سورة يوسف من السور القرآنية التي جاءت تحكي قصة كاملة من البداية للنهاية، على عكس سور قرآنية أخرى كثيرة. فترى سورة تتحدث عن مشهد من قصة نبي، ثم تأتي سورة أخرى لتجد مشهداً جديداً لذاك النبي، وسورة ثالثة ومع مشهد ثالث وهكذا، إلا سورة يوسف، التي يمكن أن نطلق عليها هنا “سورة النفوس البشرية”. والنفوس في سورة يوسف ستجدها نفوسا بشرية متنوعة، هي نفسها التي تتكرر منذ بدء التناسل البشري، وقصة ابني آدم هابيل وقابيل، وما بعدهما إلى يوم الناس هذا.. تجد النفس الطيبة والنفس الحقودة، وثالثة شريرة، ورابعة ساكنة، وأخرى قلقة، إلى آخر قائمة النفوس في سورة يوسف.
نجد النبي يعقوب عليه السلام يجسّد لك معاني الأبوة الحقة، ونفسية الأب الحنون المشفق، وما يعني فقدان الولد من بعد استشعار خلافات الأبناء وطغيان شعور الحسد بينهم، ليصل ذروته في لحظات من غيبوبة العاطفة العائلية، إلى حدوث تفكير جماعي شرير للتخلص من أخيهم الضعيف، بعد فقدان الإحساس بتبعات هذا المخطط الشيطاني، وأثره البالغ العميق على أبيهم الشيخ الكبير (إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة، إنّ أبانا لفي ضلال مبين..) فهكذا هي النفس الحسودة وما تفعل.
النفوس في سورة يوسف والتحرك نحو الخير
وفي خضم الحديث عن النفوس في سورة يوسف، ننتقل بعد ذلك إلى مشهد آخر لنرى نفساً قلقة ضمن نفوس حاقدة حاسدة شريرة، لم يمنعها مع كل ذلك الشر المحيط بها، أن تتحرك بأعماقها ذرات من الخير، جعلتها لا تهنأ بعض الشيء مما يًحاك ضد نفس بريئة مسالمة، فتعيش تلك النفس القلقة بالتالي توتراً كانت ثمرته إيجابية رائعة، تمثلت في فكرة تفتق الذهن عنها في أحلك وأحرج الأوقات، وكانت بمثابة منقذ نفس بريئة من موت محقق.. (قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ).
تغيرت الخطة في اللحظات الأخيرة بسبب تلك النفس القلقة، وضمن مسار النفوس في سورة يوسف، يقرر الإخوة إلقاء أخيهم الضعيف يوسف، في بئر بعيدة عوضاً عن قتله، لتدخلنا السورة بعد تلك المؤامرة في مشاهد جديدة ومع نفوس أخرى ستظهر على مسرح الأحداث تباعاً..
النفوس في سورة يوسف ظهرت بصور عدة في شخص نبي الله الكريم يوسف عليه السلام. أولاها، تلك النفس الخائفة المرعوبة.. طفل صغير يُلقى في بئر بعيدة عن الديار، حيث وحشة الأعماق وظلمته، وموت بطيء قادم رغم وجود الماء..
ثم تستمر حالة الخوف معه بعد أن ظن الفرج قد جاءه عبر قافلة سيارة توقفت من أجل الماء، وانتشاله من جوف البئر، ليواجه نفوساً طامعة رأته مالاً وذهبا، فكان مصيره الدخول إلى عالم الرق، وإن كان عالما مختلفا. حيث عاش حياة الرق في بيت عز وسلطان، بيت عزيز مصر أو رئيس وزراء الملك يومها.
عاش في بيئة فاخرة مرفهة ولكن بنفسية المغترب، التي تتطلب الكثير من الحذر والأدب والأخلاق، لاسيما أنه بدأ يخدم في القصر، والأجواء المخملية الغالبة على القصور بشكل عام.
يوسف عليه السلام ونفسية القصر
يشب يوسف عليه السلام فيزداد نضارة شبابية أضافت إلى جماله الأصلي، جاذبية تأخذ بالألباب، لاسيما ألباب وقلوب قوارير القصر وزائراتها، وكانت أبرزهن حينذاك في قصة النفوس في سورة يوسف، صاحبة النفسية المرفهة، التي لا يُرد لها طلب، زوجة العزيز نفسه.. حيث تسببت، بفعل قوة وفوران الغريزة البشرية عندها في وقت ما ولظروف معينة بالقصر ربما، إلى دفع نبي الله يوسف للانتقال من نفسية المغترب المؤدب الخلوق، ليعيش نفسية المتوتر الحائر، فعاش في تدافع داخلي عجيب بين أمرين لا ثالث لهما..
الأول مع سيدته الجميلة ذات الجاذبية الأنثوية التي لا يُرفض لها طلب، تأمره بأمر لا يقدر هو أن ينفذه، باعتبار تربيته الدينية وبيت النبوة الذي ينتمي إليه، ورغم قوة وعنفوان الشباب التي كان قد وصل إليها والجو المهيأ في القصر.. وباعتبار أنه ليس من الوفاء قبل أن يكون من الورع والدين، أن يسيء إلى جميل سيده العزيز، الذي أكرم مثواه.. والأمر الثاني أن يتعرض لمشكلات لا يدري كنهها بعد، وهي واقعة لا محالة، سواء نفذ أمر سيدته أم لم ينفذ.
عاش نفسية المحتار المعذَّب حيناً من الدهر قصيرا، وإن كان طويلاً وقاسياً بالنسبة ليوسف، الذي لا أشك لحظة أنه استحضر وشعر مرارة ما قام به إخوته، الذين هم السبب الأول في محنته التي يواجهها الآن. تلك المحنة التي ازدادت وصارت واقعاً أكثر مرارة، بعد انتهى مشهد إمرأة العزيز والنسوة وانكشاف أمرها أمام زوجها.. ودخل السجن، ليعيش حياة قاسية أخرى.
عاش سنوات عجاف بنفسية المظلوم المقهور، حتى جاءت قصة رؤية الملك التي قام بتأويلها يوسف، وحدث ما حدث بعد ذلك من تبرئته واعتراف زوجة العزيز بالمكيدة، ليبدأ حياة جديدة، ليست الحرية أبرز مظاهرها فحسب، بل القوة والسلطان. حيث عاش بنفسية من يملك الصلاحيات والإرادات والقوى، ومن يأمر فيُطاع، بعد أن استخلصه الملك لنفسه وجعله الوزير الأول في المملكة.
ثم مر النبي يوسف بعدها بمشاهد أخرى مع إخوته، وهم بؤساء جاءوا يطلبون معونته، وهم له منكرون لا يعرفونه.. ولا أستبعد هنا أيضاً أن جالت مشاعر ونفسيات مختلطة بنفس يوسف في مشاهده المختلفة مع إخوته بمصر، ما بين نفسية الغاضب الراغب في الانتقام منهم، ونفسية المشفق عليهم في الوقت ذاته، فهم في نهاية الأمر إخوته، الذين نزغ الشيطان بينهم وبين يوسف، وأفسد علاقاتهم الأخوية، فكانت الكلمة أخيراً للنفسية التي تربت على الإيمان بالله، واعتبار ما وقع ليس سوى ابتلاءات، وأحسن الأداء فيها، فآتاه الله المُلك وعلمه تأويل الأحاديث، ثم توفاه مسلماً وألحقه بالصالحين.. عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأزكى السلام.