يمور العالم أجمع اليوم بالدعوات القائمة والمتجددة للحركات النسوية، ويلتهب مع ذلك أيضا بحركات الجندر والمثلية، ويظاهر كل ذلك نزعات إلحادية وعلموية مادية متطرفة تبغي إسقاط الأديان ودحر القيم الإنسانية التي توارثها البشرية منذ قرون. وهي قيم تمتح من الأديان السماوية والفلسفات المثالية في الغالب الأعم.
الكلام عن النسوية الغربية وأوجهها المختلفة وما ولد من رحمها من نسويات أخرى طويل الذيل، ولكننا سنكتفي بعرض موجز عن النسوية الغربية وجذورها ومظاهرها، وآثارها السلبية على الحياة البشرية اليوم.
إذا أردنا البحث عن جذور النسوية الغربية فلا بد من العودة إلى الأنساق الدينية والثقافية التي حكمت العقل الغربي منذ قرون، فمن المعلوم أن المرأة الغربية عانت الأمرّ في القرون القديمة، ثم الوسيطة المظلمة في العهود المسيحية التي كانت تمتح من تفسيرات الآباء لنصوص العهدين القديم والجديد، حيث ظلت المرأة مصدر الخطيئة التي بسببها نزل آدم من الجنة، وأنها هي المتسبب في الإغواء (سفر التكوين، الإصحاح الثالث)، ولأجل ذلك انحطت درجتها عن الرجل، فلم يكن لها كبير قدر في الشريعة اليهودية التي اعتبرتها نجسة حال الطمت والنفاس، ويجري عليها الإكراه في الزواج، بل وتورث ضمن المتاع، وليس لها أي دور في الشؤون الدينية مطلقا.
ومع المسيحية كان الأمر أشد، فقد ظلت النظرة المسيحية سيئة تجاه المرأة التي هي أقل من الرجل، فهي سبب النجاسة والغواية، ولأجل ذلك حرمت الكنيسة الزواج على الرهبان، معتبرة ذلك مدعاة إلى الدنس الروحي.
كما حاربت الكنيسة وبكل قوة دعاوى زواج المسيح من مريم المجدلية، وحكموا بهرطقة وكفر كل من يقول ذلك، وقد أحيا الروائي دان بروان في روايته المعاصرة الشهيرة “شيفرة دافينشي” النقاش حول بشرية المسيح وزواجه، واستمرار نسله بعده، كما هو الجدل في تفسير لوحة العشاء الأخير للفنان الإيطالي ليوناردو دافنشي.
وتوالت المؤتمرات المسيحية للبحث في حقيقة المرأة، كما هو مؤتمر “ماكون” في القرن الخامس الميلادي، والذي انتهى إلى دخول جميع النساء جهنم عدا مريم أم المسيح، وفي عام (568م) ناقش مؤتمر للفرنسيين حقيقة المرأة، أهي إنسان أم شيطان، أم غير ذلك، وانتهوا إلى كون المرأة إنسانا خلقت لخدمة الرجل.
عانت النساء في أوربا من تلك النظرة الشيطانية لهن، فكلما حلت الكوارث المناخية والوبائية كالطاعون والموتان في أوروبا كانت آلاف النساء تسقن للمحارق بدعوى أنهن صاحبات السحر وجالبات الشياطين، ولا يزال الأدب الأوربي حفيلا وحافلا بتلك الروايات والنمطيات التي تصور فيها المرأة عجوزا شمطاء تطير على مكنسة، وتنثر شرها وسحرها بين مختلف البقاع، والمخطوطات والمتاحف الأوربية مليئة بتلك الصور الكريهة عن المرأة.
ومن قبل لم يختلف الإرث الفلسفي اليوناني عن بسط نظرته الدونية للمرأة التي اعتبرها سقراط شجرة مسمومة، ووصفها أفلاطون بكونها أقل من الرجل في العقل والفضيلة، وأما أرسطو فيرها مجرد مخلوق مؤهل للإنجاب، ومن الغريب أن فلاسفة العصر الحديث لم يعطوا المرأة مكانتها اللائقة، وظلت مقولاتهم تراوح الصور الدونية لها مع روسو صاحب العقد الاجتماعي، وإيمانويل كانت صاحب المثالية العالية، وفردريك نيتشه عدو الضعفاء، وبلغت أوجه الكراهية مع شوبنهور الذي وصف بأنه عدو المرأة شأن العقاد فيما بعد.
لم تنكسر تلك الصورة إلا مع بدايات العصر الرومانسي الذي أعقب حركة الإصلاح الديني الحديث، وهي حركة متأثرة بالمجاور المسلم في الأندلس وصقلية، وتغيرت تلكم الصورة الكريهة الأولى كلية في نهايات العصر الحديث.
وأما من الناحية القانونية، فقدظلت المرأة في السلم الأدنى، وكان ينظر إليها باعتبارها كائنا قاصرا لا يحق لها أن تتصرف بأموالها دون إذن ولي أمرها الرجل، زوجا كان، أو أبا، أو أخا، وفي حال عدم وجود أي منهم يكون متولي أمرها كاهن الكنيسة من أسقف، أو قس أو شماس أو مطران، والحيد عن ذلك حرمان في نظر الكنيسة.
والمطالع للوائح والمساطر والقرارات القانونية للمرأة في الغرب يصاب بالذهول لجور تلك الأحكام وغرابتها، ففي إنجلترا كان من حق الرجل بيع زوجته بشرط موافقتها، ولم يكن لها الحق مطلقا في تسجيل أملاك باسمها.
وعلى الرغم من ريادة الثورة الفرنسية في الدفاع عن ميراث عصر الأنوار وحقوق الإنسان، إلا أنها لم تعط المرأة مكانتها، فقد صدر إعلان حقوق الإنسان باسم حقوق الرجل، ونص القانون الفرنسي بعد الثورة على عدم أهلية المرأة للتعاقد، وأنها ناقصة الأهلية شأنها شأن الصبي والمجنون، ولم تتعدل تلك القوانين إلا مؤخرا. بل وظلت أجور النساء مختلفة عن أجور الرجال، فضلا عن حجب عديد الوظائف عنهن بالحس والعرف العام.
ولأجل ذلك بدأت المرأة في الغرب تناضل خفية وعلانية لنيل الحقوق المهضومة، وبدأت الحركة النسوية مطلبية منهية بالأساس، فقد جاء في التعريف الأول لمعجم أكسفورد بأن الحركة النسوية تهدف إلى :”الاعتراف بأن للمرأة حقوق وفرص مساوية للرجل”، ثم ارتفعت المطالب إلى الحق في الاقتراع، وكان ذلك في إنجلترا التي تعد رائدة في الاستجابة للمطالب النسوية، وتوالت الاهتمامات النسوية وتعددت الكتابات فيها بكثرة بعد فواجع الحرب العالمية الثانية، وبروز فلسفات ما بعد الحداثة، وخاصة الوجودية منها، والتي كانت ثورة جذرية على القيم الدينية، وحتى على ميراث عصر الأنوار العقلاني.
يرصد الدارسون موجات متوالية وصور وتيارات مختلفة داخل الحركة النسوية الحديثة التي مرت بتموجات كثيرة، ولدت كل واحدة من الأخرى، واختلفت في المطلبية والتأثير من بلد إلى آخر، ولكن الريادة كان من نصيب البلدان السكسونية، ثم فرنسا، ويمكن المرور عليها لماما، وهي:
-الموجة الحقوقية الأولى، وبدأت في إنجلترا نهاية القرن الثامن عشر (1794) مع ماري ولستونكرافت، وتزاوج فيها الطرح الفكري مع الحقوقي بإعادة الاعتبار للمرأة، وتلتها موجات مطلبية رافعت حول قضايا متعددة أهمها الحق في المساواة في الوظائف والأجور والعطل، وحق الاقتراع في الانتخابات، ومن إنجلترا انطلقت إلى أمريكا وباقي دول أوربا الغربية، في حين لم تطرق هذه الدعوات باقي أوروبا إلا مع تصاعد الحركات الشيوعية.
-الموجة القانونية، والتي ركزت على قضايا حق الاقتراع الذي كان مقصورا على الرجال في تلكم البلدان الديمقراطية، ففي أمريكا لدينا نموذج ” سوجورنر تروث” في منشورها الشهير “ألست امرأة” الذي صدر عام (1851)، وبعدها “سوزان بي أنتوني” التي انتقدت الخطاب الذكوري في الدستور الأمريكي، وطالبت النساء بعدم التزام القوانين التي لا تخدمهن. ولم يتم نيل النساء حق الانتخاب في أمريكا إلا سنة (1920).
ولكن التحول الذي يهمنا في تصاعد الحركات النسوية الذي انتهى إلى ما انتهى إليه من هدم القيم الدينية والأسرية، هو الطبعات الجديدة للحركات النسوية ما بعد الحداثية، والتي يمكن أن نجملها في الآتي:
-النسوية الفردية: والتي تعد وفية لعصر الأنوار، وتكتفي بالتركيز على مساواة الجنسين، ومن تم الحق بتمتعهما بنفس الحقوق، والتماثل في الواجبات، وقد استمر هذا التيار وساد لفترة، وحقق إنجازاته الأدبية والفكرية، وكذا انتصاراته في الحقوق المدنية والسياسية، وهو أحد ركائز الليبرالية التقليدية.
-النسوية الشيوعية: وهي حركة ناهضة في المناداة بالحقوق السياسية والقانونية، وكان تركيزها الأشد هو محاربة النظام الاجتماعي، مما يجعل المرأة تسهم في رفع التناقضات الطبقية المتأتية من الفساد المجتمعي الذي تديره البرجوازية، ولأجل ذلك انخرطت المرأة الشيوعية بقوة في إدارة الصراع وتقويض النظام الأبوي التقليدي، وبحكم عسكرة أغلب النظم الشيوعية وتراتبية أجهزتها ونقاباتها الصارمة لم تنل الحركة النسوية كبير نجاح مقارنة بنقيضها الليبرالية، وظلت المرأة متأخرة عن القيادة والتأثير في تلك البلدان.
-النسوية الراديكالية: والتي انتقلت من المطلبية إلى قلب الطاولة الفكرية، والانتقال من المساواة بين الجنسين إلى التمركز حول المرأة، وجدّت هذه الحركات مع فلسفات ما بعد الحداثة وخاصة الوجودية، وتعتبر الأدبية “سيمون دي بوفوار” صديقة الفيلسوف “سارتر”، صاحبة مقولة “إن المرأة لا تولد امرأة، بل تصبح امرأة” رائدة هذا التيار التي برز بقوة بعد الثورة الشبابية في أوروبا، وبالتالي كانت الثورة على ما يسمى بالنظام الأبوي الذكوري، وظاهر هذا الاتجاه آخر متطرف ينادي بعلوية المرأة على الرجل، أو يتمركز حول المرأة، أو ما يسمى بتأنيث المجتمع وخضوع الرجل لها، ومن ثم انهيار قيم المسؤولية والرعاية الأسرية، وقد توالت المراسيم تباعا في الغرب انتصارا لهذه الحركات المنادية بذلك.
فقد صارت المرأة تنال الوظائف التي ينالها الرجل، وصار بإمكانها تخطي العقبات البيولوجية، وجاءت الثورة الطبية المعاصرة لتعطيها مزيد فرص في التفلت من النظام الأسري، الذي هُدم في الغرب نتيجة بروز نظريات الحرية الشخصية، والقول بحرية الجسد والتصرف فيه حسب الرغبة، والجندر، ومن ثم بروز المثلية وتغيير الجنس، وحق الإجهاض، والثورة على القيم التقليدية، وكانت النتيجة المرّة هي تراجع الزواج والإنجاب، ودخول المجتمعات في الشيخوخة، وانحسار قيم الحب، وشيوع قيم التسليع والاستهلاك، ونيل الشهوات من دون كلفة. مع انفجار كبير للمصحات النفسية ودور الرعاية للطفولة، والأدوية والمهدئات والمخدرات، وظاهر كل هذا الثورة الإعلامية والإعلانية المعاصرة التي تدر ملايين الأموال في هذا المجال.
إن النتيجة الأغرب في كل هذا هو الانقلاب الخطير في سلم القيم الإنسانية، التي صارت تتسم بالميوعة أو السيولة، فلا معنى ثابتا، وكل شيء قابل للتغيير، والبشرية كلها اليوم تحصد الشوك من هذا الكفران للقيم الدينية القائمة على تكامل الجنسين، ودورهما في استمرار الجنس البشري المهدد بالانقراض، واستمراء الخضوع للصيحات الشيطانية التي أخذت العهد بالانحراف ببني آدم عن الستر والعفة والعبودية، وعلى منتسبي الأديان جميعا الوقوف بشدة أمام هدم للنظام الأسري الذي تقوده النزعات العلموية والإلحادية.