المبادرة والتبكير والتسابق في ميادين الطاعات والمسارعة إلى الخيرات والأعمال الصالحة صفة من صفات المؤمنين المفلحين المجيبين لأمر ربهم، ﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ ]آل عمران: 133] الممتثلين لما حث نبيهم عليه الصلاة والسلام: «بادروا بالأعمال»[1] أي الأعمال الصاحة، فخير الأعمال الصالحة وأفضلها إقامة الصلاة، وهي أهم أركان الإسلام وأوجب العبادات بعد الشهادتين، والدعوة إليها قائمة على الدوام حتى الممات: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} وقوله تعالى {حَافظُوا على الصَّلَوَات وَالصَّلَاة الْوُسْطَى وَقومُوا لله قَانِتِينَ} {وأقم الصَّلَاة طرفِي النَّهَار وَزلفًا من اللَّيْل إِن الْحَسَنَات يذْهبن السَّيِّئَات}.
وفي هذه الآيات الكريمة وغيرها بيان لأهمية الصلاة وتعظيم قدرها وفضلها، وناهيك بما حوته السنة النبوية من التنويه والاهتمام بشأنها حتى قال ابن حبان: “في أربع ركعات يصليها الإنسان ست مائة سنة عن النبي ﷺ[2]
وأروع ما يعبر عن اهتمام المسلم بالصلاة هو المسارعة إليها قلبا وقالبا، ولا أحسن حالا وعملا ممن يسارع إلى إجابة نداء المؤذن ” حي على الصلاة وحي على الفلاح” بعيدا عن التأخر والتكاسل والتثاقل كحال الذين ذمهم الله تعالى بقوله: {إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا} [النساء: 142] على أن في التبكير إلى الصلوات فوائد وفضائل وأجور زائدة على أداء الصلاة نفسها كما سيأتى.
فضائل التبكير إلى الصلوات
يلمح من أبعاد فضيلة المبادرة إلى الصلوات التى دلت عليها النصوص المجملة المتضمنة لعدة محفزات مثيرة، ومنها:
أولًا: نيل مطلق فضيلة الصلاة بأول الوقت – باستثناء صلاة العشاء- كما ورد عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رجلًا سأل النبي ﷺ أي الأعمال أفضل؟ قال: “الصلاة لوقتها، وبر الوالدين، ثم الجهاد في سبيل الله، وفي رواية “الصلاة في أول وقتها”[3].، وكذا له دخول أولية في حديث “سبعة يظلهم الله تعالى في ظله يوم لا ظل إلا ظله”.. وذكر منهم “ورجل قلبه معلق في المساجد”[4]
ثانيا: نيل فضيلة استجابة أمر رسول الله ﷺ”إذا أتيتم الصلاة فعليكم بالسكينة”[5] لأنها معينة على تهيئة النفس وسكون الأعضاء وتحقيق الخشوع والطمأنينة في الصلاة.
قال أبو الدرداء: “من فقه المرء إقباله على حاجته حتى يقبل على صلاته وقلبه فارغ”[6].
قال النووي في معنى السكينة بأنها:” التأني في المشي والحركات واجتناب العبث، وحسن الهيئة، كغض البصر، وخفض الصوت، وعدم الالتفات[7].
ثالثا: نيل فضيلة كثرة الخطا إلى الصلاة على وجه الكمال، لأن من أتى الصلاة مبكرا عسى أن يلتزم بآداب السكينة والوقار دون الاسراع، وقد قال رسول الله ﷺ:” ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات؟ قالوا: بلى، يا رسول الله. قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد”[8]
وقال ابن حجر: وعدم الإسراع…يستلزم كثرة الخطا، وهو معنى مقصود لذاته، وردت فيه أحاديث كحديث جابر عن مسلم ” إن لكم بكل خطوة درجة [9]
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كنت أمشي مع زيد بن ثابت، فقارب في الخطى فقال: «أتدري لم مشيت بك هذه المشية؟» فقلت: لا، فقال: «لتكثر خطانا في المشي إلى الصلاة»[10]
وكان ابن عمر إذا مشى إلى الصلاة لو مشت معه نملة ما سبقها[11]
رابعا: نيل استغلال فرصة الدعاء بين الأذان والإقامة، لأنه من أوقات استجابة الدعاء كما قال عليه الصلاة والسلام:” الدعاء لا يرد بين الأذان والإقامة[12]
خامسا: تمكن من إتيان بأنواع التطوع، بدءا بتحية المسجد وقراءة القرآن والأذكار ونحوها من القربات، فهذه المقدمات لها تأثير بالغ في راحة البال وحضور القلب وطمأنينة النفس وطيب التعقل أثناء الصلاة، خلافا لمن دخل الصلاة مسرعا عاجلا فإنه قد يخل بالسكينة المأمورة بها في الصلاة
سادسا: اغتنام مجالسة الملائكة والأنس بهم ونيل دعوتهم المخصصة لمنتظر الصلاة في المصلى، وقد جاء في الصحيحين أن النبي ﷺ قال: ” الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه الذي صلى فيه ما لم يحدث، اللهم اغفر له اللهم ارحمه، لا يزال أحدكم في صلاة ما دامت الصلاة تحبسه، لا يمنعه أن ينقلب إلى أهله إلا الصلاة”[13] سبحان الله! تحصل هذه الفضلية العظيمة لمجرد الجلوس في المسجد بنية انتظار الصلاة، ويا لها من ساعة ولحظة سعادة عظيمة ويا لها من عطية جزيلة.
سابعا: نيل فضيلة إدراك الصف الأول الذى يتسابق إليه الأبرار والصالحون، نظرا لما جاء فيه من الحث والحرص، كقوله ﷺ: “لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا…”[14]
ثامنا: التمكن من الاصطفاف في الجانب الأيمن من الصفوف، لقول البراء بن عازب عن البراء: كنا إذا صلينا خلف رسول الله ﷺ أحببنا أن نكون عن يمينه يقبل علينا بوجهه”[15]، ويروي “أنَ اللهَ وملائكتَه يُصَلُّون على ميامنِ الصُّفوفِ”[16]، ولقول عبد الله بن عمرو: “خير المسجد المقام، ثم ميامن المسجد”[17] وقد بوب على فضل يمين الصف غير واحد من أئمة الحديث المصنفين كالبخاري، وأبي داود، وابن ماجه والنسائي وابن ماجه وابن حبان والبيهقي. ومن ذلك تبويب ابن خزيمة في صحيحه (باب استحباب قيام المأموم في ميمنة الصف)
تاسعا: سهولة نيل فضيلة إدراك تكبيرة الإحرام، وكان فيه عظيم الفضل حتى رأى بعض الصحابة كابن مسعود وابن عمر وغيرهما جواز الإسراع لمن خاف فوت تكبيرة الاحرام.
وعن مجاهد قال: سمعت رجلاً من أصحاب النبي ﷺ قال: لا أعلمه إلا ممن شهد بدرًا. قال لابنه: أدركت الصلاة معنا؟ قال: نعم ، قال: أدركت التكبيرة الأولى؟ قال: لا. قال: لما فاتك منها خير من مائة ناقة كلها سود العين[18]
عاشرا: نيل مضاعفة الأجور المرتبة لمن حضر صلاة الجمعة مبكّرا، كما في قوله ﷺ: «من غسل يوم الجمعة واغتسل، وبكر وابتكر، ومشى ولم يركب، ودنا من الإمام، فاستمع ولم يلغ، كان له بكل خطوة عمل سنة، أجر صيامها وقيامه[19] وهذا الحديث مما يُطمع الإنسان في تحصيل أضعاف أضعاف الحسنات الباقيات الصالحات التي ينتفع بها يوم لا ينفع مال ولا بنون.
قال السخاوي:” لا أعلم حديثاً كثير الثواب مع قلة العمل أصح من حديث من بكر وابتكر..”[20]
وقال المباركفوري: “قال بعض الأئمة: لم نسمع في الشريعة حديثاً صحيحاً مشتملاً على مثل هذا الثواب[21]”
نماذج من أخبار الأوائل في المسارعة إلى الصلوات
كانت تلك النصوص ونظائرها أهم المحفزات التي تجعل بين السلف الفطناء منافسة المسابقة والمبادرة إلى الصلوات متلذذين بمناجاة الله تعالى ومتنعمين بالعبادات والطاعات.
– ومن أقوالهم: قول ابن مسعود رضي الله عنه: عليكم بحد الصلاة التكبيرة الأولى.[22]
– وقول إبراهيم النخعي: إذا رأيت الرجل يتهاون بالتكبيرة الأولى فاغسل يديك منه[23]
– وقولخيثمة:” بكر الصلاة التكبيرة الأولى”.[24]
– وقول سفيان بن عيينة: إن من توقير الصلاة أن تأتي قبل الإقامة[25]
– وقال أيضا:”: لا تكن مثل عبد السوء لا يأتي حتى يدعى ائت الصلاة قبل النداء”[26]
– ومن أفعالهم: ما جاء عن عدي بن حاتم أنه قال:” ما جاء وقت الصلاة إلا وأنا إليها بالأشواق، وما دخل وقت صلاة قط إلا وأنا لها مستعد”[27] ويقول سعيد بن المسيب:” ما فاتتني التكبيرة الأولى منذ خمسين سنة وما نظرت في قفا رجل في الصلاة منذ خمسين سنة[28]
وكذا كان الأعمش باقيا قريبًا من سبعين سنة لم تفته التكبيرة الأولى[29]
وقال ابن سماعة :” مكثت أربعين سنة لم تفتني التكبيرة الأولى إلا يوم ماتت أمي”[30]
وعن ربيعة بن يزيد قال :” ما أذن المؤذن لصلاة الظهر منذ أربعين سنة إلا وأنا في المسجد إلا أن أكون مريضًا أو مسافرًا”[31]
وعن يحيى بن سعيد أنه لم يفته الزوال في المسجد أربعين سنة[32] وهكذا تفانى سلف الأمة في السباق إلى نيل ونهل من عطاء الله تعالى في جميع أبواب الطاعات والقربات فحازوا الأجور والفضائل وفازوا، وينبغي تعويد النفس على هديهم وتوعية الناس بالحث على حذوهم وبأهمية الصلاة والمداومة عليها وبفوائد التبكير إليها.