يقوم الاقتصاد المعاصر على فكرة رئيسية، أو مسلمة علمية، تعتبر هي جوهر المشكلة الاقتصادية، ويقوم منطوق هذه النظرية على القول بوجود الندرة النسبية للموارد الاقتصادية المتاحة على اختلاف أنواعها، ومهما بلغت كمياتها، ووجه النسبية هنا هو المقارنة بالحاجات الإنسانية اللامحدودة واللانهائية.
ومن ثم فإن جوهر المشكلة الاقتصادية هو وجود حاجات لا متناهية في مقابل موارد محدودة. وفضلا عن أن توصيف المشكلة الاقتصادية بهذا الشكل يناقض نصوصا إسلامية واضحة، ورغم أن هذه النظرية/المسلمة تعرضت للنقد والمناقشة من طرف باحثين اقتصاديين مسلمين وغير مسلمين، فإنها ظلت تعرض في أغلب المناهج التعليمية العربية لا باعتبارها رؤية مذهبية بل باعتبارها مسلمة علمية متجاوزة.
الندرة بين الاقتصاد الإسلامي والاقتصاد التقليدي
تعتبر الندرة لدى الاقتصاد الوضعي ظاهرة مركبة من أن الموارد الطبيعية غير كافية بالنظر إلى استخداماتها، في حين أن الموارد الطبيعية في الرؤية الاقتصادية الإسلامية وافرة، وكافية: (( وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين))، والموارد الطبيعية التي حبا الله بها هذه الأرض من زراعة وثروات بحرية وباطنية لا زالت واعدة رغم النهب والفساد في الأرض..
الوجه الأخر للندرة في الاقتصاد التقليدي هو وجود حاجات لا محدودة لدى الأفراد، في حين أنه في الاقتصاد الإسلامي ليست كل رغبة أو ميل حاجة واجبة الإشباع، ولذلك كان هناك مفهوم الطيبات، وهو يعني أن كل المواد المحرمة شرعا أو الضارة خارجة عن مفهوم الحاجات المعتبرة..فضلا عن اعتبارات سلوكية تشكل جزء من منطومة الاقتصاد الإسلامي في التعامل مع الرغبات والمباحات..
كما تشكل الزيادة السكانية والنسل البشري أحد تفاعلات مشكل الندرة، فزيادة عدد السكان بنسبٍ تفوق الزيادة في الإنتاج غالبا هي المسؤولة عن الفقر والتخلف في الرؤية الاقتصادية المعاصرة..وبدلا من أن يكون العنصر البشري فرصة للبناء بات عبئا على التنمية !
لقد تأثر الاقتصاد الرأسمالي بمنشئه، واستعار فكرة الصراع الداروينية في سبيل البقاء لتفسير المشكلة الاقتصادية، فقال إن بخل الطبيعة وكثافة السكان هو سبب المشكلة الاقتصادية، وكأن على الضعفاء أن يُخْلوا مواقعهم للأقوياء بسبب قانون الانتخاب الطبيعي..
المشكلة الاقتصادية في المنظور الإسلامي مسؤولية الإنسان، لا بسبب ندرة موارد ولا بفعل وجود احتياجات لا محدودة، إنها مشكلة إنتاج سواء تعلقت بالمجتمعات الكسولة الفقيرة التي لا تعمل، فتتضاءل استفادتها من مواردها المنظورة وغير المنظورة، أو تعلقت بالفساد في استغلال الموارد، حين تهدر مقدرات الأرض في نزوات المجتمعات المتقدمة، وهي مشكلة سوء توزيع حين يسود الظلم والنهب والاستغلال العلاقات الاقتصادية في المجتمع الواحد وبين الشعوب..
سعار استهلاكي رغم أنف قانون المنفعة
في مباحث الاقتصاد الجزئي وفي دالة الاستهلاك نتعرف على سلوك المستهلك، وفي تفسيره له يتعرض التحليل الاقتصادي لما يسمى بالمنفعة الحدية، والتي تعني (تزايد المنفعة مع استمرار إشباع الحاجة حتى تصل لقيمة عليا ثم تبدأ في التناقص حتى تصل للصفر، ثم بعد ذلك تنقلب إلى السالب)، والقول بتناقص المنفعة الحدية يعني أن الحاجات محدودة، وهو نقض لنظرية لا محدودية الحاجات إحدى ركائز نظرية الندرة، مادام أن كل حاجة لديها نقطة حدية عظمى واحدة.
إن سوء استغلال الموارد والعجز عن الإنتاج والكسل عن العمل من طرف الفقراء في العالم والظلم والغبن والفساد من طرف الأغنياء فيه هو الذي أوجد المشكلة الاقتصادية
ولكن توليفة من دراسة دالة الاستهلاك وعلم النفس قاد إلى العمل على خلق أذواق وحاجات ليست أصيلة من خلال التغييرات الشكلية في السلع وحملات الدعاية، مما أوقع الأفراد والمجتمعات في حالة من جنون الاستهلاك البعيد عن أي تصرف اقتصادي راشد..
جوع هنا..وهدر هناك
والحق أن نظرة بسيطة على ماضي النهضة الصناعية وحاضر الشعوب المرفهة في أوروبا وأمريكا الشمالية كفيل بفك لغز المشكلة الاقتصادية المتزايدة يوما بعد يوم، فقد بنت دول الشمال رفاهيتها وتقدمها الاقتصادي على نهب خيرات شعوب الجنوب، ثروات باطنية نهبت ولا تزال، وسياسات اقتصادية عولمية بنيت على تقسيم عالمي ظالم للعمل..ووظفت السياسة لإبقاء علاقات التبعية الاقتصادية ولإدامة التخلف.
ثروات الأمم تتركز في أيدي فئات قليلة من الناس تدير ما سمي بالشركات متعددة الجنسيات التي امتلك أصحابها ثروات تفوق ثروات عشرات الدول المتخلفة مجتمعة.
التقسيم الظالم للعمل والهدر اللارشيد للموارد التي وهبها الله سبحانه وتعالى للإنسان هو الذي دمر البيئة وثقب الأوزون وأهلك الحرث والنسل وأصاب الناس بالجوع في بلدان الجنوب، حيث يعاني الملايين من المجاعات في بيئات زراعية خصبة:
يورد فرانسيس مورلابيه وجوزيف كولينز في كتابيهما “صناعة الجوع” إحصائيات دالة متعلقة بأحد أهم أصناف الموارد؛ الموارد الزراعية والسلع الغذائية في الطبيعة : (بالقياس عالميا يوجد الآن ما يكفي من الغذاء لكل فرد؛ فالعالم ينتج كل يوم رطلين من الحبوب ـ أي أكثر من 3 آلاف سعرة حرارية وبروتين وفير ـ لكل امرأة ورجل وطفل على الأرض، وهذا التقدير ـ 3 آلاف سعرة حرارية، وهي أكثر مما يستهلكه شخص من أوروبا الغربيةـ لا يتضمن الأطعمة المغذية الأخرى العديدة التي يأكلها الناس كالبقول والجوز والفواكه والخضروات ومحاصيل الجذور، ولحوم الحيوانات التي تتغذى بالأعشاب ).
ويعترف تقرير منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة “الفاو”حول الغابات للعام 2016 “أنه بالإمكان زيادة الإنتاجية الزراعية وتعزيز الأمن الغذائي بموازاة وقف التصحّر أو حتى عكس اتجاهه ” وتورد آخر بيانات البنك الدولي أن مساحة الأراضي القابلة للزراعة تمثل 10.85% من مساحة الأرض (العام 2013)، في حين تمثل الغابات التي تشكل أراض صالحة غير مستغلة ثلث المساحة الأرضية (30.83% عام 2015).
إن سوء استغلال الموارد والعجز عن الإنتاج والكسل عن العمل من طرف الفقراء في العالم، والظلم والغبن والفساد من طرف الأغنياء فيه، هو الذي أوجد المشكلة الاقتصادية، وليست ندرة الموارد ولا كثافة البشر هي المسؤولة.. تلك مجرد مسلمة مزيفة مشهورة.