النسوية الإسلامية هي مشروع معرفي معاصر ظهر في أخريات القرن الماضي في أنحاء متفرقة من العالم الإسلامي، ويستهدف فهم وتحليل ظاهرة التحيز ضد النساء في المجتمعات الإسلامية، والافتراض الرئيس لديها أن النص القرآني هو نص إلهي يكفل المساواة للنساء مع بعض التأويلات لآيات محددة، أما الحديث الشريف فليس كذلك إذ تعتقد معظم النسويات أن القسم الأكبر من الأحاديث موضوع وأنه يتناقض مع المبادئ القرآنية وعلى رأسها العدل والمساواة الإنسائية، وأنها توظف من قبل علماء الدين والفئات الاجتماعية المحافظة لتبرير قهر النساء وعدم مساواتهن بالرجال، وفي هذا الإطار ظهرت محاولات لمقاربة الحديث النبوي قامت مجموعة من النسويات[1]، وسنحاول في هذا المقال أن نعرف بمحاولة تأسيسية رائدة ونتبين معالم منهجها وهي للباحثة المغربية فاطمة المرنيسي.

التأويل النسوي لحديث “لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة”

تعتبر محاولة فاطمة المرنيسي لمقاربة الحديث والواردة ضمن كتابها “الحريم السياسي: النبي والنساء” الصادر بالفرنسية عام 1988 وتمت ترجمته إلى بضع لغات من بينها العربية؛ من أوائل المحاولات النسوية لمقاربة النصوص الحديثية من منظور نسوي.

توضح المرنيسي في المقدمة أن ترجو من وراء الكتاب الكشف عن دواعي معاداة النساء وإقصائهن عن المجال العام وهنا تبرز أمامها مجموعة من الأحاديث في مقدمتها حديث الصحابي الجليل أبو بكرة الذي أورده البخاري ” لقد نفعني الله بكلمة أيام الجمل، لما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن فارسا ملكوا ابنة كسرى، قال: “لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة[2] ويشكل مجموع هذه الأحاديث الأسانيد الدينية التي يستند إليها الرجال المعادين لحقوق النساء.

ولأجل تفكيك جذور هذا العداء قرأت وهي “مسلحة بإرادة شرسة للمعرفة الطبري والمؤلفين الآخرين وبخاصة ابن هشام وابن سعد وابن حجر ومجموعة أحاديث البخاري والنسائي”[3] بغرض فهم الحديث –وغيره من الأحاديث المتعلقة بالنساء-، وليس هذا صنيعا يسيرا كما تعترف فهناك صعوبات تكتنفه أهمها: وفرة الكتب المتعلقة بالأحاديث، وتعذر فهم النصوص الحديثية “فأحاديث البخاري تقع في أربعة أجزاء مع شرح غامض للسندي الشحيح في معلوماته”[4]، وهو ما يحول دون التحقق من هوية الراوي والظروف التي روى فيها الحديث، وأخيرا وجود أحاديث مكذوبة تفوق في عددها الأحاديث الصحيحة.

وبصفة عامة لا تقدم المرنيسي أي تفصيلات حول منهجها في مقاربة الحديث، ولكن يمكن استنباط بعض معالمه في النقاط التالية.  

  • التشكيك في حجية الحديث النبوي: ويتجلى هذا التشكيك طيلة وقد اتخذ مظهرين أساسيين؛ أولهما الادعاء أن جل الأحاديث موضوعة رغم وردها في كتب الصحاح، وحول هذه الفكرة تقول “يوجد من الأحاديث المكذوبة أكثر مما يوجد من الأحاديث الصحيحة”[5] وهي ترجع اتساع عملية الوضع إلى أن” النص المقدس لم يجر تداوله، بل إن تداوله هو خاصة بنيوية للسلطة في المجتمعات الإسلامية، فكل سلطة لم تبرز إلا بالدين، وقد دفعت المغامرات السياسية والمصالح السياسية إلى تصنيع أحاديث كاذبة، إن الحديث المختلق هو شهادة تثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال أو فعل هذا، الأمر الذي يسمح بإضفاء شرعية على هذا الفعل أو الموقف وحسب الظروف والمغامرات السياسية”[6]. وثانيهما القول بأن علماء الشريعة لم يكونوا أمناء في تعاملهم مع الأحاديث الشريفة بل أنهم تواطؤا مع السلطات الحاكمة “وأبعدوا بعض الأحاديث التي تضفي شرعية على بعض الخطابات والمواقف”. إن عملية جمع الأحاديث وتصنيفها لا يمكن فصلها عن السياسة، وهي بدلا من أن تحشد البراهين الداعمة لادعائها هذا تكتفي ببرهان أوحد هو ما أقدم عليه أبو بكرة الذي تذكر حديثا للنبي بعد مضي خمسة وعشرون عاما ليرجح كفة أحد المتنازعين في حرب الجمل، وتذكره أحاديث أخرى كلها سماوية في الفترات الحرجة[7].

  • الطعن في الرواة: وهو ما ممارسته بحق أبي بكرة[8] الذي أومأت أنه ولد زنا، وكان عبدا حمل له الإسلام العتق والسعادة فأصبح من وجهاء مدينة البصرة الحائزين للمال الوفير، ثم تلمح إلى أنه عرف عنه الكذب حيث جلده عمر بن الخطاب على شهادة كاذبة في قضية زنا اتهم فيها المغيرة ابن أبي شعبة، وهذه الملابسات كلها جعلت الإمام ابن حنبل يُصرح أنه حين شرع في إجراء تتبع وتدوين لنسب الصحابة نُصح ألا يتعمق كثيرا بشأن أبو بكرة[9].

  • انتقاد منهجية جمع الأحاديث: وهو الضلع الثالث من أضلاع منهجهها المتبع، وفيه تفترض أن مناهج جامعي الأحاديث ليست دقيقة إذ أن “من أعطى لنفسه مهمة نقل الأحاديث يفترض فيه أن يلتزم بتقنية المقابلة، أي يجتمع شخصيا مع من سمعوا الحديث مباشرة من الرسول أي الصحابة أو التابعين أو تابعي التابعين” وأن يتثبت من الراوي وقربه من الرسول وتمتعه بسمعة طيبة[10]، ورغم أنها لا تطعن صراحة في البخاري فإن المأخذين السابقين يندرجان في عمله فهو لم يلتق الراوي (أبو بكرة) كما أنه يعلم أن سمعته جُرحت بحد عمر له، وأنه لا يمتلك ذاكرة حافظة قوية، يضاف إليهما أنه لم يأخذ ببعض التوضيحات التي ذكرتها السيدة عائشة رضي الله عنها بشأن حديث شؤم المرأة، والتي أوردها الزركشي كاملة[11].

ملاحظات حول المنهج

إذا كنا فيما سبق قد التزمنا بإيراد مقتطفات يمكن من خلالها استشفاف معالم المنهج بعبارات المرنيسي وتعبيراتها؛ فإننا هنا نورد بعض الملاحظات حول هذا المنهج، وهي ملاحظات معرفية

الملاحظة الأولى تتعلق باستبعاد الأدوات والمناهج التي تواضع عليها العلماء المسلمون للتعامل مع النص مع الاكتفاء بآلية أسباب النزول للاستناد إليها لإثبات تاريخية النص وأنه متجذر داخل سياقه التاريخي ولا يتمتع بالإطلاقية التي تميز النصوص المقدسة عما عداها من النصوص.  

والملاحظة الثانية تدور حول الانتقائية التي مارستها طيلة بحثها، فهي تقارب مسألة الأحاديث النبوية وموقفها من النساء من خلال نموذجين وحسب؛ وهما حديث أبو بكرة بالإضافة إلى حديث أبو هريرة ” الشؤم في ثلات: المرأة والفرس والدار” الذي تخصصه بفصل في كتابها، وهي تعزل كل منهما عن شبكة النصوص الحديثية والدينية الأخرى باعتباره وحدة منفصلة، وتحاول البحث عن الثغرات داخله، وبالنظر إلى صعوبة اختراق النص من خلال المتن، تتخذ المرنيسي من التساؤلات أداة لتفكيك التوافق حول الحديث من الخارج عبر إثارة الشكوك حول الملابسات التي وجد فيها والتي صاحبت تشكله التاريخي، وحول راويه.

والملاحظة الأخيرة ترتبط بالمصادر وكيفية التعامل معها، إذ رغم اعترافها أنها قرأت أمهات المصادر التاريخية والحديثية إلا أن هذا لا يمنعنا من التساؤل عن مدى استيعابها للمصادر التراثية وقدرتها على التعاطي معها ولنضرب مثالا لذلك بما أومأت إليه من أن عدم قبول شهادته في قضية زنا يعني عدم قبول روايته للحديث فتخلط بذلك بين قبول الشهادة وقبول الرواية رغم أن العلماء ميزوا بدقة بينهما. من جانب آخر يثير تعاملها مع المصادر إشكالات عديدة، ولندلل على ذلك بكتاب (أُسد الغابة) الذي نقلت عنه بضع معلومات تتعلق بأصل أبو بكرة وعبوديته وأنه حُد في قضية زنا إلا أنها تغض الطرف عن نقل ما أورده ابن الأثير من أنه ” لم ينزل البصرة من الصحابة ممن سكنها أفضل من عمران ابن حصين وأبي بكرة”[12] كذلك نلحظ خلو الكتاب من بعض المعلومات التي نسبتها إليه، ومنها ما ذكرته من أن ابن حنبل نصح ألا يتعمق كثيرا في مسألة نسب أبو بكرة فبالرجوع للكتاب لم نعثر على ما يفيد صدور ذلك عن ابن حنبل.

المحصلة الختامية، أن محاولة المرنيسي للنص الحديثي من منظور نسوي تعد محاولة رائدة في مجالها، ورغم توسلها بالأدوات والمناهج الحديثة إلا أنها لم تفلح في الإحاطة ببنية النص وتقديم تأويل جديد بشأنه، إذ اقتصرت على التعامل مع الظروف التاريخية الخارجية المصاحبة لنزوله. 


 

[1] من هؤلاء: رفعت حسن، عائشة شاودري، سعدية شيخ، ألفة يوسف وغيرهن، والغالبية العظمى من هذه الدراسات صدرت بلغات أجنبية ونشرت في دور نشر غربية.

[2] صحيح البخاري، كتاب الفتن، باب الفتنة التي تموج كموج البحر.

[3] فاطمة المرنيسي، الحريم السياسي: النبي والنساء، ترجمة عبد الهادي عباس، دمشق: دار الحصاد، د/ت، ص 18.

[4] المرجع السابق، ص 13.

[5]  نفس المرجع السابق وذات الصفحة.

[6] المرجع السابق، ص 19.

[7] المرجع السابق، ص 78.

[8] مارست هذا الطعن أيضا بحق أبي هريرة حيث ذهبت إلى أنه يعاني عقدا نفسية من النساء ومارس حقدة تجاههن، راجع صفحة 92.

[9] المرجع السابق، ص 70-71.

[10] المرجع السابق، 49-50.

[11] المرجع السابق، 91. وقولها هذا محل نظر لأن البخاري قد أورد بالفعل أحاديث السيدة عائشة حول شؤم المرأة وتعليقها أن بعضهم ساوى بين المرأة والفرس.

[12] أسد الغابة، 5/39 (نسخة الشاملة)