يدهشك البيان القرآني المحكم المبين، في دقائق ألفاظه وعمق اختياراته؛ مما يشير ذلك دلالة واضحة إلى اختصاص كل لفظة فيه بمعنى دقيق، تتميز به عن غيرها في السياق، -النور والضياء في القرآن الكريم– ولو أدرنا لسان العرب كله على أن نستبدل بلفظة فيه لفظة أخرى؛ فلن تؤدي معناها وتحل محلها بحال، فالكلمة القرآنية عاشقة لمكانها، ولاترادف في محكم الإعجاز والبيان.
وهذا ما استوقف أساطين المفسرين، وعلماء البلاغة في تدبر القرآن، ومعرفة الفروق الدقيقة في ألفاظه، من ذلك قوله تعالى: (مَثَلُهُمۡ كَمَثَلِ ٱلَّذِی ٱسۡتَوۡقَدَ نَارࣰا فَلَمَّاۤ أَضَاۤءَتۡ مَا حَوۡلَهُۥ ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمۡ وَتَرَكَهُمۡ فِی ظُلُمَـٰتࣲ لَّا یُبۡصِرُونَ) [سورة البقرة 17]
فاستعمل الضياء والنور، فقال: فلما أضاءت ماحوله ذهب الله بنورهم، ولم يسو النظم المعجز بينها فيكون: ( فلما أضاءت ماحوله ذهب الله بضوئهم)
وهنا يرد التساؤل التدبري المشروع لدى متدبري القرآن الكريم، ومتذوقي البيان:
ما سر التغاير ؟
وما الفرق في الاستعمال؟
فمن أراح عقله؛ قال بالترادف، كما هو ظاهر استعمال البشر في اللسان.
وأما ابن الأثير (637هـ)فقدح زناد فكره -رحمه الله- في كتابه الأثير المثل السائر، وحاول التفريق بينها، فاهتدى إلى القول “بأن الضوء فيه دلالة على النور وزيادة، فلو قال: ذهب الله بضوئهم؛ لكان المعنى يعطي ذهاب تلك الزيادة، وبقاء مايسمى نورا؛ لأن الإضاءة هي فرط الإنارة…، والغرض من قوله: (ذهب الله بنورهم) إنما هو إزالة النور عنهم أصلا، فهو إذا أزاله فقد أزال الضوء” المثل السائر 2/167
وإلى رأيه استند جمهرة من المفسرين والبلاغيين، وعجبا لابن أبي الحديد في الفلك الدائر! إذ شنع على ابن الأثير بقول ثقيل وشديد؛ كمعدن الحديد!
وما زاد على أن قال بالترادف في محكم البيان، وشنع على من يتدبرون الفروق الدقيقة ويستنبطون المعاني اللطيفة، والذوق البلاغي يعتمد على حاسة التذوق البياني المرهف، المنطلق من ذخيرة علمية وافرة، وفهم بلاغي عميق.
ثم ظل في فلكه الدائر يدور بالتشنيع على علماء المتشابه في البيان القرآني، الذين يتدبرون دقائق المعاني والإعجاز في متشابه النظم القرآني، ومابصره في ذلك صائب وحديد.
و الحقيقة أن ابن الأثير لم يتفرد بهذا القول، ولم يكن به بأثير، إذ سبقه إلى القول بهذا الإمام السهيلي،(581 ﮪ) وهو من هو من فرسان هذا المضمار في سماء البيان، وذلك في كتابه الروض الأنُف، لكن قوله هذا مطمور بين السطور، وهذا الكتاب مع اهتمامه فيه بشرح السيرة لابن هشام، إلا أنه كنز كبير من كنوز البيان، يشتمل على كثير من اللطائف والدقائق في اللغة والتفسير ، وهكذا حال كل عالم برع في فنه، وخالط لحمه ودمه، يهتف به أينما حل وارتحل في بساتين العلم ورياضه؛ لذلك هتف الإمام السهيلي بما دار في خلده، وشغل فكره، عند وقوفه على بيت ورقة بن نوفل، الذي قال فيه:
ويظهرُ في البلادِ ضياءُ نور يقيمُ به البريةَ أن تموجا
فقال: ” وهذا البيت يوضح لك معنى النور، ومعنى الضياء، وأن الضياء هو المنتشر عن النور، وأن النور هو الأصل ومنه مبدؤه، وعنه يصدر وفي التنزيل:( فلما أضاءت ماحوله ذهب الله بنورهم) [البقرة 17]. وفيه ( جعل الشمس ضياء والقمر نورا) [يونس5] لأن النور لا ينتشر عنه من الضياء ما ينتشر من الشمس) وفي الصحيح” الصلاة نور، والصبر ضياء” وذلك أن الصلاة هي عمود الإسلام، وهي ذكر وقرآن، وهي تنهى عن الفحشاء والمنكر، فالصبر عن المنكرات، والصبر على الطاعات هو الضياء الصادر عن هذا النور، الذي هو القرآن والذكر” الروض الأنُف 2/165
والذي تطمئن إليه النفس من ذلك؛ أن النور أعم من الضياء، وأنه درجات، تبدأ من بدايات النور ويمتد إلى درجات لا نعلم منتهى شدتها وقوتها. وأن الضياء حالة من حالات النور، فهو فرط الإنارة، والنور أصل الضياء ومبدؤه.
لذلك وصف – سبحانه- نوره فقال: ( ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ) النور 35 فنوره عظيم، لاحدود له.
وبما أن الضوء هو فرط الإنارة؛ ففيه شدة وحرارة، وهو ماليس في النور الحليم الذي لاحرارة فيه. لذلك ناسب وصف الشمس بالضياء، والقمر بالنور في محكم التنزيل.
وقد اتسعت دلالات النظم المعجز الحكيم، وتعددت معانيه بلفظ موجز بديع عندما قال سبحانه : ( فَلَمَّاۤ أَضَاۤءَتۡ مَا حَوۡلَهُۥ ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمۡ ) [سورة البقرة 17]
إذ وصف هذه النار المستوقدة بالضياء الشديد المتوهج، له حرقة وحرارة، ثم ذهب الله بنورهم، لا بضوئهم.
حتى يأتي على المعنى كله؛ باستئصال النور كله الذي هو مبدأ الضياء وأصله، ولو ذهب بضوئهم؛ لكان محتملا ذهاب الضياء، وهو فرط الإنارة، مع بقاء شيء من النور.فكان هذا التعبير على هذا النحو؛ من الدقة والإحكام بمكان.
زد على ذلك أنه قد ذهب النور الحليم، وبقي شيء من حرارة النار المنطفئ نورها، وهذا فيه مافيه من التنكيل.
وفي دلالة النور هنا -أيضا- إيحاء واسع من المعاني للبصائر المستنيرة بنور الوحي الإلهي، فهو نور البصائر، كما أن النور الحسي نور الأبصار، ولما أعرض المنافقون عن نور الوحي، بنفاقهم وكفرهم، ذهب عنهم النور بكل معانيه، وبأصله، وجذوره، وضوئه وأصوله، نور الأبصار والبصائر، فما لهم من نور.
وعندما وصِفتِ الصلاة بالنور؛ لأنها عمود الإسلام، والصبر امتداد منها، مع مافيه من حرارة الصبر ومغالبة شدائده؛ ناسب وصفه بالضياء.
وأنعم النظر، وأمعن الفكر في دقائق معجز البيان؛ تجد وصفه العميق الدقيق لنور المؤمنين في الآخرة، ليس فيه سمة الانتشار، وإنما فيه خصوصية الانحصار، على شخصه وحامله دون غيره، وذلك في قوله تعالى : (یَوۡمَ یَقُولُ ٱلۡمُنَـٰفِقُونَ وَٱلۡمُنَـٰفِقَـٰتُ لِلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ ٱنظُرُونَا نَقۡتَبِسۡ مِن نُّورِكُمۡ قِیلَ ٱرۡجِعُوا۟ وَرَاۤءَكُمۡ فَٱلۡتَمِسُوا۟ نُورࣰاۖ فَضُرِبَ بَیۡنَهُم بِسُورࣲ لَّهُۥ بَابُۢ بَاطِنُهُۥ فِیهِ ٱلرَّحۡمَةُ وَظَـٰهِرُهُۥ مِن قِبَلِهِ ٱلۡعَذَابُ) [سورة الحديد 13] .