في العادة يعاني عوام المجتمعات من الأزمات التي تمر بها دولهم ومجتمعاتهم، سواء كان مصدر المعاناة هي الحكومات، أو يكون المصدر من الخارج. ولعل عدم الإحاطة الكافية بما يجري حولهم وعليهم، سبب رئيسي في تلك المعاناة. فإن العلم المتواضع، وندرة المعلومات، وعدم القدرة على فهم وتحليل الأمور المحيطة، تضع الإنسان العامي، وإن كان يحمل شهادات جامعية، في مواقف كثيرة لا تخلو من المعاناة، إن كان ذلكم هو وضع العامي، فماذا عن النخب المثقفة في المجتمعات؟ تلك الفئة المتعلمة والمطلعة، التي لديها القدرة على فهم وتحليل الأحداث والأمور المحيطة. لماذا هي الأخرى صارت تعيش أزمة، شأنها شأن العوام؟ فلا هي بالقادرة على انتشال نفسها من واقعها المتأزم، ولا هي بالتي يمكن الاعتماد عليها بالتالي في معاونة المجتمع للخروج من واقعه المتأزم؟
من خلال الأزمات التي مرت وما زالت تمر بها الأمة، تبدو النخب المثقفة التي تعيش أزمة حقيقية، كأنما فقدت بوصلتها. فلا هي مع الداخل ولا مع الخارج. بل تارة هنا، وتارات أخرى هناك، لتكون محصلة ذلك التيه في النهاية، شخصية غير واضحة يستطيع الناس التعرف بها عليها، فضلاً عن متابعتها وبناء الثقة معها.
إن طرحهم بين الحين والآخر لمسائل مرتبطة بمعتقدات مجتمعاتهم وإثارة الشكوك حولها، دلالة على الأزمة التي يعيشونها. إذ بدلاً من حماية مجتمعاتهم من غريب القول والفعل، خاصة تلك القادمة من المحيط الخارجي غير المتوافقة مع معتقدات وقيم وثقافة مجتمعاتهم، تراهم أشبه بطابور خامس ينخر في جسد المجتمع. تقوى عزيمتهم وشوكتهم وتتساير مع التيار الحاكم في كل بلد، وتخفت مع خفوته أو تبديله، وهكذا هم!
لقد أظهرت أزمات الأمة المتنوعة، هشاشة دور النخب بشكل عام، بل لقد ضاع دورهم القيادي المؤثر أو كما يجب في وقت الأزمات، وصارت نخبة كل دولة تتحصن في قلاعها الرسمية أو خلف الساسة، تنشد السلامة أولاً، ومن ثم تتطلع إلى رضا ولي الأمر، وإن كان يجانب الحق والصواب!
الساسة والمثقفون
أثبتت إذن الأزمات العديدة التي تمر بالأمة وبالتجربة العملية، مدى الدور العظيم المؤثر للساسة في توجيه المجتمعات، بدلاً من أن يكون هذا الدور بشكل أساسي ومؤثر للنخبة، المتمثلة في جموع المثقفين والمفكرين والعلماء، الذين هم عادة من يصنع ويشكّل توجهات ورؤى الشعوب، بمن فيهم الساسة والمسؤولون.
لكن حين تخلت نخب المجتمعات عن دورها القيادي، رغبة فيما لدى الزعيم أو رهبة منه، ضاعت بوصلة مراكب المجتمعات العربية، فصارت تسير على هدى السياسيين تارة، أو المشتغلين بالإعلام ووسائل التواصل تارة أخرى، أو رجال أعمال وتجار، ليس لهم همّ سوى مصالحهم وأرباحهم الشخصية. ومن هنا تجد المراكب العربية تتنقل هنا وهناك، في تحركات تشوبها الكثير من التخبطات، ليس في السياسة فحسب، بل غالبية المجالات. وتلكم التخبطات لا شك بأنها لا تسر ولا تنفع كذلك. وهكذا عالمنا العربي، من أزمة إلى أخرى، ومن تيه إلى آخر حتى يقضي الله أمراً كان مفعولا.
قيادة المجتمعات
عبر التاريخ، تجد دوماً في كل أمة من الأمم، نخبة من أهلها أو فرقة أو جماعة أو سَمِّها ما شئت، تتولى مسألة النهوض بالأمة، وصياغة رؤى حضارية لها. وتقوم كذلك بالمساهمة في خطط البناء وتولي التوجيه والإرشاد، انطلاقاً من وعي تام بالمسؤولية الملقاة على عاتقها. ذلك أن ترك تلك المسؤوليات لرجال الحكم والساسة فقط، من شأنه التعثر بالبلاد والعباد في مراحل قادمة، على اعتبار أن قدراتهم ومهاراتهم تكمن تقريباً في إدارة دفة الحكم، وتكون عادة وفق رؤى سياسية أو مصالحية معينة وغالباً تكون مؤقتة.
لكن النخبة ، وهم كما أسلفنا، خلاصة المجتمع من مفكرين ومثقفين وعلماء في مجالات عدة، حين تشارك في تحمل مسؤولياتها وتقوم بصياغة رؤى حضارية شاملة بعيدة المدى، فإن ذلك هو التعبير المثالي للمشاركة المجتمعية المطلوبة في إدارة شؤون البلاد والعباد، كلٌ ضمن موقعه ومسؤولياته وقدراته. ولنا في تاريخ الأنبياء والمرسلين، المثل والقدوة.
إشارة قرآنية
في القرآن إشارة مهمة لهذا المعنى الذي ندندن حوله في قوله تعالى {فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة} التوبة :122 وفيها دلالة على أن الأمة ليس مطلوبا منها جميعاً الانكباب على عمل واحد، بل التخصص والتنوع مطلوبان، وعمل كل مساهم له قيمته المضافة إلى العمل الكلي. إذ “ليس من المصلحة تمحض المسلمين كلهم لأن يكونوا غزاة أو جُنداً – كما يقول ابن عاشور في تفسيره – وأن ليس حظ القائم بواجب التعليم دون حظ الغازي في سبيل الله من حيث إن كليهما يقوم بعمل لتأييد الدين، فهذا يؤيده بتوسع سلطانه وتكثير أتباعه، والآخَرُ يؤيده بتثبيت ذلك السلطان وإعداده لأن يصدر عنه ما يضمن انتظام أمره وطول دوامه، فإن اتساع الفتوح وبسالة الأمة لا يكفيان لاستبقاء سلطانها إذا هي خلت من جماعة صالحة من العلماء والسَّاسَة وأولي الرأي المهْتمين بتدبير ذلك السلطان”.
مما سبق، يتبين لنا الدور المهم والمؤثر للنخب المثقفة في أي مجتمع. دور قيادي في التوجيه والإرشاد. ودور مهم في صناعة الوعي العام. ودور بنّاء في تأسيس المجتمع على أسس من الدين والأخلاق والعلم. فهل تعي النخب العربية دورها الريادي، ومسؤوليتها التاريخية في انتشال الأمة والنهوض بها، كما كانت النخب السابقة على امتداد تاريخ هذه الأمة؟
سؤال لا يعرف إجابته سوى النخب أنفسهم.