الحكمة هي عصارة التجارب الحياتية وافراز للحوادث والنوازل وإلهام بعد تفكير وتدبر للأمور، والحكمة هي نتيجة قناعة راسخة، فهي “ضالة المؤمن، حيث وجدها فهو أحق بها”. والله عز وجل: ﴿يُؤْتِي الحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ﴾ (البقرة: 269)، والحكمة نظر في المآل واستخلاص للعاقبة بعد استشراف للمستقبل ومعرفة للمقصد. فماهي الحكمة؟ مامعنى الحكمة وماهو تعريفها؟ وهل يمكن لنا أن نتعلمها؟ وما موقعها في القرآن والسنة؟ ومن هو الحكيم وكيف يصبح الإنسان حكيما؟

تمتاز الحكمة بأنها مزيج ما بين المعرفة والخبرة والفهم العميق للتسامح والتوازن، بالإضافة إلى الإحتماليّات والشكوك في الحياة، حيث إنّ الحكمة تمتاز بكونها شاملة لكل الخبرات الإنسانيّة التي تم التعرف عليها منذ القدم، ولكن على الرغم من هذا فليست كل التجارب مانحة للحكمة، لأنّ الحكمة تكون ناتج لجميع العمليّات العاطفيّة والاجتماعيّة والمعرفيّة والعلميّة، التي تساهم وتعزّز عمليّة تحويل الخبرة إلى حكمة.

ويحافظ الحكماء على هدوئهم في أوقات الأزمات، وهم قادرون على الرجوع خطوة للوراء والنظر إلى الصورة بشكل أشمل. فهم عميقو التفكير، ويجيدون التأمل في قدرات الذات، ويدركون حدود معرفتهم الخاصة، ويفكرون في البدائل، ولا ينسون أن العالم يتغير على الدوام.

وينبغي علينا عدم الخلط بين الحكمة والذكاء، فرغم أن الذكاء مفيد، يمكن أن يكون المرء ذكيا دون أن تكون حكيما. كما أن الحكماء يمكنهم التعامل مع مواقف تتسم بعدم الوضوح، ومع ذلك يظلون متفائلين بأنه مهما كانت المشاكل أمامهم معقدة، هناك حلول. كما أن بإمكانهم التمييز بين الخطأ والصواب.

معنى الحكمة لغة واصطلاحا

معنى الحكمة لغة:

الحَكَمَةُ: ما أحاط بحَنَكَي الفرس، سُمِّيت بذلك؛ لأنَّها تمنعه من الجري الشَّديد، وتُذلِّل الدَّابَّة لراكبها، حتى تمنعها من الجِماح، ومنه اشتقاق الحِكْمَة؛ لأنَّها تمنع صاحبها من أخلاق الأراذل.

وأَحْكَمَ الأَمْرَ: أي أَتْقَنَه فاستَحْكَم، ومنعه عن الفساد، أو منعه من الخروج عمَّا يريد  .

معنى الحكمة اصطلاحا:

 قال أبو إسماعيل الهروي: (الحِكْمَة اسم لإحكام وضع الشيء في موضعه) .

وقال ابن القيِّم: (الحِكْمَة: فعل ما ينبغي، على الوجه الذي ينبغي، في الوقت الذي ينبغي)  .

وقال النَّووي: (الحِكْمَة، عبارة عن العلم المتَّصف بالأحكام، المشتمل على المعرفة بالله تبارك وتعالى، المصحوب بنفاذ البصيرة، وتهذيب النَّفس، وتحقيق الحقِّ، والعمل به، والصدِّ عن اتِّباع الهوى والباطل، والحَكِيم من له ذلك. 

ما هي الحكمة؟

الحكمة علم يبحث فيه حقائق الأشياء على ما هي عليه في الوجود بقدر الطاقة البشرية، فهي علم نظري غير آلي. والحكمة أيضا هي هيئة القوة العقلية العلمية المتوسطة بين الغريزة التي هي إفراط هذه القوة، والبلادة التي هي تفريطها.
وتجيء على ثلاثة معان: الأول الإيجاد، والثاني العلم. والثالث الأفعال المثلثة، كالشمس والقمر وغيرهما، وقد فسر ابن عباس، الحكمة في القرآن، بتعلم الحلال والحرام. وقيل الحكمة في اللغة العلم مع العمل. وقيل الحكمة يستفاد منها ما هو الحق في نفس الأمر بحسب طاقة الإنسان. وقيل كل كلام وافق الحق فهو حكمة، وقيل الحكمة هي الكلام المقول المصون عن الحشو. وقيل هي وضع شيء في موضعه. وقيل هي ما له عاقبة محمودة.

تعريف الحكمة

يتم تعريف الحكمة على أنّها حالة أو صفة يتم من خلالها التمييز ما بين المقبول وغير المقبول، مقترناً بحكم عادل وبصيرة، وتشمل الحكمة القدرة على التعلّم والتلفّظ بأقوال حكيمة والتصرف بحكمة وموعظة، كما وتعبّر الحكمة عن المعرفة التي يكتسبها الفرد بسبب التجارب والخبرات التي مرّ بها، وبهذا يمكن التمييز ما بين الذكاء والحكمة، في أنّ الذكاء يعبّر عن معرفة الشيء، ولكن الحكمة تعبّر عن القدرة على الحكم ما إذا كان الشيء مقبولاً القيام به أم لا، بالإضافة إلى أنّ الحكمة تستخدم الذكاء والخبرة والمعرفة من أجل تحقيق الخير، وبذلك تحقيق التوازن ما بين الذات والعلاقات الشخصية والتكيّف مع البيئة المحيطة، بالإضافة إلى تحقيق المصالح الشخصيّة التي لا تسبّب الأذى للغير والتعرف على بيئات جديدة والإنخراط بها.

أنواع الحكمة وأقسامها

الحِكْمَة نوعان:
1- النَّوع الأوَّل: حِكْمَة علميَّة نظريَّة، وهي الاطلاع على بواطن الأشياء، ومعرفة ارتباط الأسباب بمسبباتها، خلقًا وأمرًا، قدرًا وشرعًا.
2- النَّوع الثَّاني: حِكْمَة عمليَّة، وهي وضع الشيء في موضعه.
وتنقسم الحِكْمَة من حيث الأصل إلى قسمين:
1- حكمة فطرية:
يؤتيها الله عز وجل من يشاء، ويتفضَّل بها على من يريد، وهذه لا يد للعبد فيها، وهي التي عناها عمر بن الخطاب رضي الله عنه حينما كتب إلى أبي موسى الأشعري: (إنَّ الحِكْمَة ليست عن كِبَر السِّن، ولكنَّه عطاء الله يعطيه من يشاء، فإيَّاك ودناءة الأمور، ومُرَّاق الأخلاق).
2- حكمة مكتسبة:
يكتسبها العبد بفعل أسبابها، وترك موانعها، فيسهل انقيادها له، وتجري على ألفاظه التي ينطق بها، وتكتسي بها أعماله التي يفعلها، ويشهدها النَّاس على حركاته وسكناته.

من هم الحكماء؟

الحكيم هو شخصٌ عاقل يرجح الأمور نحو الصواب بما امتلكه من خبرات عبر تجاربه في الحياة. وقد شهد تاريخ الإنسانية العديد من الحكماء العرب وغير العرب، حيث تعتبر جزءاً من التقاليد والعادات التي يجب أن يراعيها الإنسان أثناء تأدية أعماله اليومية بغض النظر عن الدين والعرق والقومية. حيث عرف بعضهم أن الحكمة عمل ما ينبغي كما ينبغي في الوقت الذي ينبغي أي بما معناهُ وضع الأمور في نصابها، حيث هناك حكم اصلحت للتطبيق لمختلف العصور فكانت عميقة المعنى وبعض منها ما لا يصلح إلا زمن من الأزمنة فتكون سطحية المعنى وقد تأتي الحكمة في النثر والشعر.
والحكيم في معاجم اللغة العربية هو الشخص الذي يتصف بالروية والرأي السديد في القول والفعل، فلا يقول إلا صواباً، ولا يفعل إلا ما هو صحيح ومعقول بعيداً عن قرارات العاطفة، والحكيم اسم من أسماء الله جل وعلا، وصفة من صفاته قد يختص بها من يشاء من عباده، وللاسم معانٍ عدة سنتحدث عنها بشيء من التفصيل في هذا المقال.
ويتميّز الإنسان الحكيم بعدّة صفات ومميزات تميزه عن أقرانه، قد لا تكون مرئيّة للناس، ولكنّها تظهر من خلال تصرفّاته وتعاملاته وأفكاره الخاصّة، حيث يمتاز الشخص الحكيم بقدرته على التفاؤل بالحياة، وقدرته على حل المشاكل التي تواجهه، كما ويمتلك قدر كبير من الهدوء وخاصةً في مواجهة القرارات الصعبة والمصيريّة، وامتلاكه القدرة على رؤية الصورة الكبيرة للأمور، وبالتالي القدرة على تفسير ما يدور حوله، وتأمّل الحياة.

ما هي طرق اكتساب الحكمة؟

  1. كثرة التَّجارب، والاستفادة من مدرسة الحياة؛ فــ (من مشارب الحِكْمَة: الاستفادة من العمر والتَّجارب، بالاعتبار، وأخذ الحَيْطة لأمر الدِّين والدُّنيا، ففي الحديث: “لا يُلدغ المؤمن من جحر مرَّتين”. وكثرة التَّجارب هي التي تُكْسِب صاحبها الحلم والحِكْمَة).
  2. مجالسة أهل الصَّلاح، والاختلاط بهم، والاستفادة منهم؛ لذا كان لُقْمان يقول لابنه وهو يوصيه ويدُلُّه على طريق الحِكْمَة: (يا بُنَيَّ، جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك؛ فإنَّ الله يحيي القلوب بنور الحِكْمَة، كما يحيي الأرض الميِّتة بوابل السَّماء).
  3. العبادة الحقَّة لله سبحانه، والارتباط الوثيق به، والبعد عن المعاصي، وطرد الهوى، كلُّ ذلك من طُرُق نَيْل الحِكْمَة؛ فعن الحسن، قال: ﴿من أحسن عبادة الله في شبيبته، لقَّاه الله الحِكْمَة عند كِبَر سنِّه، وذلك قوله: وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾ (القصص: 14). وقال ابن الجوزي: (لكلِّ باب مفتاح، ومفتاح الحِكْمَة: طرد الهوى).
  4. تحرِّي الحلال في مأكله ومشربه وملبسه وشأنه كلِّه سبب في نَيْل الحِكْمَة، والوصول إلى مصافِّ الحكماء.
  5. التَّفقه في الدِّين، وهو من الخير الكثير الذي أشارت إليه الآية: قال تعالى: ﴿يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ﴾ (البقرة: 269).
  6. استشارة ذوي الخبرة والتَّجربة من الصَّالحين؛ ليزداد بصيرة بالعواقب.
  7. التَّحلِّي بالصَّمت عمَّا لا فائدة فيه، طريق إلى اكتسابها، فالحَكِيم يُعرف بالصَّمت وقلَّة الكلام، وإذا تكلَّم تكلَّم بالحقِّ، وإن تلفَّظ تلفَّظ بخير، أو سكت، ففي الصَّحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: ﴿من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيرًا، أو ليصمت﴾.
  8. ومن طرق اكتسابها أيضًا ما ذكره لقمان الحكيم عندما سئل: أنَّى أُوتي الحِكْمَة؟ قال: «بشيئين: لا أتكلَّف ما كُفِيت، ولا أضيِّع ما كُلِّفت”.

 

معنى الحكمة في القرآن الكريم

الحكمة لها مكانة عظيمة في دين الله، والأقوال والأفعال إذا اتصفت بصفة الحكمة صار لها قدر وقيمة، وإذا تباعدت عنها استحقت الذم ووصفت بالرعونة والطيش والحمق. فالحكمة هي العقل والفقه في دين الله، وهي إتقان العلم و العمل، وجميع الأمور لا تصلح إلا بالحكمة التي هي وضع الأشياء مواضعها وتنزيل الأمور منازلها، والإقدام في محل الإقدام والإحجام في موضع الإحجام.
وتأتي كلمة “الحكمة” في القرآن بعدة معانٍ مختلفة، منها:
1- الحِكْمَة بمعنى السُّنَّة، وبيان الشَّرائع:
قال تعالى: ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ﴾ – (البقرة: 129). وقال تعالى: ﴿كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ﴾ – (البقرة: 151).
2- الحِكْمَة بمعنى النُّبُوَّة:
قال تعالى: ﴿فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَـكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ – (البقرة: 251). وقال تعالى: ﴿وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ﴾  -(ص: 20). وقال تعالى: ﴿وَلَمَّا جَاء عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ وَلأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ﴾ – (الزخرف: 63).
3- الحِكْمَة بمعنى الفِقْه:
قال تعالى: ﴿يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ﴾ – (البقرة: 269).
4- الحِكْمَة بمعنى الفَهْم، وحُجَّة العقل وفقًا للشَّريعة:
قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾ – (لقمان: 12).
5- الحِكْمَة بمعنى العِظَة:
قال تعالى: ﴿حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ﴾ – (القمر: 5). قال تعالى: ﴿ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ (النَّحل:125)، أي: بالمقالة المحْكَمة الصَّحيحة. وهو الدَّليل الموضِّح للحقِّ، المزيح للشُّبهة. – وقال تعالى: ﴿يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ (البقرة:269). أي: أنَّه تعالى يُعطي الحِكْمَة والعلم النَّافع المصرِّف للإرادة، لمن يشاء من عباده، فيميِّز به الحقائق من الأوهام، ويسهل عليه التَّفرقة بين الوسواس والإلهام، وآلة الحِكْمَة، العقل المستقل بالحكم في إدراك الأشياء بأدلتها، على حقيقتها، ومن أُوتي ذلك عرف الفرق بين وعد الرَّحمن ووعد الشَّيطان، وعضَّ على الأوَّل بالنَّواجذ، وطرح الثَّاني وراءه ظهريًّا، وفهم الأمور.

معنى الحكمة في السنة النبوية 

عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت النَّبي صلى الله عليه وسلم يقول: “لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالًا، فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله حكمة، فهو يقضي بها ويعلِّمها” (رواه البخاري ومسلم).

وقال النَّووي: “ورجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلِّمها، معناه: يعمل بها ويعلِّمها احتسابًا، والحكمة: كلُّ ما منع من الجهل، وزجر عن القبيح”.

عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ضمَّني رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: “اللهمَّ علِّمه الحِكْمَة” (رواه البخاري).   قال ابن حجر: “اختلف الشُّرَّاح في المراد بالحِكْمَة هنا، فقيل: القرآن، كما تقدم، وقيل: العمل به، وقيل: السُّنَّة، وقيل: الإصابة في القول، وقيل: الخشية، وقيل: الفهم عن الله، وقيل: العقل، وقيل: ما يشهد العقل بصحته، وقيل: نور يُفرِّق به بين الإلهام والوسواس، وقيل: سرعة الجواب مع الإصابة”. وبعض هذه الأقوال ذكرها بعض أهل التَّفسير في تفسير قوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ ﴾ (لقمان: 12).

الجدير بالذكر أنّ العلماء اختلفوا في تفسير معنى الحكمة المذكورة في القرآن الكريم، فهناك من رجح أنها تعني النبوة، وهذا جانب صحيح ولكن مفهومها يشمل أكثر من ذلك، ولكن رجح آخرون أنّ الحكمة المذكورة في القرآن الكريم لفظ عام ولا تقتصر على النبوة، وتعني التفقه والعلم الواسع في أمور الدين والقرآن الكريم، واستدلوا على ذلك بالمقولة الشهيرة التي تقول: (رأس الحكمة مخافة الله)، فمن يخاف الله سراً وعلانية فقد أوتي الحكمة، كما يشمل معنى الحكمة حسن التصرف، فلو أعطى الله الإنسان مال قارون ولم يعطه الحكمة لخسر المال في ليلة وضحاها، فالإنسان الحكيم قنوع راضٍ يسعد بالقليل، والأحمق سفيه ساخط يشقى وإن كان عنده الكثير.

درجات الحكمة

تقوم الحكمة على ثلاث درجات:

الدَّرجة الأولى: أن تعطي كلَّ شيء حقَّه ولا تعدِّيه حدَّه، ولا تعجِّله عن وقته، ولا تؤخِّره عنه.

لما كانت الأشياء لها مراتب وحقوق، تقتضيها شرعًا وقدرًا. ولها حدود ونهايات تصل إليها ولا تتعدَّاها. ولها أوقات لا تتقدَّم عنها ولا تتأخَّر، كانت الحِكْمَة مراعاة هذه الجهات الثلاث. بأن تُعطي كلَّ مرتبة حقَّها الذي أحقَّه الله بشرعه وقدره. ولا تتعدَّى بها حدَّها. فتكون متعديًا مخالفًا للحِكْمَة. ولا تطلب تعجيلها عن وقتها فتخالف الحِكْمَة. ولا تؤخِّرها عنه فتفوتها… فالحِكْمَة إذًا: فعل ما ينبغي، على الوجه الذي ينبغي، في الوقت الذي ينبغي… فكلُّ نظام الوجود مرتبط بهذه الصِّفة. وكلُّ خلل في الوجود، وفي العبد فسببه الإخلال بها. فأكمل النَّاس، أوفرهم نصيبًا. وأنقصهم وأبعدهم عن الكمال، أقلهم منها ميراثًا. ولها ثلاثة أركان: العلم، والحلم، والأناة. وآفاتها وأضدادها: الجهل، والطَّيش، والعجلة. فلا حِكْمَة لجاهل، ولا طائش، ولا عجول.

الدَّرجة الثَّانية: أن تشهد نظر الله في وَعْده، وتعرف عدله في حُكْمه. وتلحظ بِرَّه في منعه. أي: تعرف الحِكْمَة في الوعد والوعيد، وتشهد حُكْمه كما في قوله: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ )النساء:40(، فتشهد عدله في وعيده، وإحسانه في وعده، وكلٌّ قائمٌ بحِكْمَته. وكذلك تعرف عدله في أحكامه الشَّرعية، والكونيَّة الجارية على الخلائق، فإنَّه لا ظلم فيها، ولا حَيْف ولا جور، وكذلك تعرف بِرَّه في منعه. فإنَّه سبحانه هو الجَوَاد الذي لا ينقص خزائنه الإنفاق، ولا يَغِيض ما في يمينه سعَة عطائه. فما منع من منعه فضله إلَّا لحِكْمَة كاملة في ذلك.

الدَّرجة الثَّالثة: أن تبلغ في استدلالك البصيرة، وفي إرشادك الحقيقة. وفي إشارتك الغاية. فتصل باستدلالك إلى أعلى درجات العلم. وهي البصيرة التي تكون نسبة العلوم فيها إلى القلب كنسبة المرئي إلى البصر، وهذه هي الخصِّيصة التي اختصَّ بها الصَّحابة عن سائر الأمَّة، وهي أعلى درجات العلماء.

قالوا عن الحكمة

قال ابن القيِّم: “الحِكْمَة: فعل ما ينبغي، على الوجه الذي ينبغي، في الوقت الذي ينبغي”. وقال أيضا: “الحِكْمَة في كتاب الله نوعان: مفردة، ومقترنة بالكتاب. فالمفردة فُسِّرت بالنُّـبُوَّة، وفُسِّرت بعلم القرآن”. وقال النَّووي: “الحِكْمَة، عبارة عن العلم المتَّصف بالأحكام، المشتمل على المعرفة بالله تبارك وتعالى، المصحوب بنفاذ البصيرة، وتهذيب النَّفس، وتحقيق الحقِّ، والعمل به، والصدِّ عن اتِّباع الهوى والباطل، والحَكِيم من له ذلك”.

قال ابن عباس: هي علم القرآن ناسخه ومنسوخه، ومُحْكَمه ومُتَشَابهه، ومقدَّمه ومؤخَّره، وحلاله وحرامه، وأمثاله. وقال أيضا : “كونوا ربَّانيِّين حُكَماء فقهاء”. وقال الضَّحاك: هي القرآن والفهم فيه. وقال مجاهد: هي القرآن، والعلم والفِقْه. وفي رواية أخرى عنه: هي الإصابة في القول والفعل. وقال النَّخعي: هي معاني الأشياء وفهمها. وقال الحسن: الورع في دين الله. كأنَّه فسَّرها بثمرتها ومقتضاها. وأما الحِكْمَة المقرونة بالكتاب، فهي السُّنَّة. كذلك قال الشافعي وغيره من الأئمة. وقيل: هي القضاء بالوحي، وتفسيرها بالسُّنَّة أعم وأشهر.

وقال أبو بكر بن دريد: “كلُّ كلمة وعظتك وزجرتك، أو دعتك إلى مكرمة، أو نهتك عن قبيح، فهي حِكْمَة”. و قال وهيب بن الورد: “بلغنا أنَّ الحِكْمَة عشرة أجزاء: تسعة منها في الصَّمت، والعاشرة في عزلة النَّاس”. وقال أبان بن سليم: “كلمة حِكْمَة لك من أخيك، خير لك من مال يعطيك؛ لأنَّ المال يطغيك، والكلمة تهديك”.

وقال أيوب: “وأما الحكمة فأين توجد؟ والفطنة أين مقرها؟ لا يعرف الإنسان قيمتها”. وقال علي بن أبي طالب: “إن الحكمة هي ضالة المؤمن، فخذوا الحكمة ولو من أهل النفاق.

وبالحكمة نطق سلمان الفارسي حين قال:”ثلاث أفزعتنى وأضحكتنى:مؤمل الدنيا والموت يطلبه، وغافل وليس يغفل عنه، وضاحك ملء فيه ولا يدري أساخط ربه”. وقال مالك بن دينار: “قرأت في بعض كتب الله: أنَّ الحِكْمَة تزيد الشَّريف شرفًا، وترفع المملوك حتى تُجْلِسه مجالس الملوك”.

وعن ابن عباس قال: ضمني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صدره وقال: «اللهم علمه الحكمة» (رواه البخاري والترمذي وابن ماجه). وقال سليمان بن عبد الملك: “يا أبا حازم! من أعقل النَّاس؟ فقال أبو حازم: من تعلَّم الحِكْمَة وعلَّمها النَّاس”.

وقال وهب بن منبه: “إنَّ الحِكْمَة تسكن القلب الوَادِع السَّاكن”. وعن ابن عيينة قال: “كان يقال: إنَّ أفضل ما أُعطي العبد في الدُّنيا الحِكْمَة، وفي الآخرة الرَّحمة”. وقال أحدهم: “الحِكْمَة تنزل من السَّماء، فلا تسكن قلبًا فيه أربعة: الركون إلى الدُّنيا، وهمُّ غدٍ، وحبُّ الفضول، وحسد أخٍ”.

وقال أرسطو: “الحكمة رأس العلوم والأدب والفن، هي تلقيح الأفهام ونتائج الأذهان”. و قال أفلاطون: «الفضائل الأربعة هي الحكمة، العدالة، الشجاعة، الاعتدال”. وقال أيضا:”نحن مجانين إذا لم نستطع أن نفكر، ومتعصبون إذا لم نرد أن نفكر، وعبيد إذا لم نجرؤ أن نفكر”.

وقال هيجل: “الحكمة هي أعلى المراتب التي يمكن أن يتوصل إليها الإنسان فبعد أن تكتمل المعرفة ويصل التاريخ إلى قمته تحصل الحكمة، وبالتالي فالحكيم أعلى شأنا من الفيلسوف، والحكمة هي المرحلة التالية والأخيرة بعد الفلسفة. إنها ذروة الذرى وغاية الغايات وهنيئا لمن يتوصل إلى الحكمة والرزانة”. وسئل سقراط: “لماذا اخترت أحكم حكماء اليونان؟”، فقال:”ربما لأنني الرجل الوحيد الذي يعترف أنه لا يعرف”.

وقد قال وهب بن منبه: “أجمعت الأطباء على أنَّ رأس الطبِّ: الحِمْيَة، وأجمعت الحُكَماء على أنَّ رأس الحِكْمَة: الصَّمت”. وقال عمر بن عبد العزيز: “إذا رأيتم الرَّجل يطيل الصَّمت، ويهرب من النَّاس، فاقتربوا منه فإنه يُلقَّى الحِكْمَة. وقيل: “زَيْن المرأة الحياء، وزَيْن الحكيم الصمت”.

كيف يصبح الإنسان حكيما؟

هناك قائمة طويلة من الصفات التي يتمتع بها الحكماء، حيثيعكف علماء النفس على دراسة مفهوم الحكمة منذ عقود طويلة، وتوصلوا غلى أنه يمكننا جميعا بذل الجهد لكي نصبح أكثر حكمة، ومن المرجح أن ننجح في ذلك. فالحكمة مرتبطة بكثير من الإيجابيات في حياتنا، مثل الرضا بشكل أكبر عن الحياة، وتراجع نسبة المشاعر السلبية، واكتساب علاقات أفضل، وتراجع معدلات الاكتئاب، حسبما يقول عالم النفس إيغور غروسمان، من جامعة ووترلو في كندا.

وقد توصل غروسمان وزملاؤه إلى أدلة تشير إلى أن الحكماء من الناس يعيشون أعمارا أطول من غيرهم. وفي المقابل، لا يصنع الذكاء أي فرق فيما يتعلق بالعيش الرغيد، وذلك لأن مستويات الذكاء لا تعكس في الغالب قدرة الإنسان على تعزيز علاقات جيدة مع الآخرين، أو اتخاذ قرارات مناسبة في الحياة اليومية. والحكمة ليست سمة فطرية، وبالتالي يمكن أن نكون حكماء في بعض المواقف، وغير حكماء في مواقف أخرى.

فهل باستطاعتك أن تكون حكيما، وفقا لنصيحة علماء النفس؟ فإذا كان باستطاعتنا أن نكون حكماء لبعض الوقت وفي بعض الظروف، ربما كان باستطاعتنا أن نتعلم كيف نكون حكماء في أوقات وظروف أخرى. ومع التوصل إلى أن الحكمة تتحسن مع تقدم العمر، فمن المفترض أننا يمكن أن نتعلم كيف نصبح أكثر حكمة بمرور الوقت.

السؤال هو كيف يمكننا أن نفعل ذلك؟ يعتقد عالم النفس روبرت ستيرنبيرغ، من جامعة كورنيل بالولايات المتحدة، أن الحكمة ما هي إلا القدرة على الموازنة بين الأمور. ويرى ستيرنبيرغ أن الشخص الحكيم هو الشخص الذي لديه القدرة على الموازنة العقلية بين نتائج الأمور على المدى القصير والمدى البعيد، وبين المصلحة الشخصية ومصالح الآخرين، وذلك مع التفكير في جميع الخيارات المتاحة، وفقا للوضع القائم، أو من خلال السعي لتشكيل وضع جديد.

وقد أجرى غروسمان تجارب باتباع استراتيجيات مختلفة للتعرف بصورة عملية عن مفهوم الحكمة. وشملت تلك التجارب تعليم الناس النظر للموقف من زاوية مختلفة، من خلال تخيل أنهم يلقون نظرة فاحصة على الوضع بصورة عامة كما لو كانوا يراقبون الأحداث بهدوء من بعيد، وبلا تدخل.