نظم مركز دراسة الإسلام والديمقراطية مؤخرا ندوة تحت عنوان “دور الأئمة والمساجد في التوقي من التطرف” نشطها مجموعة من المهتمّين بالشأن الديني للبحث المشترك عن الحلول الكفيلة للتوقي من هذه الظاهرة.
افتتح اللقاء السيد ماهر الزغلامي (باحث في علم اجتماع الدين وهو مسير الجلسة) الذي أكد على ضرورة الاشتغال على تأهيل الأئمة وتحييد دور المساجد والكف من الخطابات الإنشائية لمزيد من الفاعلية في التصدي لهذه الظاهرة الخطيرة.
افتتح المداخلات الدكتور احميدة النيفر الذي أكد على ضرورة إعادة بناء الخطاب المسجدي وتأسيسه ليكون بديلا للتصدي للتطرّف الذي يعدَ ظاهرة معقدة تتداخل فيها مجموعة من العناصر الثقافية والايديولوجية والاجتماعية والمعرفيّة. و قد اعتبر الدكتور النيفر أن التعرض إلى الخطاب الأول للتكوين الذي قام عليه الخطاب المسجدي في الإسلام على غاية من الأهمية لفهم مركزية المسجد في الحضارة الإسلامية.
فخلال المؤسسة القرشية القديمة وقبل بناء المسجد بلغت المؤسسة القبلية حالة من العجز والانقسام وفقدان الفاعلية. أما في العهد النبوي، فقد كان للمسجد المكانة المميزة للعبادة الجماعية والخطاب الذي يشير إلى ظهور الجذر الموحّد للجماعة.
ضرورة معرفة الإمام الخطيب للتحدي الرئيسي الذي يواجهه والمتمثل في فئة الشباب وكيفية التواصل مع عالمه
و قد أكَد الدكتور احميدة النيفر على ضرورة إدراك خصوصية المرحلة التي تأسس فيها الخطاب المسجدي في العهد النبوي ونوع الخطاب المعتدل والسائد في تلك الفترة. وفي هذا السياق أشار الدكتور إلى العناصر المبدئية الأساسية التي ينبغي الانتباه إليها للتوقي من آفة التطرف. ونبّه إلى أن أزمة الخطاب المسجدي تتداخل فيها عوامل محلية وأخرى عالمية.
أوَلا، يجب بناء المعرفة الشرعية والوعي المتجدد للإمام الخطيب ليكون واعيا بما يجري في المجتمع والعالم وبلورة وسائل عمل فعَالة، متطورة وناجعة في ثلاثة مجالات داعمة أساسية إضافة إلى العلم الشرعي، وهي المعرفة بالتاريخ لئلا يكون كلام الخطيب بعيدا عن الواقع، والمعرفة بعلم الاجتماع وأخيرا المعرفة باللغة العربية. فقد بيّنت الإحصائيات أن انضمام بعض الفئات إلى الفرق الدموية ليس نتيجة تأثير الجامع بل نتيجة وسائل أخرى من بينها نوع الخطاب الموجَه نظرا إلى اختلاف تفاسير الآيات والأحاديث والتفاعل مع الواقع.
ثانيا، ضرورة معرفة الإمام الخطيب للتحدي الرئيسي الذي يواجهه والمتمثل في فئة الشباب وكيفية التواصل مع عالمه (لغته ، وتفكيره، ومزاجه وطبيعة فهمه) مع التأكيد عل التركيز على خطاب مسجدي ناجع يلفت انتباه الشباب ويحلَ مشاكله.
ثالثا، التمكَن من وسائل التواصل الاجتماعي ولوازمه والمختلف عن التواصل الإرغامي والإكراهي وإنشاء خطاب مختلف نظرا لتنوع مآرب الحاضرين وعدم العزف على وتر واحد. بالإضافة إلى تطوير كفاءة الإمام وتثقيفه رقميا أي إطلاعه على وسائل الاتصال الحديث.
رابعا، تجديد الهوية الجامعة لكل أفراد المجتمع، لبناء واقع مغاير أكثر رقيّا وإبراز الديناميكية في البعد الديني الإيماني والاجتماعي للإمام والجامع.
خامسا، ضرورة تكوين القائمين على الشأن الديني رؤية ومرجعية دينية جامعتين و الحصول على دليل موحّد يراجع بين الحين والآخر، مشيرا إلى أن الشأن الديني في تونس متشرذم منذ عقود.
للإمام والمسجد مهمة وطنية، لذلك من الضروري طباعة مخطط عمل لبناء رؤية استراتيجية تقي من التطرف
وفي آخر مداخلته، أكد الدكتور حميدة النيفر على أن للإمام والمسجد مهمة وطنية، لذلك من الضروري طباعة مخطط عمل لبناء رؤية استراتيجية تقي من التطرف الذي يُعد عملية همجية وله فكرة موحّدة. مؤكدا على مهمّة الدولة المتمثلة في تطبيق القانون في المسألة الدّينية، وفي مقابلها انضواء الإمام تحت راية المجتمع بقطع النظر عن الايديولوجية.
المداخلة الثانية كانت للدكتور منير رويس مدير المعهد العالي لأصول الدين بجامعة الزيتونة ، تطرق فيها إلى الدور التاريخي الهام للزيتونيين في التصدي للتطرف حيث عالجوا قضايا ذلك الزمن ومسائل التفرقة وسبل معالجتها ونزعوا كل الشوائب التي تمهد للانقسامات كالفتن القومية والملية كالملك والسيادة وبين المذاهب الدينية، ذاكرا العديد من المؤلفات القيّمة التي ساهمت في هذا المجال .
وقد ردَ السيد منير رويس على الاتهامات التي طالت الجامعة الزيتونية مؤكَدا على أن لا علاقة للمتخرجين من هذه الجامعة بالأعمال الإرهابية علما وأنه يتخرج من الجامعة نسبة ضعيفة من الأئمة والخطباء. كما أشار السيد منير رويس إلى دور جامعة الزيتونة كرمز للاعتدال والتسامح ويظهر ذلك على مستوى البرامج التعليمية وتطوّر نسق الجامعة وذلك من خلال عدم الاكتفاء بتدريس المواد الشرعية بل تمّت إضافة المواد المكملة، كاللغات، والتاريخ والقانون الإنساني الدولي. كما يتمّ تأطير الطالب في نشاط فكري وثقافي حتى تملأ أوقات الفراغ وتحدّ من إمكانية تطرّفه.
استهداف القرآن والسنة النبوية هو نوع من التطرّف واستفزاز لمشاعر المسلمين وخرق للدستور، والإمام ضحية من ضحايا التطرّف
وقد أشار السيد منير رويس إلى أن كلّ الأطراف الوطنية مسؤولة عن هذه الظاهرة والتصدّي لها وأن جامعة الزيتونة غير قادرة وحدها على الحدّ منها.
وفي آخر مداخلته أكد السيد رويس على أن جامعة الزيتونة لعبت دورا هاما في تأطير الأئمة من خلال إنشاء المعهد العالي للخطابة والإرشاد سنة 2012 بالتعاون مع وزارة الشؤون الدّينية ووزارة التعليم العالي، غير أن المشروع تعطل و لم يستأنف عمله.
وفي المداخلة الثالثة، أكّد الكاتب العام المساعد للمجلس الوطني للأمة وإطارات المساجد السيد رضا الجوّادي على أن المسألة تتعلق بالتوقي وليس المعالجة ومنع استفحال الظاهرة معتبرا أن التطرف هو البعد عن الاعتدال في أيّة ممارسة من الممارسات مشيرا إلى أن الواقع التونسي يحمّل الأئمة أكثر ممَا يتحمّلون. فالخطاب الذي لا يتجاوز30 دقيقة لا يمكن أن يكون مؤثرا لتلك الدرجة التي تبلغ التطرف الكلّي.
كما أشار السيد رضا الجوادي إلى أن َ استهداف القرآن والسنة النبوية هو نوع من التطرّف واستفزاز لمشاعر المسلمين وخرق للدستور، مؤكدا على أن الإمام ضحية من ضحايا التطرّف، وهو محور مستهدف من النخبة المثقفة في تونس. فالتعصب المذهبي والتعصب السياسي ومحاولة اختطاف المؤسسة الدينية، يؤثر سلبا على دور الأئمة. كما أن الإمام هو ضحية قوانين تشريعية لا بدّ من مراجعتها مثل قانون 1988 الذي يدخل في تجفيف منابع الدين في تونس الذي يبرز وجود إرادة مقصودة لتهميش دور الأئمة.
و دعا السيد عبد السلام عطوي كاتب عام النقابة العامة للشؤون الدينية في الداخلة الرابعة، إلى مراجعة متطلبات دور الداعية الديني الثقافي والأخلاقي وضرورة التكوين الصلب للإمام، مشيرا إلى الوضع الاجتماعي الصعب للإمام وغياب الأطر القانونية مما يمنع معرفة الإمام للحد الفاصل بين واجباته وحقوقه (الشأن الديني تسيّره بعض المناشير).
النظر إلى التطرف لا بدّ أن يكون بنظرة شاملة وعدم الاقتصار على الجانب الدّيني، ودور المسجد والإمام على غاية من الأهمية لمواجهة هذا التطرف
كما أشار السيد عبد السلام عطوي إلى ضرورة رفع التحديات التي تعترض الإمامة وهي غياب الاختصاص في بعديه العلمي والتفرّغي، وعدم اعتماد الأساليب التربوية المعاصرة، علاوة على تشتت الإمام بين حياته الخاصة وعمله والخطابة.
وختم السيد عبد السلام عطوي مداخلته بالإشارة إلى عجز الدولة عن تكوين الأئمة والخطباء، مؤكّدا أنّ بعض الإحصائيات أثبتت أنّ التونسيين متأثرون بالسياسيين وليس بالأئمة.
المداخلة الاخيرة كانت للسيد رمضان الشرميطي كاهية مدير بالتفقدية العامة بوزارة الشؤون الدينية والتي أكد فيها على أن النظر إلى التطرف لا بدّ أن يكون بنظرة شاملة وعدم الاقتصار على الجانب الدّيني، علما وأن دور المسجد والإمام على غاية من الأهمية لمواجهة هذا التطرف. فالمسجد هو الملاذ الذي يحقق التوازن في المجتمع وهو من المقدّسات التي لا يجب أن تنتهك. كما أشار السيد رمضان الشرميطي الى ضرورة تكوين الأئمة تكوينا شاملا لملء الفراغ والأماكن الشاغرة في المساجد، مع ترك مجال من الحرّية للإمام والتخفيض من المحاذير والممنوعات في اختيار المواضيع وترك السلطان للقرآن والسّنة.
و خلال النقاش، أكَد العديد من المتدخلين على دور الدولة في تهميش الجانب الديني ومثال ذلك عدم العناية بمادة التربية الإسلامية في المستويين الابتدائي والثانوي. كما أشار البعض من الحضور الكريم إلى أن من مهام وزارة الشؤون الدينية تحديد آليات حقيقية تؤطر الأمام ومهامّه و تحديد الجهة الرسمية التي تقيّم أداء الإمام على المنبر.
من الضروري تأسيس مؤسسة محايدة تقيم حوارا وطنيا لإحياء المخزون التراثي المعتدل اليوم، دون التعرض لضغوطات حزبيّة وسياسية ضيّقة
وفي إطار دفاعها عن الشباب، اعتبرت متدخلة شابة أن الخطاب الديني المتداول بعيد كل البعد عن فكر الشباب مؤكدة على أنه ليست فقط العلمانية غير ملمَة بالمعرفة الدينية، فالطرف الآخر أيضا لم يبلغ بعد النضج الديني التوعوي. ومن خلال تدخله أكد السيد مراد الرويسي على التسريع في تحديد المفاهيم (الامام، التطرف) وحسن تعريفها ليتمّ الاتفاق.
كما اعتبر أنه من الضروري تأسيس مؤسسة محايدة تقيم حوارا وطنيا لإحياء المخزون التراثي المعتدل اليوم، دون التعرض لضغوطات حزبيّة وسياسية ضيّقة. أما السيد محمد أحمد ساسي فقد أكَد على الآليات العقلانية للجمع بين الناس رغم اختلاف ايديولوجياتها مستدلا على أن في الغرب عنصر التنمية البشرية يجمع بين مختلف المنتمين إلى كلّ الأديان السماوية وغير السماوية. كما أن في القرآن الكريم العديد من الآيات التي تجمع بين الناس على اختلاف مرجعياتهم.
و في إطار التفاعل، عرَف الدكتور حميدة النيفر التطرف على أنه إلغاء أي نسبة من الحقيقة عند الآخرين، مؤكدا على وجود أنواع من التطرف وخاصة اليسار المتطرف والذي لا نستطيع التغلب عليه إلاّ إذا أصبح لدى الإسلاميين خطاب ديني إنساني وليس خطابا مغلقا، وتكوين عقلية الانصات واحترام الآخرين. كما دعا السيد عبد السلام عطوي إلى حوار وطني فيما بين الأطراف الوطنية لتخفيض الفوارق المفاهمية والديّنية والايديولوجية فيما بين التونسيين.