ألم يلفت ذهنكم قوله سبحانه ( ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين ) /آل عمران : 46/ . فتساءلتم : ما الحكمة أن الحق سبحانه وصف عيسى عليه السلام أنه يكلم الناس في الكهولة – وهي مرحلة الكبر والشيخوخة – ، في معرض الاحتجاج على أهل الزيغ والضلال ، و سياق بيان نبوة المسيح عليه السلام ، ومعلوم أن هذا شيء مألوف لدى الناس وتقتضيه الطبيعة البشرية وقانون الخلق فيهم ، فلم ذكره في و لا إعجاز فيه ؟!

فالتكلم في المهد – الرضاعة – شيء غير عادي ولا مألوف و خارق لعادة الخلق ، يصح الاستشهاد به في سياق معجزات المسيح ودلائل نبوته ، وتبرئة أمه الشريفة العفيفة مريم رضي الله عنها ! أما التكلم في الكهولة فلا ؟!

ألم تتنبهوا مرة وأنتم تقرؤون فواتح سورة المؤمنون ، أن الله سبحانه قال – في وصف المؤمنين وتعداد فضائلهم التي تستوجب الجنان- ( وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ ). 4 . فلاحظتم : أننا لا نقول في اللغة العربية : فعلت الزكاة ، أو افعل الزكاة !! وإنما نقول زكيت أوأديت وأعطيت و آتيت الزكاة .ولو قال قائل مثلا : فعلت المشي أو الأكل ، لكان ذلك غير بليغ ولا وفق تراكيب العربية الفصحى .

فلِم ذكر الحق سبحانه هذه الصيغة ، ومعلوم أن القرآن لا يأتي إلا بأفصح كلام وأبلغه وأعلاه كعبا ، حتى بلغ حد الإعجاز الذي لا يضاها ولا يبارى !!

و لعل الحكمة من ذكر الكهولة في الآية الأولى – والله أعلم – أن الحق سبحانه أراد القول : إن كلام عيسى عليه السلام في المهد هو نفس كلامه وحديثه في الكهولة على حد سواء بلا فرق ، فقد تحدث في المهد بكلام موزون محسوب فيه منطق وحصافة الحكماء كما الحال في حكمة الكهولة والشيخوخة ، وإنه كان يصدر منه طبيعة وبلا تكلف ولا تردد أو تلعثم كما في مراحل الإنسان المتقدمة !

يقول الزمخشري : ” ومعناه : يكلم الناس في هاتين الحالتين كلام الأنبياء ، من غير تفاوت بين حال الطفولة وحال الكهولة التي يستحكم فيها العقل ويستنبأ فيها الأنبياء “.

وحكمة أخرى خفية وهي أن المسيح عليه السلام الذي سيرفع إلى السماء في سن مبكرة – ثلاثة و ثلاثين عاما أي ما قبل الكهولة – بقدرة الله الخارقة ، سيعيش في ما بعد على هذه الأرض – ينزل آخر الزمان – عيشة طبيعية سوية يبلغ فيها سن الكهولة ومرحلة الشيخوخة ! أي إنه لا ولم ولن يموت صغيرا في هذه السن – كما زعمت النصارى – وإنما سيكمل مراحل عمره كلها!

ونقطة ثالثة: أليس في ذلك رد على مزاعم أهل الزيغ والضلال ، الذين ادعوا ألوهيته أو بنوّته لله – حاشا لله – ، حيث إن ذكر مراحل عمره حتى آخرها فيه إفحام لهم ، بأنه يمر بما يمر به كل البشر، فلم تزعمون له الألوهية أو غيرها من صفات الخالق من دون كل الناس !!

يقول الطبري – رحمه الله – ” وإنما أخبر الله – عز وجل – عباده بذلك من أمر المسيح ، وأنه كذلك كان، وإن كان الغالب من أمر الناس أنهم يتكلمون كهولا وشيوخا احتجاجا به على القائلين فيه من أهل الكفر بالله من النصارى الباطل، وأنه كان منذ أنشأه مولودا طفلا ثم كهلا يتقلب في الأحداث، ويتغير بمرور الأزمنة عليه والأيام ، من صغر إلى كبر، ومن حال إلى حال وأنه لو كان كما قال الملحدون فيه، كان ذلك غير جائز عليه . فكذب بذلك ما قاله الوفد من أهل نجران الذين حاجوا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فيه ، واحتج به عليه لنبيه محمد – صلى الله عليه وسلم – ، وأعلمهم أنه كان كسائر بني آدم ، إلا ما خصه الله به من الكرامة التي أبانه بها منهم …

وفيما يخص آية الزكاة : فلو قال الحق ( للزكاة مؤدون أو معطون ..) بدل ( فاعلون ) ، لأفاد ذلك وقوع فريضة الزكاة من قبل المؤمنين فحسب ، دون إضافة معنى آخر أرادته الآية إيصاله بعمق .. فإن التعبير بـ (الفعل) في (فاعلون) يفيد مبالغة في أداء الزكاة ومواظبة عليها حتى أصبح ذلك ديدنا وصفة ملازمة لهم ، بحيث صارت هذه الفريضة تصدر منهم كما تصدر أفعال الجوارح والأعضاء كالقيام والأكل والشرب ..الخ ، وبحيث أصبح الأداء يضاف إليهم كما تضاف هذه الأفعال ، فبها يعرفون ويمتازون !

فالمال شقيق الروح وعزيز على النفس ، وإخراجه إلى حرز الآخرين يحتاج لمجاهدة وتردد أحيانا . لكن هؤلاء القوم الصادقين في إيمانهم الراسخين في معتقدهم ، تخرج منهم الزكاة وتصدر كأي فعل من الأفعال بلا كلفة ولا مشقة أو تردد !. أرأيتم هذه الدقة البلاغية في إيصال المعنى بكل لطف وحسن ! فهي هنا أولى من غيرها وأكمل للمعنى . والله أعلم بأسرار كتابه .