يطرح الكاتب المغربي فيصل أمين البقالي في كتابه (من أجل رؤية فكرية جديدة: تساؤلات في المشروع الإسلامي) أسئلة عميقة وجوهرية حول مشروع الحركة الإسلامية راهنه ومستقبله، بنيته وآليات عمله وعلاقته بالمشاريع الوطنية الأخرى، ومدى قدرته -في صورته الحالية- على إجابة أسئلة الحركة والمجتمع وعلى تحقيق “الشهود الحضاري” للأمة.
ورغم أن الكتاب عبارة عن تعليقات وهوامش على مسار المراجعة الفكرية الذي أطلقته حركة التوحيد والإصلاح المغربية تحت شعار: (مبادرة السؤال) في يونيو 2007؛ رغم ذلك فإن أغلب القضايا التي ناقشها لها صفة العمومية للحركات الإسلامية في مختلف دول العالم.
وقد نبه الكاتب في البدء إلى أن هذه المراجعات وإعادة النظر في الرؤية والمسار لم يكن أمرا جديدا على حركة التوحيد والإصلاح التي -في نظره- ظلت تحركها نزعتان شكلتا مفتاح شخصيتها الحركية هما: نظر التقصير وطلب التجديد.
كما نبه إلى أن ما يميز مبادرة السؤال هو أنها -كما يتضح من العنوان- لا تستعجل الأجوبة والحلول بقدر ما تسعى إلى خلخلة البنى الذهنية المستقرة أفكارا ورؤى للمشروع وعادات وأعرافا حركية من خلال ما سماه “تجويد السؤال وتعميق الاستشكال”، ذلك بأن السؤال كما يقول طه عبد الرحمن “منطو على معنيين أساسيين هما: “الطلب” و”التداعي”، فالأول شرط لحصول المعرفة: فلا معرفة بلا سؤال. والثاني خاصية من خصائص السؤال لا تكاد توجد في غيره من أساليب الكلام، فما يزال السؤال متشعبا بصاحبه مستدعيا بعد كل سؤال سؤالا”.
بنى الكاتب تساؤلاته -كما أسلفت- على منهج ثنائي ينظر في داخل المشروع ليناقش القضايا المتعلقة ببنيته وكيانه وينظر لعلاقة المشروع بالمجتمع والأمة والعالم، سمى الأولى: “تساؤلات أمام المشروع الإسلامي”، بينماأطلق على الثانية “تساؤلات في المشروع الإسلامي”.
وفي حديثه عن “تساؤلات أمام المشروع الإسلامي” طرح عدة أسئلة، كان أولها “أسئلة الأمة والإنسانية” الذي أكد فيه مسؤولية الأمة عن انتظارات زمانها، وناقش فيه مدى قدرة المشروع الإسلامي الراهن على الإجابة على انتظارات الإنسانية التي يرى أنها تحتاج اليوم إلى أمرين أساسيين، هما: التعايش والمعنى، فإلغاء العولمة ووسائل الاتصال للحواجز المكانية والزمانية بين المجتمعات حول العالم إلى غرفة صغيرة جدا ومشتركة، مما يفرض تقديم المشروع الإسلامي لرؤية تعايش عالمية راشدة، تجيب على ثلاثة انتظارات إنسانية كبرى هي: الانتظارات الثقافية والانتظارات الاقتصادية والانتظارات السياسية.
أما الحاجة إلى المعنى فتتمثل في تقديم نموذج مفارق للنموذج المادي الذي كفر بالله حين أعلن موت الإله ثم أتبعه بإعلان موت الإنسان نفسه، أي إلغاء دوره في الاستخلاف، فأصبح الوجود بلا غاية ولا هدف، والانتظارات التي تتحدى الإجابة عنها المشروع الإسلامي اليوم على مستوى المعنى هي: انتظارات بالنسبة إلى سؤال الوجود، وانتظارات بالنسبة إلى سؤال الإنسان، وانتظارات بالنسبة إلى سؤال الغاية، أي السعي إلى إعادة توازن العلاقة بين الله والكون والإنسان، علاقة تقوم على “معنى عقدي يشهد لله بالتوحيد ولنبيه بالرسالة وللإنسان بالاستخلاف وللكون بالتسخير”.
ثم “أسئلة المجتمع” الملحة على الحركات الإسلامية، والتي تتمثل في ضرورة توريث مشروعها للمجتمع، وهو ما يفرض مساءلة بعض المفاهيم الحاكمة للحركات الإسلامية ومنها مفهوم “المفاصلة الشعورية” إذ كيف تورث مشروعا لمجتمع تفارقه نفسيا وعمليا!
لكن ألا يطرح الاندماج في المجتمع إشكالا آخر هو الذوبان فيه، وبالتالي الانصباغ بأمراضه وسلبياته، مما يعيق عملية التغيير والإصلاح، أم أن هناك طريقا وسطا بين هذا وذلك، وإذا كان الهدف الاستراتيجي للحركات الإسلامية هو بناء المجتمع المسلم، فهل يمكن أن تبني مجتمعا دون أن تغوص في وحل يومياته الأخلاقية والاجتماعية والفكرية؟ هذه أسئلة تركها الكاتب مفتوحة، ولكنه قدم تحليلا عميقا لدوافعها وخلفياتها سواء على مستوى الحركة أو على مستوى المجتمع نفسه، مبينا التركيبة الاجتماعية والنفسية المعقدة التي أصبح فيها مجتمع ما بعد الاستعمار، الذي تحول إلى خلق جديد “لا هو بقديمه البسيط ولكن المتناغم، ولا هو بجديده متخلص من ترسبات ماضيه”.
أما نقاشه لـ”تساؤلات في المشروع” فقد وضع أسئلة هامة حول مناهج التفكير لدى الحركات الإسلامية مبينا أنها عانت من يبوسة فكرية وحذر غير مبرر من التجديد، كما لم تستفد غالبا في قراءتها للتراث من القراءات الجادة التي طرحت في الساحة الفكرية، التي كتب بعضها منتمون إلى هذه الحركات، ومما أسهم -حسب الكاتب- في تكبيل وإعاقة المنهاج الفكري لدى الحركات الإسلامية هو الخلل القائم في العدة المفاهيمية التي يتكئ عليها ذلك الفكر.
إن هناك -حسب الكاتب- مفاهيم تحتاج تدقيقا وتمحيصا، وهي تبدو -في ظاهر الأمر- كما لو كانت مسلمة لا غبش فيها ولا لبس، من تلك المفاهيم (الدولة المدنية، الإنسانية، الأمة، الخلافة، الحضارة، الهزيمة، القيم، المواطنة)، ولكن هناك مفهومان آخران ركز عليهما الكاتب هما: مفهوم البديل ومفهوم الانتماء.
وبما أن الكاتب -كما تقدم- يعتمد حركة التوحيد والإصلاح المغربية نموذجا في كتابه فإنه قسم مراحلها التي مرت بها إلى ثلاث هي: مرحلة المنهج الانقلابي، ومرحلة المنهج الاستبدالي، ومرحلة المنهج الرسالي، وهي مراحل يرى أنها ترجع إلى معلم واحد ثلاثي الأبعاد (العضوية، التنظيم، القيادة)، وأنه بالرجوع إلى هذه الأبعاد يمكن فهم كثير من السلوكيات والظواهر التي طبعت كل مرحلة، هذا على المستوى الداخلي للحركة.
وإذا كان الكاتب عنى حركة التوحيد والإصلاح المغربية فإن أغلب الحركات الإسلامية مرت بنفس المراحل أو ما تزال تمر بها على الأقل، وفي مقابل هذا الفضاء الموصوف سابقا بأبعاده الثلاثة، هناك فضاء آخر مقابل، وهو المجال الخارجي بالنسبة لهذه التجارب، إنه محل دعوتها ومجال تحركها، وهو الآخر فضاء تؤثثه أبعاد/مفاهيم ثلاثة: بعد/مفهوم المواطنة، وبعد/مفهوم المجتمع، وبعد/مفهوم الدولة.
أما مفهوم البديل فقد ارتبط أيضا بطبيعة فكر وتوجه الحركات الإسلامية، فبينما يبدأ حادا في المرحلة الانقلابية، يكون أخف وطأة في المرحلة الاستبدالية، ويحل محله مفهوم الإصلاح في المرحلة الرسالية، حيث يغيب، إذ لم يعد المجتمع ذلك الرجس الذي ينبغي خلق واقع مواز له، وإنما أصبح مجتمعا فيه خيرية غالبة وبعض الشرور التي يمكن إصلاحها بالتدرج والمغالبة اللينة.
تلك أهم الأفكار التي تناولها الكتاب، وهو على صغر حجمه يتضمن أفكارا وأسئلة عميقة ودقيقة، ويمثل عصارة النقاشات والحوارات والمحاضرات التي قدمها مفكرو الحركات الإسلامية، وخاصة مفكرو حركة التوحيد والإصلاح المغربية ضمن فعاليات مبادرة (السؤال).