يواصل صاحب كتاب “المتلاعبون بالعقول” الباحث الأمريكي هربرت أ. شيللر عملية نزع الأقنعة، ويتحدث في فصل سماه(توجيه العقول ينتقل إلى ما وراء البحار:تصدير تقنيات الاستمالة)، يتحدث عن الدور التي تلعبه وكالات الإعلانات والعلاقات العامة في إعادة تشكيل قناعات واهتمامات المجتمعات المحلية في الدول التي تصلها أذرع الشركات الأمريكية متعددة الجنسيات.
ويفصل الكاتب في دور كل من وكالات الإعلانات والعلاقات العامة التي يسميها (تصدير تقنيات الاستمالة)، كما يبين العلاقة بين الاثنين وكيف تخدم كل واحدة منهما الأخرى في لعبة ذكية مسرحها العالم وضحاياها الشعوب الغافلة عن ما يراد لها من تخدير فكري وعاطفي.
وكالات الإعلان.. السم العسلي
أدركت الولايات المتحدة منذ أواسط القرن العشرين دور الصورة والكلمة في تشكيل الوعي، لذلك بلغ مجمل إنفاقها في مجال الإعلان عام 1971 ما يقارب 23 بليون دولار، كما سيطرت وكالات الإعلان الأمريكية على المجال في مختلف دول العالم، إذ من بين 10 وكالات إعلانية في العالم عام 1971 توجد وكالة إعلانية واحدة غير أمريكية، ومن بين 25 وكالة دولية هناك إحدى وعشرون وكالة أمريكية، وليس هناك مكان في العالم يسلم من تغلغل وكالات الإعلان الأمريكية العاملة على النطاق الدولي.
من بين 10 وكالات إعلانية في العالم عام 1971 توجد وكالة إعلانية واحدة غير أمريكية، ومن بين 25 وكالة دولية هناك إحدى وعشرون وكالة أمريكية، وليس هناك مكان في العالم يسلم من تغلغل وكالات الإعلان الأمريكية العاملة على النطاق الدولي.
وقد استغلت الشركات التي تعمل في تجارة المواد الأولية والتصنيع الثقيل قدرتها الفائقة في مجال الاتصال على إضفاء صورة مميزة عن أنشطتها المحلية، ويتم على شكل مستمر ومتنام إغراق المجتمع العالمي بسيل من الرسائل التجارية الناشئة عن متطلبات تسويق الشركات متعددة الجنسيات الأمريكية في أغلبها، ويجري تحويل شبكات الاتصال القومية وما تقدمه تلك الشبكات من برامج طبقا لمواصفات جهات التسويق العالمية.
إن الخطر الذي يكمن في هذا المعلومة يتمثل في تغييب الحاجات الاجتماعية والاستهلاكية الحقيقية للمجتمعات المستهدفة، واستبدالها بحاجات الشركات المُسَوِّقة، وذلك عبر وسيط إعلاني إشهاري معد بعناية قادرة على اختراق النسيج الثقافي لأي مجتمع، إننا هنا أمام عولمة استهلاكية تحدد للناس حاجاتها واختياراتها غير عابئة بفوارقها الاقتصادية والثقافية.
لذلك يخلص صاحب الكتاب إلى نتيجة مهمة، هي أن “مقاييس فقدان أي أمة لسيطرتها على وسائل إعلامها، (فضلا عن الخسارة الواضحة من خلال الملكية الأجنبية)، يتمثل في درجة اختراق وكالات الإعلان الأجنبية لميكانيزمات التسويق في تلك الدولة.
الغول الإشهاري أي وكالة والتر تمبسون
يضرب صاحب الكتاب مثلا لسيطرة وخطر وكالات الإعلان الأمريكية بوكالة والتر تومبسون، وهي إحدى أكبر وكالات الإعلان الأمريكية ذات النشاط الدولي، وتمتلك مكاتب في 27 دولة، وكانت فازت في 1971 بصفقة إعلانات قيمتها 774 مليون دولار، نفذت 355 مليون دولار منها (45%)خارج الولايات المتحدة الأمريكية، وهي تتغلغل في خمس قارات.
وقد سيطرت تومبسون على النشاط الإعلامي الرسمي في حكومة نيكسون، ما دفع إحدى المجلات الأمريكية التجارية لتقول ساخرة: إن البيت الأبيض فرع من وكالة تومبسون، وقد صرح مديرها مرة عام 1960 فقال: “يترتب على الأميركيين أن يتعلموا كيف يزيدون استهلاكهم بمقدار 16 مليار دولار في السنة ليلتحقوا بوتيرة الانتاج”، إن النظرية الاقتصادية المعتمدة لدى الشركات الإعلانية لا تبحث موضوع حاجات السوق، وإنما تبحث موضوع إيجاد حاجات جديدة للسوق، ولتشجيع المستهلك على الاستهلاك تعتمد الشركات سياسة لتيسير الشراء، وتساعدها المصارف في التقسيط المريح وإعلانات القروض والتخفيضات.
ومن أمثلة تغلغل هذه الوكالة في العالم إضافة إلى ما سبق؛ هو حصولها على تفويض من الحكومة البريطانية بالمساهمة في التعريف بالنظام النقدي الجديد ـ حينها ـ.
العلاقات العامة أو مضاعفة القيد
يقول الكاتب إن سياسة السيطرة عن طريق العلاقات العامة جاءت لتخفف من حدة الرفض المتصاعد ضد سياسة الإعلانات التجارية المتوحشة التي لا تعرف الشبع، فقد تذمرت الشعوب الأوروبية بعد فترة طويلة من التلاعب بعقولها، عبر وكالات الإعلان الأمريكة المتغلغلة في الجسم الأوروبي.
وقد عرفت إحدى النشرات التجارية العلاقات العامة على الصعيد الدولي بأنها:”فن استخدام الأفكار والمعلومات من خلال كل وسائل الاتصال المتاحة، من أجل خلق مناخ موات من الآراء بالنسبة لمنتجات وخدمات الشركة بل والشركة نفسها”، إنه بينما تروج الإعلانات لإنتاج الشركة فإن العلاقات العامة تروج للشركة ذاتها
تغير المناخ العام للاستثمار في أوروبا ـ يقول نائب رئيس شركة “هيل أندنلتون” أهم الشركات الأمريكية العاملة في مجال العلاقات العامة ـ ، وبدل علامة (مرحبا) حلت جملة(عد إلى بلادك أيها اليانكي)، وقد كشف استطلاع للرأي ـ حينها ـ أجرته شركة أبحاث الرأي العام عن وجود ضغوط كبيرة من أجل الحد من توسع الشركات الأمريكية في أربعة من بلدان السوق المشتركة.
في ظل هذه الظروف قررت أمريكا التركيز على العلاقات العامة لتفادي خسارة شركاتها الإعلانية، وقد عرفت إحدى النشرات التجارية العلاقات العامة على الصعيد الدولي بأنها:”فن استخدام الأفكار والمعلومات من خلال كل وسائل الاتصال المتاحة، من أجل خلق مناخ موات من الآراء بالنسبة لمنتجات وخدمات الشركة بل والشركة نفسها”، إنه بينما تروج الإعلانات لإنتاج الشركة فإن العلاقات العامة تروج للشركة ذاتها، بوصفها شيئا مفيدا ومنتجا ونافعا للمجتمع الذي توجد به.
إن العالم برمته يخضع لعملية تزييف تعتمد اللعب بعقوله لمصلحة الشركات متعددة الجنسيات التي تخلق له عبر وسائطها الإعلانية عالما لا يضع في حسبانه إلا الربح والسيطرة، وتتحول السيطرة الاقتصادية والثقافية بشكل سلس إلى سيطرة سياسية، لا حروب فيها ولا دماء، ولكن دمائها الأفكار والفوارق الثقافية ومكانة الإنسان في العالم.