لقد أنزل الله القرآن الكريم كتاب هداية للناس، فقال تعالى: {إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء : 9]، وضمنه رسالة الله الخاتمة إلى العالمين، {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ} [الأنعام : 19]، لذلك فهو كتاب مصدق لما بين يديه ومهيمن على غيره من الكتب، {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً} [المائدة : 48]، وجعله الله كتابا مبينا وعربيا {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يوسف : 1 – 2].
وإذا كان القرآن يحمل رسالة من الله، وكان المرسل إليهم هم جميع البشر من العالمين، في كل زمان ومكان، فإن سبل وآفاق فهم هذه الرسالة لا تنقضي، والمعني بالتعرف عليها كل إنسان، فالرسالة تقتضي مضمونا تحتويه، ومخاطبا يحلل هذا المضمون ويترجمه حسبما فهمه.
كلمات تتحدى المكنون
إذن فكل إنسان معني بالقرآن؛ لأنه يخاطبه ويتحداه، ويدخل إلى أعماقه، ويحلل نفسيته ليستفز مكنوناتها، ويجعل القارئ في صراع داخلي يدعوه إلى اتخاذ موقف جدي في حياته تجاه المبادئ التي يعرضها القرآن، وغالبا ما تنتهي رحلة الإنسان مع هذا الخطاب القرآني إلى الاستسلام والإقرار بالعجز والضعف، سواء أعلن القارئ استسلامه فصار مسلما، أم كتم ذلك في أعماقه.
هذا الأثر القرآني في نفس القارئ هو من طبيعة القرآن وعظمته وقوة تجليه التي تؤثر حتى في الجماد، {لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر : 21]، لكن هذا القلق الذي يعانيه غير المؤمن مع القرآن يتحول لدى المسلم إلى طمأنينة وخشوع وانسجام مع كلام الله وذكره، {الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد : 28].
هذه الصلة النفسية والمباشرة بين الإنسان والقرآن، والتي يستجلي القارئ من خلالها الرسالة الإلهية الموجهة إليه هي الواجب الأبسط والذي يقدر عليه كل قارئ، ويجب على كل فرد مسلم القيام به بشكل دوري، لا سيما من خلال تلاوة القرآن في الصلوات، والتعبد بتلاوة القرآن وحفظه، هذا وما دامت رسالة الله في القرآن مكتوبة ومقروءة فأول واجب نحو القرآن هو تعلم القراءة؛ لتلقي هذه الرسالة وفهم محتواها والعمل بمضمونها، لذلك كان الخطاب الأول في الوحي هو لفظ (اقرأ)، وسمي القرآن كتابا ليتلازم التدوين والمشافهة في التعامل معه والحفظ له، هذا هو الواجب المعرفي العيني على كل مسلم؛ إذ هو الحد الأدنى لممارسة العبادة الواجبة والتي لا تنفصل عن التعامل المعرفي مع القرآن، إلا أن الواجب العبادي الأهم هو الواجب المعرفي الكفائي الذي يجب على الأمة القيام به؛ ذلك أن رسالة القرآن ليست للفرد فقط إنما هي عالمية، وعالميتها تعني أنها ترتبط بكل ما للعالمية من معان وأبعاد وتجليات، فهي رسالة ذات مضمون إنساني وحضاري ينظم صلة الإنسان بالله عز وجل، ويربطه بالعالم المحيط به، ويقدم له رؤية للعالم تعكس التصور الإسلامي للحياة، وهذه التجليات القرآنية لا تتأتى لأي قارئ ولا بأي أدوات، وهي ليست من البساطة بحيث يمكن ارتجال معانيها بمطالعة معجمية، أو مراجعة تفسير معين، إنها أعمق من ذلك، وقد كان للمسلمين جهود لم تنقطع ولم تنته في سبر هذا البعد في كتاب الله العزيز.
منهج التعامل مع النص
ولاستجلاء أنماط الدرس القرآني ينبغي أن ننطلق من القرآن نفسه الذي يكشف تدبره عن مستويات منهجية تضبط مناهج التعامل معه، فثمة معطيات قرآنية ترسم إطارا لمنهج التعامل مع النص نفسه، بدءا من أوصاف التعامل مع النص[1 ]، حيث كانت أول كلمة أنزلت من القرآن ذات بعد منهجي في التعامل مع النص وهي (اقرأ)، ثم تتالت كلمات أخرى كالتلاوة، والترتيل، والتدبر.
فالأمر الأول بالقراءة هو أمر بتفعيل ملكة الإنسان في معرفة الأشياء وفهم سننها وقوانينها وروابطها، وأن يلحظ عند تفعيل هذه الملكة صلتها بالله عز وجل، فالقراءة تفكر في عالم الكون المخلوق، فهي قراءة للكون اقترنت باستحضار اسم الله معها؛ نظرا لاحتمال الغفلة عن الله في قراءة هذا الكون، تناظرها قراءة ثانية لما جمعه الله وعلمه بالقلم، وهي قراءة الوحي المنزل، الذي تكرم الله بإنزاله وجمعه وتعليمه؛ فقد أمر الإنسان بقراءته، وزيد في تحصين هذه القراءة أن يستعاذ بالله من الشيطان عندها {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل : 98]، والقراءة هنا تتجاوز التلفظ والأداء لترتقي إلى الفهم والجمع الذهني للمعاني كما يجمع اللسان الألفاظ، لذلك نجد القرآن يفرق بين مرتبتين عند تلقي قراءة الغير للقرآن {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف : 204]، الأولى: هي الاستماع الصوتي الذي يوصل الكلمات إلى الأذن، والثانية: هي الإنصات الذي يمكن المتلقي من تدبر المعنى والوعي به، إن هذا المعنى للقراءة (جمع المتفرقات مع الوعي بها)؛ إذ تتجه إلى الكون وإلى القرآن، كما هو الأمر في سورة العلق، لا يلغي استعمال القراءة بمستوى الأداء، فتكون فهما لمعانيه.
تجديد معنى التلاوة
أما التلاوة فالميل العام لدى اللغويين والمفسرين متجه إلى المرادفة بين التلاوة والقراءة، وقد لاحظ بعضهم فرقا بسيطا في الاستعمال؛ وهو أن التلاوة لا تكون إلا لكلمتين فصاعدا، لكن يمكن لحظ ما هو أهم من ذلك في معنى التلاوة، فالقراءة كأداء لفظي للآيات والنص القرآني هي تطبيق لأصل المعنى اللغوي للتلاوة وهو الاتباع والتتابع، ففي قراءة النص إتباع الألفاظ بعضها ببعض، هذا في الإطار الشكلي، أما في السياق العملي فهي الاتباع حقيقة وهو العمل بمقتضى النص ومعناه، وقد عبر عن هذا المعنى بالخصوص “حق التلاوة”(2)؛ ذلك أن نتيجة التلاوة الحقة وصف الإيمان، ونلحظ في معظم الآيات التي ورد فيها لفظ التلاوة باشتقاقاته المختلفة أن السياق يدل على احتمال المعنيين، وهو الأداء اللفظي وإتباعه بالعمل، فتكون التلاوة مرحلة أعمق من القراءة؛ إذ هي ترجمة للقراءة في السلوك والتطبيق، وعليه فلا ترادف بين القراءة والتلاوة، وإنما ارتقاء في درجات التعامل مع النص.
وفي معنى التتابع تأكيد لضرورة إدراك الروابط بين أجزاء النص واكتشاف المعنى، وبالتالي تحقيق معنى النص، فالتلاوة لا تكون إلا لنص، ومن ثم ترجمة معناه باتباعه، وفي اختيار هذا اللفظ للتعبير عن التعامل مع النص ملحظ مهم، وهو أن القرآن إنما أنزل ليتبع، واتباعه يقتضي قراءته قراءة منهجية تكتشف نظامه، بعد قراءة ألفاظه، ومن ثم متابعة هذه القراءة وترجمته إلى سلوك وتطبيق التلاوة.
التدبر منهاج وتلاوة
أما معنى التدبر كمدخل آخر للتعامل المعرفي مع القرآن، فيمكن أن نستنتج من المعنى اللغوي أنه هو التفكر الاستنتاجي الذي يعقب مقدمات، وهو خلاصة التأمل في معطيات معينة، فعندما يكون التعامل مع نص لا يسمى تأمل المعنى فيه تفكرا مطلقا، وإنما استخلاص معنى من معطياته، فكل تفكر في القرآن هو تدبر؛ لأنه مرهون بما يحتويه النص، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن التفكر في النص ينبغي أن يكون من داخله، وليس من افتراضات القارئ وأسبقياته، ويؤكد ذلك ما اقترن به أمر التدبر، وهو أن التدبر سيقود المتأمل إلى حقائق تكشف عنها بنية النص وتفاصيله، وهي كونه من عند الله وإحكام آياته ونفي الاختلاف عنه، وربط إدراك عدم الاختلاف في القرآن يشير إلى المستوى الأعمق في القرآن؛ حيث إن التعامل السطحي مع القرآن – كما يشير الإمام الرازي – قد يبدي للقارئ التباسا في ترتيب القرآن، “حيث يراه في ظاهر الحال مقرونا بسوء الترتيب، وهو في الحقيقة مشتمل على أكمل جهات الترتيب”، كما أن التدبر بما هو تفكر لا حدود له في معاني النص وحججه ومضامينه، فإنه غاية القرآن، وهو مفتاح الهداية، لذلك اقترنت الآيات باستنكار إعراض المشركين عن القيام به.
الترتيل تناسق
أما الترتيل فتشير الآيتان الوحيدتان[3 ] اللتان تحدثتا عنه إلى وصف وأمر، فالوصف يتعلق بنزول القرآن ونسب فعل الترتيل إلى الله عز وجل، أما الأمر بالترتيل فهو تكليف خوطب به النبي ﷺ، وأمته مكلفة بهذا الخطاب، وسياق الحديث في الآيتين يشير إلى أثر الترتيل في فهم القرآن وربط ألفاظه بمعانيه، واستشعار الجمال الشكلي والمعنوي فيه، وكل المعاني اللغوية المذكورة للترتيل تشير إلى خاصية التناسق والتفصيل والجمال، وأن الجمال يتجلى من خلال التفصيل والتبيين.
وبعبارة أخرى، فإن جمال الكل يتضح من خلال تفصيل الأجزاء والتؤدة في عرضها، وباستحضار هذه المعاني في ترتيل القرآن ندرك أن المقصود بالأمر بالترتيل هو التذوق الجمالي للقرآن بألفاظه ومعانيه، ومرتبة الترتيل تبدو أعلى من مراتب القراءة والتلاوة والتدبر؛ ذلك أنها ترتقي إلى مستوى من الذوق والفهم لا يدرك إلا بعمق، وربما لهذا المعنى الدقيق جاء الترتيل الإلهي المخبر به والترتيل البشري المأمور به مؤكدا بالمفعول النكرة الذي يفيد التعظيم.
إن مفهومات (القراءة- التلاوة- التدبر- الترتيل) كمداخل للتعامل المعرفي مع القرآن ليست من قبيل المترادفات كما تعامل معها معظم المفسرين، والفروق بينها ليست شكلية فقط، إنما تعبر عن مستويات منهجية لأنماط الواجب المعرفي تجاه النص القرآني، وكل مستوى يكشف عن جانب من معاني النص، وكلها تؤكد بعدي الجانب اللفظي والمعنوي وتلازمهما، سواء في الوعي الذهني أو السلوكي، فالبداية تكون من القراءة، وهي على مستويين، الأول: يقتضي السماع ويتبع بالتلاوة أداء وسلوكا، والثاني: يقتضي الإنصات ويتبع بالتدبر واكتشاف نظام القرآن ووحدة النص، وفي قمة المستويات نجد الترتيل الذي ترتقي إليه التلاوة فتكشف الجمال اللفظي للقرآن، أو يرتقي إليه التدبر فيكشف الجمال المعنوي، وقد يبدأ التعامل من الترتيل بعد استكمال الصعود إلى مستواه، فيرجع إلى المستويات الأخرى بالتفصيل والتأكيد.
الواجب مقدمات قواعد وشروط
إن هذه المستويات لأداء الواجب المعرفي تجاه القرآن وضع له المسلمون مقدمات وقواعد وشروطا يمكن من خلالها إتقان الحد الأدنى من الواجب تجاه القرآن، فنشأت العلوم الإسلامية على اختلافها بدافع الحرص على الفهم الأمثل للقرآن، واستقلت هذه العلوم واتسعت لتشكل حقولا خاصة يستمد كل علم منها عمقه وجدواه من خلاله صلته بالقرآن، كما سلك المفسرون طريق هذه العلوم ليثوروا من خلالها المعاني الكامنة في النص القرآني، حتى وصل الأمر بالإمام ابن عطية الأندلسي إلى القول: “كتاب الله لا يتفسر إلا بتصريف جميع العلوم فيه”[4 ]، وبالتالي فكل ما يستجد من علوم ومعارف يمكن بوجه أو بآخر أن تسهم في اكتناه معاني الكتاب العزيز؛ إذ هي في حدها الأدنى تسهم في تنمية ثقافة المفسر التي تؤثر بدورها في تفسيره، وكيفية تنزيله للنص في ظل المتغيرات.
لقد وضع المسلمون قواعد علم التجويد والقراءات لإتقان الأداء اللفظي والشكلي للقرآن، وأبدع أصحاب الأصوات الحسنة في القرن الماضي في إبراز جمال الاتساق اللفظي والتناسب الصوتي من خلال الأداء المتميز في تجويد القرآن، كما أبدع الخطاطون أيضا في إبراز جمال الخط العربي من خلال نسخ القرآن بأنماط من الخطوط تتنافس في جمالها، وانكب المفسرون يختصرون، ويشرحون، ويجمعون، ويؤلفون بطرق مختلفة لتقريب المعنى القرآني، ضمن نمط من التأليف لم يرتق إلى أنماط الأداء المعرفي في العصر الحديث والذي بلغ فيه المسلمون مستويات حققت جوانب أخرى من هذا الأداء في مجالات غير القرآن الكريم.
وقفة مع التراث
وما يزال تناول المسلمين للتفاسير يعتمد الجمع أحيانا والاختصار أخرى، والتحرير أو التنوير، وأنماطا أخرى كثيرة لكنها تكرر وتعيد دون أن تقدم نقلة نوعية في طريقة التعامل مع التراث التفسيري، بل إن وسائل الإخراج والطباعة الحديثة طورت أفكارا سطحية ذات بعد تجاري؛ فاستغل القرآن لأجل الربح من خلالها، دون أن تقدم إضافة في الواجب المعرفي تجاه القرآن إن لم تكن أساءت من خلال اختزال المعنى القرآني إلى رؤية يفسر من خلالها الناشر القرآن بتمييز آياته بألوان بحسب المعنى، والأنماط في هذا المجال كثيرة ومنتشرة، دون أن ترتقي الهمم إلى التحدي الأهم في التعامل الأعمق مع القرآن، وأعني هنا التعامل مع تراث هائل وثري تجمع حول القرآن الكريم طيلة أربعة عشر قرنا؛ فلم يصل المسلمون بعد إلى تقديم هذا التراث التفسيري ضمن نسق من التأليف جامع مانع، وما تم من جمع تفاسير كبيرة ظلت تحمل مشكلات التفاسير من حيث الاختصار والانتقاء والبعد الشخصي في التأليف، ولم تصل الجهود إلى موسوعة علمية تجمع كل ما قيل في تفسير القرآن في ضوء نسق تاريخي للأفكار، فيمكن للقارئ أن يقرأ تفسير آية في مرجع من القرن العاشر ويكون هذا الفهم موجودا في القرن الثالث، دون أن يميز بين الفهمين إلا من خلال المقارنة إن تم له الاطلاع على المرجعين؛ ذلك أن العزو قليل في تآليف السابقين، ولا يتأتي لغير الباحث أن يتتبع المعنى في مصادر التراث ليعثر على أول قائل به، بينما يغني عن ذلك وجود موسوعة علمية تقدم التراث التفسيري للقرآن بترتيب تاريخي يبدأ من التفسير النبوي، فتفسير الصحابة والتابعين، فمن بعدهم إلى العصر الحديث، بحيث يكون ترتيب هذه المعاني شاملا غير انتقائي، ولا يرتبط بصحة التفسير أو عدمه، إنما يقدم ما قيل، منسوبا إلى مصادره الموثوقة، وفق منهجية علمية صارمة، فتكون الموسوعة قد قدمت الشرط المعرفي لأي مفسر معاصر يبتغي تقديم إضافة، فيجد التراكم المعرفي في هذا المجال متوفرا أمامه.
وهذا النمط من العمل هو من الوضوح بمكان[5 ]، إلا أنه يحتاج إلى مؤسسات علمية ترعاه وتخلص له وتوفر له من العلماء والباحثين المخلصين والمتقنين ما يمكنهم من الشروع فيه، والغريب أن جهودا كبرى بذلت لموسوعات دون هذه الموسوعة حاجة، وأقل منها أهمية، وتم الصبر عليها عقودا، ولم يبادر إلى موسوعة تخدم القرآن كما يجب.
والأمر كذلك يشمل موسوعة أخرى تتعلق بتاريخ علوم القرآن ومصطلحاته، وكذلك المفهومات القرآنية والمؤلفات حول القرآن والتفاسير والمفسرين، فهذا تراث آخر ينبغي القيام بجمعه وتصنيفه، وتقديمه من خلال موسوعة مستقلة، لاسيما وقد صدرت باللغة الإنجليزية وفي الغرب موسوعة حول القرآن وعن دار نشر غربية[6 ]، ومن قبل باحثين من أنحاء متفرقة من العالم؛ وذلك لحاجة الغرب للتعرف على القرآن، فحري بالمسلمين أن يلبوا هذه الحاجة في ضوء شروط تضمن المنهجية العلمية، وتقدم واجبا معرفيا تجاه القرآن.
إن هذه الجهود لا يمكن أن يقوم بها أفراد أو مؤسسات صغيرة، إنما تحتاج إلى مؤسسة عالمية تتولى العناية بالواجبات المعرفية تجاه القرآن، وتقوم بجمع وتوثيق التراث التفسيري والبحثي حول القرآن، وتضع خططا للارتقاء بهذا الواجب من جوانبه المختلفة.
أخيرا..
إن القرآن كتاب الله الذي لا تنفد كلماته، ولا يخلق على كثرة الرد، نص أنزل على خاتم الرسل، وما يزال يثير الجدل في العالم، ويتحدى العالمين بما قدمه من رؤية تجسد الانسجام بين الإنسان والطبيعة والغيب والشهادة، لكن المسئولية التي ينبغي على المسلمين إدراكها أن يعرفوا قدر هذا الكتاب، ومعنى كونه وحيا من الله، وأن يتعاملوا معه على أنه رسالة للعالمين وليس كتاب المسلمين فقط، ولن يتم ذلك ما لم يصل المسلمون إلى إتقان لغة العلم التي يتخاطب بها العالم، وأن يستثمروا العطاء الإلهي للبشر فيما أوتوا من معارف للارتقاء بمعارفهم وثقافتهم، واستثمار هذه النعم في فهم كلام الله عز وجل، وتقديمه إلى العالمين بلغة يفهمونها، ويستطيعون من خلالها أن يجدوا الحافز ليتعرفوا على هذا القرآن ويتعاملوا معه معرفيا.
عسى أن يكون شهر رمضان (شهر القرآن) فرصة لاستذكار هذه الواجبات تجاه القرآن، فيتم الانتقال من التعبد الشكلي بالقرآن إلى التعبد المعرفي العيني والكفائي، من خلال قراءته وتلاوته وتدبره وترتيله.
[1] لاحظت ذلك من خلال دراسة سق وقمت بها بعنوان: المستويات القرآنية لمنهج التعامل مع النص، بحث قدم لنــدوة: “مناهج الاستمداد من الوحي” التي نظمتها الرابطة المحمدية للعلماء بالمغرب، وانعقدت في مدينة تطوان بالمغرب، في: 27-28 صفر 1429هـ، الموافق لـ: 5-6 مارس 2008م، وقد نشر في مجلة “الإحياء” التي تصدرها الرابطة، العدد:28/2008
[2] “الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُوْلَـئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمن يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ” (البقرة : 121)
[3] “أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْءَانَ تَرْتِيلًا” (المزمل:4)، “وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْءَانُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا”(الفرقان:32)
[4] ابن عطية الأندلسي، المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، تحقيق: عبد السلام عبد الشافي محمد، ط:1- دار الكتب العلمية – لبنان – 1413هـ – 1993م، ج1 ص35
[5]سبق أن شاركت في وضع تصور أولي لموسوعة من هذا القبيل لكن لم تجد متحمسا لها.
[6] Encyclopaedia of the Quran, g.edit Jane Dammen McAuliffe, ,Leiden:Brill.