ضمن فعاليات اليوم الثاني من مؤتمر: “التعدد القومي في الشرق الأوسط: نحو إطار حضاري مشترك” كانت هناك جلسة تناولت موضوع: “اللغة والهوية والمسألة القومية”، وشارك فيها كل من الدكتور منير حسن من جامعة الخرطوم بورقة بعنوان: “الحاجز اللغوي الثقافي بين قوميات الشرق الأوسط”، والدكتور فاروق أحمد عميد بجامعة الجنينة بجنوب السودان بورقة عنوانها: “الإعلام الرسمي وسؤال الهوية في السودان-إقليم دارفور أنموذجا”.
وقد تناول الباحثان أهمية جسر الهوة اللغوية بين مجتمعات الشرق الأوسط، باعتبارها أهم وسيلة للتفاهم والتواصل اللذين يضمنان الألفة والالتحام وتوحيد الطموحات والمصائر المشتركة، خاصة أن التقارب الجغرافي وأحيانا الإثني يتيح فرصا كبيرة لهذا التواصل مما يجعل عائق اللغة يحتاج جهدا خاصا.
وتعني اللغة هنا اللهجات العامية التي يتحدث بها مجتمع كل دولة، وهي لهجات وإن انبثقت كلها من اللغة العربية إلا أن طرائق النطق وشيوع مفردات غير مستخدمة لدى الطرف الآخر، يجعل التفاهم بين هذه المجتمعات غير سلس، حسب الدكتور منير حسن.
وقد قدم الدكتور حسن مقاربته للمسألة من خلال اختبار قام به لـ60 شخصا يتوزعون على أربع جنسيات، هي: اليمن 20 مبحوثا، فلسطين 20 مبحوثا، مصر13 مبحوثا، سوريا 7 مبحوثين، وقد اختارهم من جاليات هذه الدول المقيمة في السودان.
وكان الاختبار عبارة عن نصوص شعرية لهجية مكتوبة بلهجات هذه الدول الأربع، وطلب من المبحوثين شرح مضامينها، وكانت النصوص المختارة للاختبار للشعراء التالية أسماؤهم: بالنسبة لليمن اختار الباحث أبياتا للشاعر حسين المحضار، واختار الشاعر نصا للشاعر أحمد فؤاد نجم من مصر، كما اختار نصا للشاعر الفلسطيني نجيب صبري، كما طلب من المشاركين التركيز على الكلمات ذات المدلولات الثقافية.
وقد كانت نتائج البحث متفاوتة، فبينما ظهر أن الفلسطيني استطاع أن يفهم أغلب النصوص إلا أن المصري واليمني كان أقل فهما للنصوص المكتوبة بلهجات غير لهجتهم، وقد استنتج الباحث من خلال اختباره أن هناك عوائق في التواصل بين أفراد الجاليات العربية، مقدما جملة من التوصيات.
وكانت أهم تلك التوصيات هو عقد مؤتمرات وندوات من أجل إعادة التفكير في دور اللهجات العامية في إضعاف الروابط بين المجتمعات العربية، والعمل على إيجاد حلول تمكن مجتمعات الشرق الأوسط من فهم بعضها البعض الآخر بطريقة سلسة وعادية.
ورغم أهمية ما قدمه الباحث من خلال اختباره البحثي هذا إلا أن بعض الملاحظات وردت من خلال المداخلات بينت بعض الأخطاء المنهجية التي ارتكبها الباحث في تصميم اختباره، ومن تلك الأخطاء عدم توحيده لموضوعات النصوص المختارة، فبينما كان نص أحمد فؤاد نجم سياسيا كان نص حسين المحضار اجتماعيا، وكان نص نجيب صبري ثقافيا ينزع نحو الحكمة والوصايا.
وهذا الاختلاف في موضوع النصوص ترك أثره على لغتها، فبينما تكون لغة النص السياسي بسيطة ومفهومة لأنها تمتاح من قاموس معاصر وحديث، ستظل اللغة الصعبة كامنة في النصوص الاجتماعية خاصة إذا تعلقت بالأعراس والحفلات، حيث لكل مجتمع تقاليده التي يتوارثها في هذا المجال، ويتوارث معها لغتها ومصطلحها ومجازاتها وكناياتها، وهو ما يجعل الاختبار غير دقيق في تصميمه ومن ثم غير دقيق في نتائجه.
أما الباحث الدكتور فاروق أحمد فقد ناقش موضوع اللغة في دارفور في أبعاده السياسية والاجتماعية دون أن يتناول اللغة كظاهرة مستقلة، وهو ما جعل مداخلته غير منصبة على الموضوع اللغوي داخليا، وقد عرض لبعض الأمور المتعلقة بارتباط اللغة بالدين، فبينما تكون لغة الإسلام هي العربية، فإن الفرنسية هي اللغة المسيحية، وأهل إقليم دارفور –حسب فاروق- مسيحيون بالكامل، وبالتالي كان ينبغي في إطار السياسة اللغوية الراشدة أن يدرسوا بلغتهم التي تعبر عن هويتهم، والتي تمنحهم الخصوصية التي هم مصطبغون بها بحكم الدين والإقليم والمجتمع.
لكن السؤال الذي يظل يلح دائما بعد كل ندوة من هذا القبيل هو: هل ينبغي أن نحيي اللهجات وأن نسعى لتوحيدها أم علينا أن ننهض باللغة العربية الفصيحة ونبذل الجهد حتى تكون هي اللغة السائدة في الخطاب اليومي بين الشعوب العربية، وذلك أن الجهود التي تبذل في اللهجات غالبا ما تتجه نحو تعزيز الانقسام المؤسس على الخصوصية اللغوية والثقافية، بينما يمكن للغة العربية أن تشكل عامل وحدة وانسجام.
لكن السعي لجعل اللغة العربية لغة الخطاب في عالمنا العربي يستدعي جهدا جبارا لتبسيط هذه اللغة وتقريبها من الإنسان العربي المتعلم والأمي على حد سواء، وما دامت السياسات اللغوية في عالمنا العربي غير قادرة على تمييز الأهم من المهم فإن لغاتنا فصيحة ولهجية ستظل تتراجع على حساب اللغة الأجنبية فرنسية أو انجليزية.