لم تكن تكمية الظواهر طبيعية أو اجتماعية منهجا مألوفا لدى المفكرين والفلاسفة القدامى في كل الحضارات التاريخية، وإذا استثنينا إشارات عابرة في مراحل تاريخية معينة في هذا الجانب بخاصة مع بعض الفلاسفة اليونان، فقد استقر لدى جمهرة الباحثين أن الفيزياء تليها الكيمياء كانا الميدانين الأكثر مبادرة في اتجاه المنهج الكمي، لكني أكثر ميلا إلى اعتبار أن الفلسفة الصينية في جانبها الطبي (بخاصة النظر في التأثير المتبادل بين الثنائي  Yin-Yang and Wu-Xing، بهدف الكشف عن آليات التناغم بين الطبيعة والكون والإنسان) كانت تقوم على تكامل معرفي ومنهجي يُطل في بعض سماته على قدر من التكمية سبق بعضها اليونان وبعضها زامنه.

العلوم الصلبة والأساليب الكمية

إن استخدام الأساليب الكمية بدأ رحلته من منزل ما يسمى “العلوم الصلبة”(Hard Sciences) لكن الدرس المهم الذي يمكننا أن نتعلمه من هذا الفحص للعلوم الصلبة هو أنها لم تولد علوماً صلبة، فقد  كانت نظرية سقراط في علاقة الحركة وما أسماه (الزخم Impetus قوة الدفع)، نظريات “كيفية” فقط، وبقيت الفيزياء أكثر من 1500 عام حتى تتحول إلى علم كمي كامل مع ديكارت في دراسة البصريات، وبتأثير أكبر لجاليليو في دراسة الحركة منذ أكثر من أربعة قرون، مما مهد لظهور نظرية النسبية لأينشتاين ونظرية بلانك الكمومية لإشعاع الصندوق الأسود.

ويشير أحد الباحثين إلى أن مجلد 1905 من مجلة  Physical Review،لم يكن فيه بحث واحد ليس كميا، وهو  ما حدث في الكيمياء أيضا بعد أعمال لافوازييه ودالتون في القرن الثامن عشر.

بعد ذلك تسلل المنهج الكمي إلى العلوم الاجتماعية، وكان الاحصاء هو المتسلل الأول وبخاصة لميدان علم النفس وتلاه النماذج الرياضية (كما اتضحت مع ريتشازسون وكلينغبيرغ وقبلهما كوندراتيف… الخ)، ويشير رصد نشره باحث في  جامعة أوتاوا إلى أن عمر أكثر من نصف التقنيات الاحصائية المستخدمة في علم النفس لا يتجاوز 40 عاما، وأن الدراسات الأمبريقية تزايدت أسيا (Exponential) منذ منتصف الثمانينات، ثم بدأ عبور المناهج الكمية الى مختلف التخصصات في العلوم الناعمة” Soft Sciences”، فالعلوم الصلبة موضوعها المادة بأشكالها المختلفة، والعلوم الناعمة مادتها “السلوك”، وبينهما علوم حائرة كالجغرافيا والاقتصاد…الخ.

التحليل الكمي والتطور التكنولوجي

ذلك يشير إلى مسألة محددة وهي أن هناك اتساق واضح بين تطور استخدام المناهج الكمية وبين التطور التقني، فكلما انغمس العقل البشري في تطوير أدواته وتوسيع نطاق توظيفها وتحويلها كلما انحاز عقله لفهم الظواهر “تقنيا”، ومع تنامي نزعة التكامل المعرفي (Interdisciplinary Approach) تكرس المنهج الكمي.

أما في علم السياسة، وأظنه أكثر العلوم بلادة، وهو ما أثبته باكمنيستر فوللر في محاكاته الكميةWorld Game، والتي دلت على أن علماء السياسة هم الأقل قدرة بين كل التخصصات الاجتماعية والانسانية على التنبؤ الصحيح بظواهر ميدانهم فقد تزايد المنهج الكمي ولو ببلادة واضحة (4.5% من بحوث العلوم السياسية تستخدم مناهج كمية استنادا لتحليل 67 ألف مقال علمي في مائة مجلة علمية من ذات التأثير العالي (Impact factor) خلال الفترة من 2000 إلى 2019)، لكن ثورة هذا الميدان تنامت مع ظهور مناهج القياس في العلوم السياسية في السنوات القليلة الأخيرة، والتي هي انعكاس للتطور التكنولوجي، وهو ما يجعل دعوات أوغست كونت إلى مقاربة الظواهر الاجتماعية بذات المنهج الذي تتم فيه مقاربة الظواهر الطبيعية تتكرس تدريجيا.

المنهج الكمي .. ثورة صامتة
المنهج الكمي والبحث العلمي

ويبدو أن ميدان العلاقات الدولية متقدم على العلوم السياسية في توظيف المناهج الكمية، لكن المؤشرات الكمية في هذا المجال تؤكد تسارع نسبة توظيف هذه المناهج بعد اتساع دور الانترنت والكومبيوتر ووفرة برامج التحليل الإحصائي، وتقف الدراسات المستقبلية السياسية في طليعة فروع هذا الميدان في نسبة توظيف المناهج الكمية، يليها الاقتصاد السياسي ثم دراسات الخطاب السياسي (تحليل المضمون وغيره) إضافة إلى دراسات الأنظمة والحروب والاستقرار …الخ  ولو بنسب متباينة، وتقف الفلسفة السياسية في ذيل هذه القائمة رغم خضوعها لبعض تقنيات تحليل المضمون وغيره.

دقة البيانات الكمية

النقطة الأخيرة هي دقة البيانات الكمية التي يعتمد الباحثون السياسيون عليها، فكثيرا ما يتم اتهام مصادر هذه البيانات بأنها منحازة أو مغرضة، لكن خبرتي في هذا الميدان والدراسة التي انجزتها حول المقارنة بين البيانات من مصادر مختلفة أظهرت لي أن نسبة التقارب لم تقل عن 88% (وكنت حريصا على أن أختار مصادر بيانات من الدولة أو الدول موضوع البحث ومن مصادر دول غربية أمريكية أو ألمانية او..الخ .. ومن مصادر صينية أو روسية أو منظمات دولية أو اقليمية، ولم أجد فروقا ذات دلالة.

لكن بعض الباحثين لا يتنبه للتباين في منهج القياس (على سبيل المثال هناك فرق كبير بين قياس إجمالي الناتج المحلي على أساس إسمي(Nominal)  والقياس على أساس (Purchasing power parity)، فإذا لم تنتبه لمنهجية القياس ستقع في الخطأ، أو قد تجد تباينا في عدد المؤشرات الكبرى أو عدد المؤشرات الفرعية كما هو الحال في نماذج قياس العولمة أو قياس الديمقراطية أو قياس الاستقرار السياسي أو قياس مؤشر غيني(Gini)  لتوزيع الثروة في المجتمع أو الفساد السياسي أو نماذج التصويت في المنظمات الدولية أو الاقليمية أو قياس المسافة السياسية …الخ.

ويكفي الإشارة إلى أن معدل تزايد المناهج الكمية في الدراسات الصينية المعاصرة، وبقياس 1800مجلة تنتمي لسبعة فروع علمية اجتماعية، ارتفع نصيب المناهج الكمية خلال الفترة من 1978 (بداية التحديثات الأربعة) إلى 2018 بما يعادل 21 ضعفا، فإذا ربطنا هذا المعدل العالي جدا مع تطور المكانة الدولية للصين سنجد أن هناك معامل ارتباط بين الظاهرتين كبير، مما يعزز مساهمة المنهج الكمي (بالطبع مع متغيرات أخرى) في التطور.

المنهج الكمي و”حاطب الليل”

إن تزايد الدقة في نتائج الدراسات المستقبلية لا ينفصل عن تزايد توظيف المنهج الكمي الذي لا ينفصل بدوره عن التطور التكنولوجي، وإلا كيف نفسر أن نسبة الدقة في تنبؤات نموذج ليكتمان خلال 40 سنة كانت 100%، أو أن نسبة الدقة في التنبؤات الخاصة بجوهان غالتنغ كانت 8 من عشرة، وأن نسبة الصحة في تنبؤات ألفين توفلر تراوحت بين 7-8 من عشرة (هناك خلاف حول مدى دقة بعض تنبؤاته بين الباحثين)..وغير هؤلاء كثير.

مرة أخرى، أعود إلى أوجست كونت في دعوته للاستفادة -لا للاحتكار- من المنهج الكمي في علم السياسة بشكل خاص، على أن لا تكون الاستفادة “كحاطب ليل”.