رغم القدم النسبي لكتاب المتلاعبون بالعقول (صدر عام 1973 ضمن سلسلة عالم المعرفة) للباحث الأمريكي هربرت أ. شيللر؛ إلا أن كثيرا من أفكاره ومقارباته ما تزال قيد التشغيل.
يتحدث الكتاب عن تقنيات التضليل وتعليب الوعي والتحكم بالرأي العام في الولايات المتحدة الأمريكية، وكيف تلعب وكالات الإعلام والاستعلام في صناعة الاهتمامات والمواقف التي تريدها أمريكا في العالم كله، ويقدم خلاصات عميقة في التأثير البالغ للدعاية وحرب المصطلحات وقدرتهما على تزييف الواقع وطمس الحقيقة.
وقد واكب الكتاب أهم فترة من فترات الدعاية الإعلامية في أمريكا حيث الحرب الباردة مع الاتحاد السوفيتي وتداعيات حرب فيتنام، مما أغناه بالشواهد والأدلة والمعلومات البكر، ولذلك فإن الكتاب يقدم صورة ناضجة عن أسس ومبادئ حرب المعلومات والاختراق الفكري التي كانت تديرها أمريكا إبان الحرب الباردة.
قلب تراتبية القيم
يضعنا الكتاب منذ البداية أمام مفارقة مفجعة، حيث يتحول حاملي دكتوراه في الأدب الانجليزي إلى مجرد محرري إعلانات لدى الشركات الكبرى، هذا ما يسميه الكاتب “قلب هرم القيم”، فبفعل سيطرة الشركات الكبرى على السوق، تصبح القيم رهينة للمال والدعاية ، لذلك أصبح شارع مانديسون ـ كما يمثل الكاتب ـ وجهة أولى لحملة الشهادات العليا بدل أقسام اللغة الإنجليزية بالجامعة التي تدفع رواتب أقل.
التعددية الإعلامية..أم الأساطير
إن السؤال الحقيقي لا يتمثل في ما إذا كانت وسائل الاتصال الجماهيري حرة أم لا؟ وإنما يتمثل في كيف؟ ولأي هدف؟ وعن طريق من؟ وبأي نتائج مترتبة تتم عمليات التوجيه والسيطرة التي لا محيد عنها.
هناك خمس أساطير تشكل أبعاد الفخاخ التضليلية التي تجعلنا ننظر للزيف على أنه حقيقة والعكس، أكثرها احترافية هي أسطور التعددية الإعلامية، أي حرية الإعلام التي توهم باستقلال الرأي في حين تَحكُم باستبداد ناعم، هنا يوضح شيللر حقيقة مهمة، إن السؤال الحقيقي لا يتمثل في ما إذا كانت وسائل الاتصال الجماهيري حرة أم لا؟ وإنما يتمثل في كيف؟ ولأي هدف؟ وعن طريق من؟ وبأي نتائج مترتبة تتم عمليات التوجيه والسيطرة التي لا محيد عنها.
من زاوية أخرى تخدم وفرة الصحف ووسائل البث التلفزي والإذاعي مصالح الطبقة الحاكمة، في حين يظن المواطن العادي أنها تجسد حريته المطلقة، كما أن فورية المعلومات وكثرتها يمكن أن تتحول إلى أداة تضليلية، لأن الانشغال التام باللحظة يدمر الروابط الضرورية مع الماضي، أي يبعث على النسيان ومن ثم التخلي عن المحاسبة على الأخطاء.
من جانب آخر فإن الشركات الكبيرة هي من تملك القدرة على الوصول إلى أكبر كم من الجمهور، ثم هي ترعى الإعلانات التجارية التي تمثل شرط استمرار لا غنى عنه بالنسبة لوسائل الإعلام، ومن هنا تفرض أجندتها بطريقة ضمنية.
حرب المصطلحات
يشير الكتاب إلى تركيز صانعي الدعاية في الولايات المتحدة على إشاعة المصطلحات المضللة القادرة على اختراق أسوار التمايز الثقافي والحضاري برفق ماكر، ويضرب مثالا بـ”الحفاظ على العالم الحر”، كلمة تصنع البهجة عند سامعها، ولكنها جريمة قد تؤدي إلى قتله جوعا أو تبعيةً، يعني العالم الحر”سياسة انتهجتها أمريكا لكبح وإحباط التغيير الاجتماعي في الأمم الأخرى من أجل حماية فرص الاستثمار للشركات الأجنبية، وقد أنشأت الحكومةُ وكالةَ الاستعلامات الأمريكية عام 1953 للاضطلاع بهذه المهمة”.
يعني العالم الحر”سياسة انتهجتها أمريكا لكبح وإحباط التغيير الاجتماعي في الأمم الأخرى من أجل حماية فرص الاستثمار للشركات الأجنبية، وقد أنشأت الحكومة وكالة الاستعلامات الأمريكية عام 1953 للاضطلاع بهذه المهمة”
التقنية الأخرى للتضليل هي تعبئة مصطلحات رائجة بمضامين تخدم المنتجين، هنا “استفاد التضليل الإعلامي من الظروف التاريخية الخاصة للتطور الغربي من أجل تكريس تعريف محدد للحرية، تمت صياغته في عبارات تتسم بالنزعة الفردية، وهو ما يمكن المفهوم من أداء وظيفة مزدوجة، فهو يحمي حيازة الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج من ناحية، وهو يطرح نفسه في الوقت ذاته بوصفه حارسا لرفاهية الفرد، موحيا بأن هذه الأخيرة لا يمكن بلوغها إلا في وجود الأولى.
الاستطلاع كوسيلة إقناع مخفية
تمثل استطلاعات الرأي إحدى أهم وسائل قياس الرأي العام، لكن هناك اتهام جوهري يمكن توجيهه للاستطلاعات السياسية كما تطورت في الولايات المتحدة، وهو أنها تضفي الشرعية على مرشحين معينين وقضايا بعينها، وتستبعد، وبالتالي تسحب الشرعية عن مرشحين آخرين وقضايا.
ويقدم شيللر مثالا للتوضيح فيقول:”عندما يسأل استطلاع لجالوب، (من يستطيع التعامل بصورة أفضل في رأيك، مع الحرب الفيتنامية:ريتشارد نيكسون أم هيوبرت همفري؟)، فإننا نكون قد تعرضنا للخديعة. ذلك أن الشواهد كانت تؤكد في مجموعها (خلال عام 1968، وقت إجراء هذا الاستطلاع) أن أيا من هذين الرجلين لا يستطيع، أو لا يرغب في التعامل بجدية كاملة مع الحرب الفيتنامية، ومعنى طرح هذا السؤال هو خلط الأمور وتحريف الواقع بالنسبة لقسم كبير من السكان”.
في النهاية لا تغني قراءة ملخص مضمون الكتاب عن قراءة الكتاب ذاته، ذلك لوفرة المعلومات المخزونة بين دفيته، ولعمق طرحه وأصالة أفكاره، وهو كتاب لا يستغني عنه أي إنسان يريد معرفة خلفيات كثير من الأفكار والمواقف والقرارات.