المسجد النبوي ليس مجرد مكان للصلاة فقط، بل هو عمارة المكان وبناء الإنسان وروح التعاون في الإسلام. كان المسجد النبوي مدرسة حضارية لتربية الصحابة وتعزيز الوحدة بين المسلمين، وفضاءً لنشر الرحمة والحكمة التي بدّلت حال العرب من الجاهلية إلى مجتمع متماسك ومزدهر.

شهدت الدنيا نماذج فريدة لبشر كان بعضهم يقتل بعضا ويلعن بعضهم بعضا لكنهم بعد تربية وتزكية صاروا بفضل الله إخوانا متحابين ينشرون الرحمة والحكمة بين خلق الله، وصف أحدهم حالة العرب قبل الإسلام فقال:”كُنَّا قَوْمًا أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ، نَعْبُدُ الْأَصْنَامَ، وَنَأْكُلُ الْمَيْتَةَ، وَنَأْتِي الْفَوَاحِشَ، وَنَقْطَعُ الْأَرْحَامَ، وَنُسِيءُ الْجِوَارَ، وَيَأْكُلُ الْقَوِيُّ مِنَّا الضَّعِيفَ”[1]. تغيرت هذه الأحوال في سنين معدودة، حتى قال ربعي بن عامر لرستم ردا على سؤاله :”مَا جَاءَ بِكُمْ؟ قَالَ: اللَّهُ ابْتَعَثَنَا، وَاللَّهُ جَاءَ بِنَا لِنُخْرِجَ مَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادَةِ الْعِبَادِ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ، وَمِنْ ضِيقِ الدُّنْيَا إِلَى سِعَتِهَا، وَمِنْ جَوْرِ الأَدْيَانِ إِلَى عَدْلِ الإِسْلامِ”[2] ما سر هذا التحول الكبير ،من تقاتل وتناحر داخلي إلى أناس يرون أن عليهم واجبات نحو العالم بأسره؟؟  في أي مدرسة تربوا؟ ليغيروا وجه العالم ولينشؤا حضارة جديدة تقوم على الحق والخير والجمال،

لقد تربوا في مدرسة المسجد النبوي والذي كان أول عمل  قام به رسول الله حين هاجر من مكة إلى المدينة.

بناء المسجد النبوي ودروس في التعاون والاجتهاد

تجسدت روح الإسلام الذي دبت في قلوب الصحابة خلال عملية بناء المسجد النبوي ؛فكان نموذجا للتعاون على البر والتقوى وتحويل الخراب إلى عمران ،حوّل النبي ومن معه من المسلمين مساحة من الأرض “كَانَ فِيهِ قُبُورُ الْمُشْرِكِينَ، وَكَانَ فِيهِ خِرَبٌ، وَكَانَ فِيهِ نخل فأمر رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم بِقُبُورِ الْمُشْرِكِينَ فَنُبِشَتْ وبالخرب فسوّيت، بالنخل فَقُطِعَ”[3] وهكذا الإسلام ما دخل قلبا ولا بيتا ولا بلدا إلا حول الخراب إلى عمران والظلمات إلى نور والفرقة إلى جماعة.

رأى الصحابة رضوان الله عليهم رسول الله وهو يعمل بجد واجتهاد فقالوا:

لَئِنْ ‌قَعَدْنَا ‌وَالنَّبِيُّ يَعْمَلُ … لَذَاكَ مِنَّا الْعَمَلُ الْمُضَلِّلُ[4]

وسرى الجد في أرواحهم وأبدانهم ، وما لهم  لا يفعلون والنبي وهو موضع القدوة منهم يبذل أقصى ما في وسعه، وكانوا ككل البشر على درجات ؛فالجميع يحمل لبنة لبنة وعمار يحمل لبنتين لبنتين ، ولما سأله النبي قائلا  : ” يَا عَمَّارُ، أَلَا تَحْمِلُ لَبِنَةً كَمَا يَحْمِلُ أَصْحَابُكَ ” قَالَ: إِنِّي أُرِيدُ الْأَجْرَ مِنَ اللهِ.»[5] بشره النبي بأجر مضاعف، فَقَالَ لَهُ:” لِلنّاسِ أَجْرٌ وَلَك أَجْرَانِ”[6] وهكذا لابد من إعطاء كل ذي حقه حقه وذلك ببيان مكانته وتبشيره بالخير .

يعمل النبي معهم و يلاحظ من يعملون  ويكتشف أصحاب المواهب منهم ويقدرهم وينزلهم المنزلة اللائقة بهم حين يكلفهم بالعمل الذي يبرعون فيه، عن طلق بن علي رضي الله عنه قال: أتيت رسول الله- وهو يبني المسجد، والمسلمون يعملون فيه معه، وكنت صاحب علاج وخلط طين، فأخذت المسحاة أخلط الطين والنبي- ينظر إليّ ويقول: «إن هذا الحنفيّ لصاحب طين» . وكان يقول: «‌قرّبوا ‌اليماميّ من الطين فإنه أحسنكم له مسكا وأشدّكم منكبا»[7] جمع قيس بن علي بين المهارة والقوة البدنية فقدمه النبي على غيره، وعندما يوضع الشخص المناسب في المكان المناسب ينتفع المجتمع وتنضبط أحواله ، نحن في حاجة مستمرة لاكتشاف المواهب وتقديرها بتكليفها بما تصلح له من عمل، هذا التقدير يدفعها لبذل المزيد من الجهد مما يؤدي لاكتساب مهارات جديدة وبالتالي فوائد جديدة للفرد والمجتمع.

انتهى هذا العمل الذي جمع بين بناء الإنسان وتعمير الأوطان واحتوى على دروس في التعاون والجد واكتشاف المواهب، ليسفر عن بناء متواضع  قياسا بما بناه أصحاب الحضارات وصفه الواصفون بقولهم:”كان المَسْجِد على عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ مَبْنِيًّا بِاللَّبِنِ، ‌وَسَقْفُهُ ‌الجَرِيدُ، وَعُمُدُهُ خَشَبُ النَّخْل”[8]

بناء يجمع بين البساطة والنظافة والذوق الرفيع ، لكن هذا البناء البسيط في معماره كان سببا لعمران الأرض وبناء حضارة عظيمة امتدت شرقا وغربا كان عمادها ومقصدها الإنسان والتعمير لروحه وللبيئة من حوله.

الأدوار التي قام بها المسجد النبوي

كان المسجد النبوي مكانا للتطهر من الكراهية ونزغات الشياطين، ومدرسة لتعلم الحب وتحقيق الألفة والتعاون مع وجود الاختلافات الإنسانية ،وموضعا تحدد فيه الأهداف الاستراتيجية العليا الخاصة بالفرد والمجتمع  ، وموطنا تبحث فيه الروح عن السكينة حين تهجم المخاوف ،ومحطة يتزود فيها المسلم بالطاقة التي تعينه على مقاومة الكسل وشياطين الإنس والجن والنفس الأمارة بالسوء، وجامعة يتبادل المسلمون فيها العلوم والمعارف علوم الدين والدنيا والآخرة وفي ساحاته كانت النواة الأولى للتعليم النظامي الذي قامت على أساسه حضارة الرحمة والحكمة وعمارة الأرض والإنسان وارتبطت فيها الأرض بالسماء والدنيا بالآخرة ومصالح الفرد وحاجته بوجهة المجتمع وتطلعاته.

المسجد النبوي: مركز للتربية الروحية والاجتماعية

أدرك المسلمون منذ زمن الصحابة رضوان الله عليهم مكانة المسجد وما يمكن أن يعود عليهم من منافع؛ فالذاهب إلى المسجد هو ضيف الكريم سبحانه “وَحقّ على ‌المزور ‌أَن ‌يكرم الزائر”[9] يمن الحق سبحانه على من يأتي للمسجد  بسائر أنواع الإكرام والإنعام ،وتنزل عليه الأرزاق المادية والروحية ،والذي يدرك هذا المعنى يشعر بالفرق الواضح بين حالته قبل دخول المسجد وحالته بعد الخروج منه.

وفي كل ذهاب وإياب إلى المسجد هناك ما يُعد لضيف الرحمن في الجنة، قال :«‌مَنْ ‌غَدَا ‌إِلَى ‌الْمَسْجِدِ وَرَاحَ، أَعَدَّ اللَّهُ لَهُ نُزُلَهُ مِنَ الْجَنَّةِ كُلَّمَا غَدَا أَوْ رَاحَ”[10]. بل خطواته محسوبة لصالحة محوا وإضافة “كَانَتْ خَطْوَتَاهُ: إِحْدَاهُمَا ‌تَحُطُّ ‌خَطِيئَةً، وَالْأُخْرَى تَرْفَعُ دَرَجَةً”[11]. فإذا جلس في المسجد فتح الله تعالى له أبوابا من الخير جاءت في قوله :«وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ، وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، ‌وَحَفَّتْهُمُ ‌الْمَلَائِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ»[12]

المسجد مكان للسكون والسكينة والطاقة الروحية

تتعلق قلوب المسلمين وأرواحهم بالمساجد ؛ لما يجدون فيها من سكينة وما ينزل الله تعالى فيها من خير على عباده المصلين ، لذلك تجدهم بعد أن تنتهي الصلوات لا يبادرون بالخروج شأن من يشعر بالضيق من طول مدة جلوسه في المسجد بل يبقى ما أمكنه البقاء، قال : (الْمَلائِكَةُ تُصَلِّي عَلَى أَحَدِكُمْ مَا دَامَ فِي مُصَلاهُ الَّذِي صَلَّى فِيهِ، مَا لَمْ يُحْدِثْ، تَقُولُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ)[13] .هذه المنحة الإلهية والتي تتمثل في دعاء الملائكة واستغفارها تجعل المسلم يخرج من المسجد وهو متشوق للعودة إليه ، ومع هذا التعلق تجد من ذاقوا حلاوة المساجد  يسعون في الأرض تجارة وزراعة وصناعة وكل ما من شأنه أن يعمر الأرض وعندما يتحرك أحدهم يبتغي من فضل الله لا ينسى وهو يعقد الصفقات ويقدم الخدمات ويقيم الشراكات، ويتزوج ويطلق ويحب ويكره وغير ذلك من أمور الناس ، أنه من المصلين وأن عبوديته لله تعالى داخل المسجد خشوعا وإنابة إلى الله عز وجل وخارج المسجد طاعة لله تعالى فيما أمر وابتعادا عما نهى عنه وامتثالا لقيم الإسلام وأخلاقه، وقد بلغوا منزلة عظيمة عند الله تعالى بهذا التعلق، إذ جعل النبي من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله،؛ورجل قلبه معلق في المساجد.

دور المسجد في تعزيز الوحدة والصفوف المتساوية

هناك توجيهات عديدة للمصلين ترسخ دور المسجد في حياة المسلم  منها:

  1. قوله تعالى ﴿يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ﴾ [الأعراف: 31]   فعلى المسلم أن يتزين قدر طاقته في لباسه وعطره وبدنه وعليه أن يزين قلبه بزينة الطهارة من الأحقاد وكل ما يفسد القلب من نفاق اجتماعي وديني وكبر وحسد وبغي.
  2. تحقيق ما يعمق الوحدة بين المصلين: حرص الإسلام على تحقيق الوحدة بين المصلين ، ومن  توجيهاته في هذا السبيل قوله   «سَوُّوا صُفُوفَكُمْ، فَإِنَّ ‌تَسْوِيَةَ ‌الصُّفُوفِ  ‌مِنْ تَمَامِ الصَّلَاةِ “[14

وقال – -: «إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ ‌لِيُؤْتَمَّ ‌بِهِ، فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا، وَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا، وَإِذَا سَجَدَ فَاسْجُدُوا»[15] صفوف متساوية ليس فيها من يتقدم أو يتأخر ، وكل اختلال في الصفوف يؤدي إلى اختلاف في القلوب، والقلوب المختلفة لا تستطيع أن تتعاون على خير ولا معروف ، تسوية الصفوف تحقق الوحدة ومتابعة الإمام تحقق الوحدة ، التقدم أو التأخر عن الصف والركوع و السجود قبل الإمام يكشف عن شخصية لا تريد أن تسير مع الجماعة ولذلك كانت عقوبتها شديدة.

والذي يخالف هذا الإِمام وهذا النظام متوعد بالمسخ على لسان رسول الله  ، (أَمَا يَخْشَى أَحَدُكُمْ، أَوْ ألَا يَخْشَى أَحَدُكُمْ، إِذَا ‌رَفَعَ ‌رَأْسَهُ ‌قَبْلَ ‌الْإِمَامِ، أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ رَأْسَهُ رَأْسَ حِمَارٍ، أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ صُورَتَهُ صُورَةَ حِمَارٍ)[16] إذا كانت الوحدة هي النجاة في نظر من عرفوا الدنيا ، فالوحدة التي تقوم على المصالح المشتركة سرعان ما تتغير  بل سرعان ما تتعارض في ظل عالم يموج بالحركة وتغير موازين القوى ،بينما الوحدة التي تقوم على الصف الواحد في الصلاة هي التي تستمر لأنها وحدة قامت على أمر الله واستمدت قوتها من طاعته سبحانه.