لقد خلق الله تعالى الكون بميزان، وضطه بقوانين، حتى لا يختل أو يهتز؛ وإنما يَمضي في كل يوم على نظام محكم، وسُنن لا تتخلف: {لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ ۚ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} (يس:40).
ومن بديع خلق الله تعالى في كونه، أن جعل الجبال مثبِّتات للأرض، تحفظ لها توازنها، وتمنعها من الميل: {وَأَلْقَىٰ فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (النحل: 15).. قال ابن كثير: “الجِبَالُ أَرْسَتِ الأَرضَ وَثَقَّلَتْهَا لِئَلا تَضطَرِبُ بأهلِها على وجهِ المَاءِ؛ ولهذا قال: {أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} أي: لئلا تميد بكم”([1]).
وَالْمَيْدُ: الاضطراب يمينًا وشمالاً; مَادَ الشَّيْءُ يَمِيدُ مَيْدًا إذا تحرك، ومادت الأغصان تمايلت، وماد الرجل تبختر. قال وهب بن منبه: خلق الله الأرض فجعلت تَمِيدُ وَتَمُورُ، فقالت الملائكة: إن هذه غير مُقِرَّةٍ أحدًا على ظهرها. فأصبحت وقد أرسيت بالجبال، ولم تدرِ الملائكة مِمَّ خُلقت الجبال([2]).
وإذا كان هذا شأن الأرض، فيمكن لنا أن نلاحظ أن المجتمعات أيضًا لها مثل هذه الوضعية.. فالمجتمعات تميل يمنة ويسرة، وتنحرف إفراطًا وتفريطًا، وتلتزم الجادة حينًا ثم يدعوها داعي الهوى فتخرج عن الصراط المستقيم..
كل هذا وارد بحق المجتمعات؛ لأن المجتمع مكون من مجموعة أفراد، والإنسان لا ينفك عن هذه التقلبات والتموجات؛ فكان المجتمع- وهو المحصلة لأحوال الأفراد- لا ينفك هو الآخر عن ذلك.
وإذا كان هذا حال المجتمعات من التقلب والميل؛ فإنها تحتاج إلى مثبِّتات لاتزانها، ومرشِّدات لحركتها.. كحاجة الأرض إلى الجبال.
و”الجبال” في حالة المجتمعات، يمكن أن نقول إنها تتمثل في الأنبياء والرسل عليهم صلوات الله وتسليماته، ثم فيمن يقوم مقامهم من العلماء والدعاة والمصلحين.
فالأمم السابقة كانت تأتيها الرسل والأنبياء، ليقوموا فيهم مقام الجبال في الأرض؛ يَدعونهم إلى عبادة الله وطاعته، ويُحذِّرونهم من الشيطان وغوائله، ويَحضُّونهم على فعل الخيرات وترك المنكرات: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ۖ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ} (النحل: 36).
حتى إذا أدى الرسل مهمتهم على أتم وجه، واستنفدوا كل وسائل التبليغ مع أقوامهم، وتمحَّض المؤمن من الكافر؛ كان يأتي القول الفصل من الله تعالى، بإظهار الرسول ومن اتبعه، وإهلاك العاصين المكذبين: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَىٰ مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّىٰ أَتَاهُمْ نَصْرُنَا ۚ وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ۚ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ} (الأنعام: 34).
ثم تنشأ أمة أخرى، وتتكرر مشاهد الإنذار والطاعة والتكذيب من جديد.. حتى كانت أمة النبي محمد ﷺ؛ فلا نبي بعده، وإنما دعاة وعلماء ومصلحون يقومون في الناس مقام الأنبياء؛ من حيث وظيفة الدعوة والإبلاغ.
قال ابن القيم: وتأمل حكمته تبَارك وتعالى في إرسال الرسل في الأمم واحدًا بعد واحد؛ كلما مات واحد خلفه آخر، لحاجتها إلى تتَابع الرسل والأنبياء، لضعف عقولها وعدم اكتفائها بآثار شَرِيعَة الرسول السابِق؛ فلما انتهت النبوة الى محمد بن عبد الله رسول الله ونبيه، أرسله إلى أكمل الأمم عقولاً ومعارف، وأصحها أذهانًا وأغزرها علومًا، وَبَعثه بأكمل شريعة ظَهرت فِي الأرض منذ قامت الدنيا إلى حِين مبعثه؛ فأغنى الله الأمة بكمال رسولها، وكمال شريعته، وكمال عقولها وصحة أذهانها، عَن رَسُول يأتي بعده أقام له من أمته ورثة يحفظون شريعته، ووكلهم بها حتى يؤدوها إلى نظرائهم ويزرعوها فِي قلوب أشباههم، فلم يحتاجوا معه إلى رسول آخر ولا نبي([3]).
إذن تتابعت الأنبياء والرسل حتى خُتمت مسيرتهم بمحمد ﷺ، ثم استُبدلت بمسيرة الأنبياء والمرسلين مسيرة الدعاة والمصلحين؛ فالعلماء والمصلحون هم ورثة الأنبياء، وهم من يحفظون للمجتمعات توزانها واتزانها، كما كان دور الأنبياء مع أقوامهم.
ومن المؤكد أن هذا المعنى المهم لا بد أن يدفع من يشتغلون بالعلم والدعوة إلى أن يدركوا أيَّ منزلة طيبة أنزلهم الله تعالى، وأيَّ مقام رفيع أقامهم الله فيه؛ وبالتالي عليهم أن يقوموا بهذه المهمة الجليلة على أكمل وجه، ولا يدخروا جهدًا في أدائها على خير حال: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} (آل عمران: 187).
فكل من ينشر الخير في المجتمع، بالقول والكلمة الواعية، أو بالفعل وعمل الخير والصالحات.. هو يَمضي في مسيرة الأنبياء والمرسلين، ويمثل للمجتمع دورًا اتزانيًّا، كما الجبال للأرض..
بل عرفت حضارتنا الإسلامية مؤسسة كانت تقوم بهذا الدور في التثبيت ومَنْع الميل، هي مؤسسة الوقف، التي يحق لها أن توصف بأنها “صانعة الحضارة الإسلامية“؛ حيث امتد أثرها وتأثيرها إلى مختلف جوانب الحياة، علميًّا وفكريًّا واجتماعيًّا؛ وحفظت للعلماء استقلالهم، وفعَّلت للمجتمع طاقاته.
بجانب هذا، فإن التوجيهات الإسلامية التي تحض على التبليغ ولو بآية([4])، وعلى فعل الخير ولو بكلمة طيبة أو بشقّ تمرة([5]).. إنما تدفع المسلم ليكون له إسهام على قدر طاقته في حفظ المجتمع وتثبيته، وفي إعادة الاتزان والتوازن له متى خرج عن المسار الصحيح؛ بحيث لا يتسع الخرق على الراقع، ولا يكثر الخبث ويقلّ الصالحون؛ وإنما تظل حركة التدافع قائمة حتى يتنبه الغافل ويرتدع المعوج، وتقام الحجة على المُصرِّين: {فَلِذَٰلِكَ فَادْعُ ۖ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ ۖ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ ۖ وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ ۖ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ ۖ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ ۖ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ ۖ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ ۖ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا ۖ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} (الشورى: 15).
وما أجمع هذا الحديثَ الشريف الذي فتح أبواب الخير على مصراعيها، وبما يناسب المرء أيًّا كانت إمكاناته؛ بحيث لا يحرم نفسه من فعل الخير، وإصلاح المجتمع وإعادة الاتزان إليه.
فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رجلاً جاء إلى رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله، أيّ الناس أحب إلى الله؟ فقال: “أَحَبُّ الناسِ إلى اللهِ أنفعُهم للناسِ، وأَحَبُّ الأعمالِ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ سرورٌ تُدخِلُه على مسلمٍ، تَكشِفُ عنه كُربةً، أو تقضِي عنه دَيْنًا، أو تَطرُدُ عنه جوعًا، ولأَنْ أمشيَ مع أخٍ في حاجةٍ؛ أَحَبُّ إليَّ من أن اعتكِفَ في هذا المسجدِ- يعني مسجدَ المدينةِ- شهرًا، ومن كظم غيظَه ولو شاء أن يُمضِيَه أمضاه؛ ملأ اللهُ قلبَه يومَ القيامةِ رِضًا، ومن مشى مع أخيه في حاجةٍ حتى يَقضِيَها له؛ ثبَّتَ اللهُ قدمَيه يومَ تزولُ الأقدامُ”([6]).
وما أحوج مجتمعاتنا إلى من يقوم فيها مقام الأنبياء من أقوامهم، ومقام الجبال من الأرض؛ دعوةً وإصلاحًا، وبذلاً للخير، وتثبيتًا للنفوس، ونشرًا للمعروف، وتوجيهًا للفضائل، وحثًّا على الكمالات، ودفعًا للمظالم، وتحقيقًا للعدل الذي به قامت السماوات والأرض..
([1]) تفسير ابن كثير، 6/ 332.
([2]) تفسير القرطبي، 10/ 90.
([3]) مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة، ابن القيم، 1/ 255.
([4]) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً، وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلاَ حَرَجَ، وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ»، البخاري/ 3274.
([5]) عن عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ»، البخاري/ 1351. مسلم/ 1016.
([6]) صحيح الترغيب والترهيب، الألباني، 2/ 359، حديث رقم (2623).