الأحداث الكبرى في تاريخ الإنسان وتاريخ الأديان تحتاج إلى تمهيد، وقد كان لحادث الهجرة تأثير كبير ليس في واقع الإسلام والمسلمين فحسب بل في واقع الجزيرة العربية والعالم اجمع وحركة التاريخ من بعد. كان لهذه الآثار العميقة في الواقع المحلي والعالمي مقدمات عدة، منها هجرة مصعب بن عمير رضي الله عنه – وهو المهاجر الأول- مع آخرين إلى المدينة لكي يهيء هذه التربة المباركة لاستقبال بذور الخير، فمن هو مصعب الخير كما كان يعرف؟ وكيف انتقل من فتى مدلل إلى داعية مؤثر في الناس يقودهم إلى الحق بالحكمة والموعظة الحسنة؟

نشأ مصعب بن عمير منعما مترفا حتى وصف بأنه:”أنعم فتى في مكة” جمع بين الجمال والمال وولع والديه به كانت أمه ثرية تحبه حبا جما وتغدق عليه المال حتى قيل: “انظروا إلى هذا الذي نور الله قلبه لقد رأيته بين أبوين يغذوانه بأطيب الطعام والشراب ولقد رأيت عليه حلة شريت بمائتي درهم”.

ألقى الله تعالى نور الإسلام في قلبه فآمن بالله وكتم إيمانه حتى علمت أمه فتبدل قلبها عليه وحرمته من المال الذي كانت تنفقه بل حبسته في بيتها لكن ذلك لم يزده إلا ثباتا على دينه.

أراد الله تعالى به الخير فكان المهاجر الأول الذي يصل إلى المدينة مع آخرين بتكليف رسول الله لكي يُقرئ المسلمين الجدد القرآن ويعلمهم الإسلام.

إن الترف مفسد للعقول والنفوس ولكن أصحاب الفطرة السليمة الذين يستجيبون لنداء الحق بل ويتحملون تكاليفه الصعبة موجودون في كل زمان ومكان، فها هو مصعب بن عمير رضي الله عنه كان يعلم أن استجابته لنداء الحق تعني أن يترك مكانه في قلب والدته، وتعني التخلي عن كل ما هو فيه من نعيم.

وإذا نظرنا إلى تأثير مصعب بن عمير رضي الله عنه على المدينة وأهلها نجد هذه المقولة المعبرة: “حتى فشا ذكر الإسلام في المدينة” وتجد عبارة أخرى: “لم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكر للإسلام”، كيف استطاع مصعب بن عمير رضي الله عنه أن يغزو هذه القلوب بالقرآن بلا سيف ولا سلطان ولا مال ولا أي وسيلة للإجبار أو الإغراء، كل ما كان يفعله هو مخاطبة الفطرة بكلام فاطر الفطرة سبحانه وتعالى؟

هناك أسباب يمكن استقراؤها من خلال سيرته:

1- نجد الإخلاص الذي دعاه إلى ترك زخرف الدنيا ابتغاء ما عند الله، هذا الإخلاص انتقل منه إلى نفوس من يقابلهم ففتح الله تعالى به القلوب، وكذلك أهل الإخلاص يستطيعون التأثير فيمن حولهم بأقوالهم وأعمالهم وأحوالهم. وقد كان أسعد بن زرارة مدركا لهذه الحقيقة حين قدم على مجلسه أسيد بن حضير، قال أسعد لمصعب: “هذا سيد قومه قد جاءك فاصدق الله فيه”، وقد صدق مصعب وبر فكانت النتيجة المباشرة التي بدت على وجه أسيد «والله لعرفنا في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم به في إشراقه وتسهله»، دخل الإسلام في قلبه فظهر على وجه قبل أن ينطق لسانه بل لاحظ أصحاب أسيد هذا التغير الكبير، فقال سعد بن معاذ: “أحلف بالله لقد جاءكم أسيد بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم.

ماذا صنع مصعب بن عمير رضي الله عنه لكي يحدث هذا التحول الكبير، وخلال لحظات معدودات كلمه بالإسلام وقرأ عليه القرآن، وللقرآن تأثيره على القلوب وقدرته على النفاذ إلى أعماق النفس الإنسانية، ذلك لأنه كلام فاطر الفطرة سبحانه وتعالى، وكل محاولة لعرض الإسلام وإحقاق الحق بعيدا عن هدي القرآن تبوأ بالفشل.

ومن شدة تعلق قلب أسيد بالإسلام لم يكتف بأن دخل فيه بل تحول إلى داعية لهذا الدين مباشرة فقال: “إن ورائي رجلاً إن اتبعكما لم يتخلف عنه أحد من قومه” رغبة في الخير لصاحبه ولقوم صاحبه سيرسله لكي يرى النور والحق، وما هي إلا لحظات اخرى حتى دخل سعد أيضا في الإسلام وأشرق نوره من قلبه على وجهه فقال قومه: “نحلف بالله لقد رجع إليكم سعد بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم” لم يكتف بدخول الإسلام بل صار هو الآخر داعية إليه ومنذ اللحظة الأولى يحث قومه على اعتناق هذا الدين فيقول لما وقف عليهم قال: يا بني عبد الأشهل، كيف تعلمون أمري فيكم؟ قالوا: سيدنا وأفضلنا رأيًا وأيمننا نقيبة، قال: فإن كلام رجالكم ونسائكم على حرام، حتى تؤمنوا بالله وبرسوله، قالوا: فوالله ما أمسى في دار بني عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلا مسلمًا أو مسلمة».

ونجد من أسباب النجاح في هذا الموقف السعي للناس في تجمعاتهم وحيثما كانوا، فإذا كان من تقصدهم للدعوة لا يأتون المسجد وأنت كداعية لا تذهب إليهم فمتى تلتقون ومتى يعرفون هداية الله ونور الإسلام.

2- إتاحة الفرصة لكي يأخذ الحوار مجراه ولكي يسمع الطرف الآخر، فعندما جاء أسيد بن حضير إلى مجلس مصعب بن عمير يعلوه الغضب ويعبر عن غضبه بما يفيد أنه يشتم مصعب، بل ويعبر عن تهديد كبير قد يطال حياته وحياة رفيقه: “اعتزلانا إن كانت لكما بأنفسكما حاجة”، إن كنتما تحتاجان البقاء فثمن ذلك البعد عن المدعوين رد مصعب بهدوء الراسخين في الإيمان: “أو تجلس فتسمع!”  فالواقف متحفز للفعل ورد الفعل العنيف مما يحول دون بدأ الحوار أو استكماله.

– عدم المقاطعة، فرغم ما يبدو من أذى في كلام الذي جاء غاضبا متشتما لم يقاطعه مصعب رضي الله عنه، بل انتظره حتى أتم كلامه ثم استماله ليخاطبه بما عنده، ولعل الطرف الآخر يملك من الأدب ما يدعوه إلى الاستماع لمحاوره دون مقاطعة تطبيقا لمبدأ المعاملة بالمثل.

– إدراك أن جزءا كبيرا من العداوة والبغضاء بين الناس والدعوة والداعية سببها الجهل وسوء الظن والشحن من قبل أعداء الإسلام، لذا فأول مهمات الداعية أن يزيل غشاوة الجهل التي تغطي العيون ويستل الأحقاد من القلوب بالقول الطيب والحلم والحكمة، وبعد ذلك سيعود الناس إلى فطرتهم التي فطرهم الله عليها، أو سيبقون على عداوتهم كثيرا أو قليلا، فالثابتون على الحق كالثابتين على عداوته كلاهما قليل في الناس.

3- استخدام المسلمات العقلية التي تتفق عليها الأطراف المتحاورة، فقد قال له: “أو تقعد فتسمع فإن رضيت أمرا ورغبت فيه قبلته، وإن كرهته عزلنا عنك ما تكره”! قال سعد: أنصفت، ونحن نرى في هذه العبارة أيضا لينا وحلما يخفف من غضب الطرف الآخر وكثير من العداوات التي تواجهها الدعوة بسبب جهل الداعية بالأسلوب الملائم، وبطريقة إدارة الحوار واستخدام التعبيرات الملائمة التي تقرب البعيد وتجذب النافر وتؤلف بين القلوب، إن الباطل القبيح يستر قبحه بالخداع والتزيين والتزييف فيجذب له القلوب والأسماع، ويسوق الناس إلى حيث يريد بينما يعجز بعضنا عن مخاطبة الناس ثم يدعي أنهم يصمون آذانهم عن سماع الحق بينما هو الذي استعمل مفتاح خاطئ لمغاليق قلوبهم.   

رأينا كيف يصنع الصدق والإخلاص في تحويل مسار الناس من الكفر إلى الإيمان، وكيف يمكن أن يصنع مع الفساق والعصاة فليس الكفر بأشد من المعاصي. بعد عام واحد من العمل والسعي عاد مصعب رضي الله عنه إلى مكة ومعه سبعون رجلا يبايعون رسول الله على الدخول في الإسلام وحمايته من كل عدوان.

 إننا نرى كثيرا من الحوارات التي تشتم منها رائحة الدخان وترى لهب النزاعات تحرق المتحاورين وتحرق معهم الحقيقة ويظن كل منهم انه يدافع عن الحق وينافح عنه بينما لم يرى نموذج مصعب رضي الله عنه وهو يعرض الحق بثبات المؤمنين وعزتهم لم ير النموذج الذي يعمل فيه الداعية كإطفائي يخمد نيران العدوان ويوقد مكانها نور التوحيد وكل المشاعل  التي تنير للناس دروبهم وتدلهم على طريقة افضل للحياة وتوفر طاقتهم للبناء والتعمير.  

إن للحق أعداء يقفون له بالمرصاد، لكن تحول هؤلاء الأعداء إلى أولياء للحق أمر ممكن ويسير والتاريخ يشهد له، وقصتنا التي بين أيدينا تدل عليه فلا تحملنا تلك العداوة على اليأس ولا القنوط، فالقلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء.