وهو الذي يُعَرِّفُنَا عَلَى أَلْسِنَةِ أَنْبِيَائِهِ مَا يُرْضِيهِ مِنَ الْعَمَلِ وَمَا لَا يُرْضِيهِ؛ فَتَعَالَوْا بِنَا نَتَّفِقُ عَلَى إِقَامَةِ هذه الأصُولِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا وَرَفْضِ الشُّبْهَاتِ التي تَعْرِضُ لها”([2]).

هذا هو موقف الإسلام في التعامل مع المخالفين له على “المستوى الديني”؛ يدعوهم إلى “كلمة سواء” لتكون قاسمًا مشتركًا، وأرضية يمكن الالتقاء عليها لِمَا فيه مصلحة الجميع.

ولا شك أننا نحتاج إلى هذه “الكلمة السواء” على مختلف الأصعدة؛ سواء في علاقاتنا بعضنا ببعض، أفرادًا ومجتمعات، أو علاقاتنا بغيرنا من الأمم والشعوب..

حق الاختلاف والتعدد

ويمكن أن نلاحظ أن الدعوة إلى “كلمة سواء”، تعني ابتداءً، أو تتأسس على الإقرار بحق الاختلاف والتعدد، وبعدم إمكانية جَعْلِ الناس جميعًا نُسخًا مكررة من بعضهم البعض؛ لأن الناس لو كانوا على حالة من التطابق لَمَا احتاجوا إلى “كلمة سواء”! وإنما يكون الموقف حينئذٍ التشابهَ والتوحدَ.. بينما سنة الله تعالى في خَلْقه أن يكونوا متعددين في اللغة والدين والعِرق: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ۖ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} (هود: 118)، {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ۚ أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} (يونس: 99).

لكن مع إقرار هذا الحق في الاختلاف والتعدد، ينبغي أن تكون ثمة جهود لإيجاد أرضية مشتركة، وألا يُتخذ هذا التعدد ذريعة للصراع والاقتتال! وإنما يكون سبيلاً للتنوع وللتعارف، وطريقًا للثراء والتكامل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (الحجرات: 13).

فلو كنا بصمة واحدة، أو نُسخًا متطابقة؛ لما توافرت لنا هذه اللوحة البديعة متعددة الألوان والجماليات، من اختلاف اللغات والأشكال والأعراق والمذاهب والأفكار..

إن التعدد له ألوانه الزاهية التي لا يدركها إلا من يتمتعون بحاسة بصر سليمة رائقة، وبقدرة على تذوق الجمال والتقاط أسرار التنوع؛ لا الذين يبحثون عن ذرائع للمواجهة، ويختلقون أسبابًا للشقاق، ولا يعرفون العيش إلا في بيئات الصراع؛ مثل جراثيم لا تحيا إلا في المستنقعات! أعزكم الله.

آداب الخلاف والحوار

وكما تتأسس الدعوة إلى “كلمة سواء” على تقرير الحق في التعدد والاختلاف، فإنها تنتعش بالتزام آداب الخلاف والحوار؛ فلا يكفي مجرد إقرار حق التعدد، وإنما لا بد من إحاطته بآداب الحوار؛ بما تتضمنه من عفة اللسان، واتباع الدليل، وعدم المماطلة أو التدليس أو الزيغ.. إضافة إلى التغاضي عن الزلات، وعدم التربص بالطرف الآخر، فضلاً عن إيقاعه في الخطأ، أو إحاطته بسوء الظن ونَسْجِ الشبهات من حوله!

والذي يتأمل في أحوال عالمنا المعاصر يروعه افتقاد هذين الأمرين اللذَيْن تتأسس عليهما الدعوة إلى “كلمة سواء”! فتقرير حق التعدد يكاد يكون غائبًا، وأكثر غيابًا منه آداب الاختلاف والحوار!

ولهذا شقي عالمنا المعاصر، في علاقة المجتمعات والدول- داخل نسيجها، وخارج محيطها- بالتمزق والصراع والشقاق، وضاعت الحقوق الأساسية للضعفاء والعجزة الذي لا يجدون نصيرًا ولا عونًا، وصار استيفاء الحق مربوطًا بالقدرة التي تتوافر لصاحبه وليس بأحقيَّته فيما يطلبه!

بل صار الداعون إلى “كلمة سواء”- تخفِّف من حدة الصراعات داخل المجتمعات- محلَّ تهكم أو تشكك من أطراف النزاعات؛ كلُّ طرف يحسب الداعي لها على الطرف الآخر، ويشكك في دعوته حتى وهي في مهد التشكل والتبلور!

فأين الوعي بسنة الله تعالى في الخلق! وأين إدراك أهمية احترام التعدد والمحافظة عليه! وأين الحرص على أدب الخلاف والحوار! وأين الحذر مما يمزق المجتمعات ويُضعف نسيجها ويَذهب بقوتها!

ترميم جدراننا

لقد حذَّر النبي صلى الله عليه وسلم مما يُضعف وحدة المجتمع، ودعا إليه ما يُقوِّيه؛ لأن مجتمعًا ضعيفًا لن يؤدي الدور المنوط به في معادلة الحضارة، ولن يَقَوَى على مواجهة التحديات.. قال صلى الله عليه وسلم: “دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ، الْحَسَدُ وَالْبَغْضَاءُ هِيَ الْحَالِقَةُ، لَا أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعَرَ وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ؛ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا؛ أَفَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِمَا يُثَبِّتُ ذَلكَ لَكُمْ؟ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ”([3]).

ولهذا، نحن محتاجون إلى “كلمة سواء” نُرمِّم بها ما تهدَّم من جدران مجتمعاتنا.. بل ومن جدران عالمنا الإنساني، الذي بات يشقى أكثر من ذي قبل بصراعاته وإِحَنِه؛ ومن ثم، صار أكثر حاجة إلى هذه “الكلمة السواء”؛ التي ترمِّم وتَبني وتقيم جسور التواصل والتعارف..


([1]) تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، 2/ 56.

([2]) تفسير المنار، 3/ 268.

([3]) رواه الترمذي عن الزبير بن العوام، وحسّنه الألباني.